من الأرشيف جان عزيز وميشال عون والسيد حسن
لم يكن ميشال عون يعرف، ولا يتوقع، أن تأتي زيارته التاريخية لطهران في حمأة الأزمة المالية الدولية الراهنة، ولم يكن يحسب إطلاقاً، حين قرّر تلبية دعوة القيادة الإيرانية، أن يصل إلى إيران يوم الأحد، الذي تحيا فيه دول الخليج حالة ذعر، من جرس صغير يعلن فتح بورصاتها. فيما دول العالم الرأسمالي، العريق منها كالنمسا، أو الحديث الرسملة، مثل روسيا، يعلن رسمياً إقفال هستيريا الأسهم المنعدمة الوزن.
ولم يكن يأمل عون أن يذهب إلى عاصمة «برسيبوليس» التاريخية، في زمن يعيد العالم حساباته حيال العولمة وآلياتها ومؤسساتها، وتكاد أوروبا تعلن رسمياً ندمها على ماستريخت وعودتها إلى الدولة ـــــ الأمة.
قبل هذه الأزمة، كان الجنرال يعرف أهمية إيران اللبنانية، والإقليمية والدولية. وكان يدرك دقة ما قاله كريم بقرادوني يوم زار طهران مطلع التسعينيات، من أنه حين يأتي اليوم الذي يشهد الغزل الإيراني الأميركي و«زمن عسلهما»، سنكون في حاجة إلى وساطة طهران، للتكلّم مع واشنطن.
وقبل هذه الأزمة، كان يدرك عون العسكري المحترف، أهمية الجغرافيا السياسية، وثباتها في الموازين والوقائع والحقائق. وكان يستنتج بالتالي، أن دولة تلامس كل جبابرة العالم تقريباً، من الهند والصين، إلى روسيا وأميركا، لا يمكن إلاّ أن تكون محورية. وكان «المدفعجي» العتيق، يعرف على السمع، الفرق بين القذائف الفعلية وتلك الخلّبية، وكان يبتسم لا شك، في سرّه، عند مشاهدته مسلسلات التهويل الغربي بالحرب القاضية على نحو 70 مليون إيراني...
وكان الجنرال القارئ لاستراتيجيات الفكر السياسي، يتابع حركة السياسة الإيرانية الخارجية، الموقعة على ركائزها الأربع، غير المعلنة كلاماً، والمثبتة فعلاً وممارسة.
فلدى طهران أولاً، ثوابتها السياسية المستمدّة من تاريخها وجغراسياستها، وفي واقع مجتمعها بتركيبته السوسيولوجية المعروفة.
ثم لدى طهران، ركيزة ثانية، تتمثّل في كونها ابنة عقيدة إيمانية تؤمن بأن باب الاجتهاد العقلي مفتوح أبداً. وهذا ما يجعلها تخضع ثوابتها الكيانية لعمل عقلها السياسي، خدمة للمصالح الوطنية. هكذا تكيّف طهران ثوابتها على إيقاع الظروف والسياقات والوضعيات، وحيث يذهب عقلها تذهب ثوابتها، وتكون المحصّلة للاثنين صواباً. وتبقى الركيزة الإيرانية الثالثة، أن جزءاً من ثقافتها السياسية والفكرية، هو مفهوم البازار. لا كظاهرة مركنتيلية سلبية، بل كمعطى عملي للتعاطي بين البشر، أساسه التحاور والتفاوض ولزوم التوصّل إلى التسويات.
لتظلّ الركيزة الرابعة، تلك المسلّمة التاريخية والبشرية الدائمة، من أن السياسة الدولية هي أولاً وأخيراً لعبة مصالح.
حين قرّر ميشال عون الذهاب إلى طهران، كان يعدّ نفسه لمقاربة فريدة، ألا وهي التعرّف إلى كيفية توفير «مصالح» أي جماعة، عبر آليات الحوار، في شكل يتسلح بعمل العقل، ولا يتعارض مع الثوابت. غير أن توقيت الحدث، شاء أن يضيف مصادفة أبعاد أخرى، قد تكون أكثر عمقاً وأهمية، وإن في المدى المتوسط.
يذهب الجنرال إلى طهران، فيما الدول الاصطناعية العائمة على أسواق السندات والبورصات، تترنّح في العالم. يذهب عون إلى العاصمة الإيرانية، فيما الأخيرة تستعد لشكر أميركا على حصارها طوال عقدين. هذا الحصار الذي جعل إيران تنكفئ إلى داخلها، وتحصر جهدها في قطاعاتها الإنتاجية، لتبلغ اليوم حدود الدولة المكتفية ذاتياً، بنسبة قد تكون الأعلى عالمياً. فيما العديد من دول المليارات الورقية، تكاد تبدو أشباحاً كرتونية أوهى من جرس بورصة.
مجرّد مصادفة إيجابية إضافية؟ ومن يجزم أنها ليست جزءاً من دقة الحساب وصحة التوقّع وصواب الرؤية، لأشياء تقتضي ربما أن يغمض الفرد عينيه ليراها.
تعليقات: