الأوضاع في كندا عموماً تضيق ودخل الأفراد أخذ يشح (Getty)
"أموال المغتربين" حقيقة قديمة تتجدّد مع أجيال المهاجرين من لبنان، آخرهم شبّان وشابات قدموا منذ وقت قريب إلى كندا، وتحديداً إلى مونتريال، بحثاً عن استقرار ومستقبل أفضل في الدراسة والعمل.
لم يكونوا خطّطوا للعب دور المعيل لذويهم في الوطن الأم، إثر تفاقم الأزمة الاقتصادية في 2019 واحتجاز المصارف أموال الجميع، مقيمين ومهاجرين. كثيرون من هؤلاء الشباب انخرطوا في أعمال إضافية لتدعيم الدخل ومساندة العائلة هناك، ما بات يؤثر سلباً على بناء مستقبلهم في الغربة، خصوصاً في بلد مثل كندا، غنيّ ووافر الخدمات الاجتماعية، لكنّه مصاب بتضخم مخيف وضرائبه قاسية وغلاء معيشته آخذ في التحليق وعملته تنخفض أمام الدولار الأميركي.
تقاليد العلاقة بين الداخل والخارج
وليست مساعدة المقيمين على أنواعها وطرق تدفّقها جديدة على اللبنانيين. فهي تقليد راسخ، إن جاز التعبير، لأهالي "سوريا الكبرى"، كما كانت تُعرف المنطقة، يعود إلى ما قبل نشوء لبنان الكبير في 1920. وليست جديدة الهجرة بهدف مصارعة جرائر الفقر والنزاعات بحثاً عن حياة جديدة، كريمة إذا أمكن. وتشهد على ذلك كتب التاريخ ودراسات علمية وروايات أدباء وقصائد شعراء وحكايات الناس وسُعاة البريد والمكاتيب.. وأصداء الزغاريد تبشيراً بوصول الحوالة من الإبن البكر في سيراليون، أو بتسلّم "الناولون" لسحب ابن العمة إلى فنزويلا أو بطلب يد ابنة الخال إلى سيدني… أما كتاب الجغرافيا المدرسي فوضع "أموال المغتربين" في المرتبة الرابعة كمصدر من مصادر دخل الفرد، بعد التجارة والزراعة والصناعة. ولعلّها (أي أموال المغتربين) ارتقت أخيراً إلى مرتبة أعلى بسبب استمرار الأزمة وتفاقمها، على الرغم من وجود مصادر دخل ضخمة ملتوية خفية أخرى.
وموضوع أن "مهاجرين يساعدون ذويهم في الوطن" قد لا يستحق الذكر لأن تلك "المساعدة" تُعَدّ أخلاقياً أمراً بديهياً والتزاماً عائلياً، تمليه رابطة الدم والإخلاص والعاطفة. وما دام الأمر كذلك، فلا أحد ممن قابلتُهم يتذمّر، ظاهرياً على الأقل، ولا أحد يرغب في ذكر اسمه في متن هذا التقرير حياءً من الذين يتلقون دعمهم المادي والعيني. فما الداعي إذاً لطرحه؟
في طرحه كشفٌ لمشكلة مستفحلة تبدأ من ابتزاز السلطات في لبنان المقيمين والمهاجرين على حد سواء، بعاطفتهم تجاه أحبائهم، وتحويل ما هو أخلاقي وبديهي وتلقائي (كمساعدة الأم مثلاً) إلى عبء.
ثم تعمد السلطات إلى استباحة تلك المساعدات، القديم منها خصوصاً، باحتجاز الأموال في المصارف وتقتير سحبها من جهة. ومن جهة أخرى، برفع الضرائب والرسوم وإباحة الغلاء، لشفط الجديد منها. ولا تنتهي هذه المشكلة بتنصّل السلطات من مسؤولياتها حيالهم، ولا بمحو ما تبقى من "اسكتش دولة" حسبناها سويسرا الشرق زهواً بالاخضرار الذي ما لبث أن ذوى ويبس.
والأدهى أن المسؤولين يتباهون بأن لبنان يصّدر اليد العاملة الماهرة مقابل تحويلات شهرية، يرسلها هؤلاء من تلقائهم (ومن دون منّة) السياسيين الذين، إضافة إلى ذلك، يطالبونهم بإرسال أصواتهم الانتخابية لضمان البقاء على العروش.
واللافت أن جميع الذين قابلتُهم حول هذا الموضوع بدأوا الحديث بـ"كل عمره لبنان هكذا". ولكنْ، أليست مشكلةً كبرى وعويصة أن يكون لبنان هكذا كل عمره؟
أموال الشباب الجدد
يتزايد عدد الشباب الآتين حديثاً إلى مونتريال وتُسمع أحاديثهم بلهجاتهم المختلفة في كل أرجاء مدينة اللغات الكثيرة هذه. وفي المقابل، هناك من بينهم من بدأ يبحث عن سبلٍ لمغادرة غربته الحالية إلى غربة "أكثر دخلاً". ومجمل هؤلاء عيونهم على دول الخليج، كما ألمح شاب مدير مؤسسة، الذي لا يتوانى عن مساعدة ذويه. وهو أوضح أن الأوضاع في كندا عموماً تضيق ودخل الأفراد أخذ يشح، فهناك مثلاً "من يقطن استديو صغيراً ويؤجّر نصف سريره لاقتصاد المال".
وتشكّل أموال هؤلاء الشباب غيضاً من إجمالي "أموال المغتربين" المتدفقة إلى الوطن. فقد وصل مجموع تلك الأموال إلى ما بين 6 و7 بليون دولار سنوياً، حسب تقرير 2023 عن برنامج التنمية للأمم المتّحدة. والرقم يحتاج إلى تدقيق بسبب تفاقم الأزمة في لبنان وارتفاع غلاء المعيشة والضرائب وغياب الضوابط، وتالياً الحاجة إلى مزيد منها.
ويصل هذا الرقم إلى نحو 37% من إجمالي الناتج المحلي، وفق التقرير المذكور. وهي النسبة الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، علماً أن 11% من قيمة التحويلات إلى لبنان تذهب كـ"تكاليف عمليات إرسالها"، وهي أيضاً النسبة الأعلى في العالم مقارنة بمعدّلها الاعتيادي 6% فقط.
أما معدّل ما يؤمّنه واحد من هؤلاء "المعيلين الطارئين" لذويه يراوح بين 200 و500 دولار أميركي شهرياً (× 1.35 بالدولار الكندي) لتوفير أساسيات العيش الضرورية، أي الماء والكهرباء والصحة. وهي وتيرة استجدّت بعد 2019. فقبل ذلك كانوا يلبّون الحالات الطارئة فقط، كمساعدة بسيطة كجزء من ثمن ترميمة أو علاج أو جدار دعم أو قسط مدرسي..
غير أن ما يجعلهم على أهبتهم طوال الوقت، هو إيجاد السبل لتوفير المبالغ الكبيرة الطارئة، كعطل جسيم في السيارة أو التأمين الصحي. وهذا الأخير تُقدّر كلفته في لبنان "بين 2000 و8000 دولار أميركي"، حسب الفئة العمرية. وهو الأمر الذي "يوقع كثيرين من هؤلاء الشباب في دوامة الديون وسدادها، ثم الاستدانة من جديد اضطراراً إلى مزيد من الأموال"، كما يقول الباحث الشاب الذي شارك في المقابلات.
أكثر من وظيفة
والذي يحصل مع هؤلاء المهاجرين الجدد إلى مونتريال في سبيل التأمين الصحي لأهلهم في لبنان، إضافة إلى التحويلات الشهرية وفضلاً عن الاستدانة، هو أن الصبية الموظّفة وأخاها المهندس مثلاً يحرمان أنفسهما من العلاوة السنوية، bonus، التي يحصلان عليها من عملهما، وهما لا يريان مستقبلهما زاهراً إذا تقدّما في العمر واستمرت الأزمة في الوطن. والصبية المحامية أخذت تعمل في وظيفتين، راتب إحداهما لنفسها وراتب الأخرى لأهلها، فخبت رغبتها بالسفر ومشاهدة الدنيا. ولفتت أيضاً إلى أن غلاء تذاكر السفر يكبح اللهفة للتوجّه إلى لبنان في كثير من الأحيان. والباحث السابق الذكر إياه يتعامل مع مؤسسات في بيروت إضافة إلى عمله في مونتريال، ويبقي ما يقبضه هناك من دولارات فريش لذويه.
وصاحب السناك ترك غلّة مطعمه في الضاحية لوالديه واكتفى بدخل سْناكه في مونتريال، مع اضطراره أحياناً إلى إرسال مبالغ إسناد.
وتلفت الفنانة التشكيلية إلى أنها كانت تساند أمها بائعة الأزهار مادياً بمبلغ شهري من عملها كنادلة في المقاهي خلال دراستها في بيروت قبل الهجرة، ولم يختلف الأمر عليها بعدها. وحالياً، تتعاون مع أختها المقيمة في مهجر آخر على جمع "المبالغ الصعبة للملمات الصحية"، كما قالت.
وبهذا تلقي الفنانة الضوء على أقرانها وقريناتها المقيمين الذين لا يألون جهداً لمساعدة ذويهم أو إعالتهم، فهي ترى أنه بات للجميع في الداخل والخارج المهمة نفسها، مع فارق أن المقيمين يعانون وطأة المعيشة وأسلوبها وشح الموارد وصعوبة التدبر وغياب الخدمات الصحية والاجتماعية.
غزوات متاجر كوستكو في مونتريال
يقول الباحث الشاب عما سبق، إن بنية الاستهلاك كانت ولا تزال تقوم على تحويلات المغتربين. وكانت تستخدم لتنشيط حركة الأسواق (الاستهلاك) ولإيداعها في المصارف لمجرد حفظها (مع فوائدها) أو لصرفها على استثمارات مفيدة. ويضيف، إنه بعد الأزمة وحبس الأموال في المصارف، صارت التحويلات تقفز فوق جدران المصارف وتستقر مباشرة في أيدي المرسَل إليهم. وتالياً، زادت السيولة في جيوب هؤلاء. لكنْ في الوقت نفسه، فُقدت السلع والمنتجات لأسباب كثيرة، منها الاحتكارات وجشع التجار.
ومع انهيار القطاع الخاص، تحلّلت شبكات الحماية، ومنها العلاج المجاني أو شبه المجاني على حساب وزارة الصحة، التي شكلت قبل الأزمة معقلاً لتدعيم الزعامات على أنواعها، ما أدّى إلى انفراط نظام المحسوبيات، كما قال. وترافق ذلك مع تعاظم التبعية للأحزاب كشرط للحصول على بطاقات تموينية لتأمين السلع اليومية. وهو الأمر الذي قوّض أي فرصة لتضامن اللبنانيين في وقوفهم ضد مسببي الأزمة الفعليين. تضامن كان غائباً أساساً بسبب تركيبة الطائفية في الداخل اللبناني وبين المغتربين عموماً.
ومن منّا لا يذكر الارباك الذي أصاب ولا يزال اللبنانيين في تدبّر الأدوية المفقودة، منها أدوية السرطان، والسلع الضرورية الأخرى كالفوط الصحية للنساء التي لم تحظَ بالدعم، وحليب الأطفال وغير ذلك الكثير، فضلاً عن الفيتامينات، و"البنادول" الذي غصّت مواقع السوشال ميديا بالمحتاجين إليه وبمدبّريه، إحساناً أو مدفوعاً، من الصيدليات في لبنان ومن تركيا وبلدان أخرى، منها كندا.
وفي مونتريال تحديداً، شنّ ويشن اللبنانيون واللبنانيات غزوات على متاجر كوستكو المعروفة، لأسعار سعلها المتهاودة، بهدف تأمين الفيتامينات والمكمّلات والتيلينول (دواء كل داء في المِحَن) ومجمل العقاقير التي لا تحتاج إلى وصفة طبيب؛ ناهيكم بشتى أنواع الألبسة للكبار والصغار والأجهزة الإلكترونية. وما وصف ذلك التهافت اللبناني على متاجر كوستكو بالغزوات، في وقت من الأوقات، إلاّ بسبب منظر رفوفها شبه الفارغة بعد "الهجوم".
وينهي الباحث حديثه بالإشارة إلى أن المغتربين إنما يوفّرون الدعم المادي، والعيني خصوصاً، لذويهم في لبنان، مواكبين في ذلك ثلاثة أجيال: 1. كبار السن من الأهل (كالجَدّين والوالدين) حفاظاً على صحتهم وحياتهم (حيث الغياب التام للدولة)، و2. المجايلون كالأخوة والأخوات لدعم معيشتهم ويومياتهم، وأخيراً، 3. الأبناء، مراهقين وأطفالاً، بغية انتشالهم من خمول فكري وثقافي محتمل جداً عبر إبقائهم على اطّلاع بالمستجدات، كل أنواع المستجدات التكنولوجية (ألعاب وأجهزة إلكترونية) والمعرفية (كتب وحسابات مدفوعة لمواقع تثقيفية وترفيهية) وحتى لمواكبة آخر صرعات الموضة الشبابية (تيشرتات وأحذية رياضية..). ويختم "دعم الصغار شرط لتحفيز الأمل".
تعليقات: