أزمات متتالية واجهت الاقتصاد اللبناني منذ اندلاع الحرب السورية وما تبعها من موجات نزوح وأعباء اجتماعية واقتصادية، وصولاً إلى انهيار الليرة وضياع الودائع وتخلّف الدولة عن دفع ديونها الخارجية، ثم جائحة كورونا، وكارثة انفجار المرفأ، وسط شلل القضاء والإدارات الحكومية بسبب الإضرابات، فضلاً عن الشغور الرئاسي وغيره من المراكز الحيوية، مروراً بحربَي اليمن وأوكرانيا، وصولاً إلى الحرب في غزة وتداعياتها في البحر الأحمر وجنوب لبنان. ما زالت نتائج هذا الأزمات المتراكمة ماثلة، ومؤثّرة، وإن بدا أن بعضها قد انتهى بمرور الزمن. وكما في كل الأزمات، يدفع الاقتصاد بقطاعاته كافة الثمن الأعلى، مع تراجع حجم الأعمال، وتنامي معدلات الهجرة، وتدنّي مستوى الدخل والمعيشة.
وبينما تكافح قطاعات الإنتاج للصمود في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة، جاءت الزيادة على أسعار الكهرباء لتفاقم معاناتها، ولتطرح مرة جديدة، مسألة التوجهات الاقتصادية للحكومة، وحقيقة تخلّي الدولة عن مسؤوليتها تجاه دعم المنتجين المحليين ومساندتهم.
فمع رفع الدعم كلياً عن مؤسّسة كهرباء لبنان، واعتماد خطة التعافي الهادفة إلى زيادة ساعات التغذية وتحقيق الاستقلالية المالية للمؤسّسة، أقرّت الحكومة حزمة من الزيادات على رسوم الاشتراك وتعرفة الكيلوواط، أدّت إلى ارتفاع سعر الكيلو بمعدل أربعة أضعاف تقريباً، من 7 سنتات قبل الأزمة إلى 26 سنتاً حالياً، كما ألغيت مختلف التسهيلات والامتيازات التي كانت ممنوحة للأعمال (توتر متوسط)، فجاءت الفواتير خلافاً لكل التوقعات بأرقام عالية جداً، وقد ظهرت آثار تلك الزيادة بحدّة في المناطق التي تتغذّى من معامل الليطاني الكهرومائية والتي تستفيد من ساعات تغذية تصل إلى عشرين ساعة يومياً، إذ تجاوزت الفاتورة الشهرية لأحد معامل الحجر مبلغ ملياري ليرة لبنانية.
وبالمقارنة مع أسعار الكهرباء عالمياً، تعدّ التعرفة الجديدة من بين التعرفات الأعلى، وهي الأعلى إذا قورنت بمستوى الدخل بين لبنان وغيره من الدول المتقدّمة التي تتنافس في ما بينها لتقديم أفضل التسهيلات لصناعاتها المحلية وتبذل جهوداً جبارة لحمايتها وتوفير متطلبات نموّها وفتح الأسواق الخارجية أمامها، بغية تفعيل إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي.
لا شك بأن هذه الزيادة الباهظة ستنعكس سلباً على كلفة الإنتاج وستضعف القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية، فضلاً عن آثارها المباشرة المتمثّلة في ارتفاع أسعار السلع والخدمات وزيادة مستوى الفقر وإغراق الأسواق بالبضائع المستوردة، والتسبب بإغلاق العديد من مؤسّسات الإنتاج وتسرّب اليد العاملة الماهرة، فضلاً عن تأثيرها على تدنّي حجم الاستثمارات الجديدة، وخصوصاً في الأعمال التي تشكل كلفة الكهرباء فيها نسبة عالية من إجمالي أكلافها الإنتاجية، ومنها على سبيل المثال مصانع الحجر والحديد والنايلون، وأيضاً البرادات الزراعية ومعاصر الزيتون والمستشفيات والمطاعم والفنادق والمطابع والسوبرماركات وغيرها.
وفيما تتعالى نداءات أصحاب المصالح لمراجعة التسعيرة الجديدة مع تمنّع العديد منهم عن الدفع، وإعلان البعض توقفهم عن العمل، توجّهت الانتقادات إلى سياسة مؤسّسة كهرباء لبنان ومعها اللجنة الوزارية المتابعة لشؤون الكهرباء، لسعيهم من خلال فرض هذه الزيادة الكبيرة، إلى تعويض كلفة الهدر من الطاقة المنتجة والمقدر بنحو 40% وتحميله للمشتركين النظاميين كحلّ بديل من تقاعس المؤسّسة أو عدم قدرتها على تحسين نسبة الجباية وضبط الهدر والتعديات على الشبكة.
وعليه، تضاف مشكلة التعرفة الكهربائية المرتفعة إلى جملة المشاكل التي تحتاج إلى حلّ فوري وجذري، وإلى نظرة علمية وموضوعية لأهمية دور الكهرباء في زيادة حجم الإنتاج المحلي والحدّ من أزمة البطالة، تجنّباً لمزيد من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية السلبية، وحماية لما تبقّى من قطاعات الإنتاج الوطنية.
* باحث اقتصادي
تعليقات: