لا تزال معضلة “الدولار المصرفي” تراوح مكانها بين كرّ وفرّ وتقاذف مسؤوليات بين الحكومة ووزير المال ومصرف لبنان، فيما ما لا يقل عن مليون لبناني ينتظرون قراراً رسمياً بوقف “الهيركات” على ودائعهم “الملولرة” لبنانياً.
15 ألف ليرة أو 25 ألفاً أو 89 ألفاً… لا أحد في الحكومة أو السلطات المالية والنقدية يمكنه أن يجيب عن تساؤلات المودعين المنتظرين رسو أصاحب القرار على سعر صرف نهائي للـ”لولار” المصرفي لقضاء حاجاتهم، إذ لا يزال يجري يومياً على كنتوارات المصارف وعبر صرافاتها الآلية “هيركات” غير قانوني وغير مسند الى تعميم جديد من مصرف لبنان أو من أي جهة رسمية أخرى، بعدما حدّد مصرف لبنان سعر الصرف على منصته الالكترونية بـ89 ألفاً و500 ليرة ما أفضى تلقائياً الى إلغاء سعر الدولار المصرفي المحدد من حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة بـ15 ألف ليرة.
فتوحيد سعر الصرف على 89 ألفاً و500 ليرة، من دون حسم مصير سعر الـ15 ألفاً للدولار المصرفي، أربك المعنيين كافة، بما جعلهم يتقاذفون المسؤولية لإبعاد الكأس المرة عنهم. فمصرف لبنان كان حتى الأمس القريب يعتبر أن ذلك مسؤولية الحكومة ومجلس النواب، والحكومة تحاول التملص من مسؤولية تعديل السعر وتحاول رمي القرار على وزير المال بمفرده، فيما مجلس النواب ينأى بنفسه عن القبض على ملف لا يضاهيه ملف آخر يمس بمصالح مليون لبناني واستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن “الهيركات” المستمر على ودائعهم وجنى أعمارهم. وهو لم يبادر حتى اليوم الى إصدار قانون يعدل فيه سعر الدولار المصرفي بما يتماهى مع استراتيجية مصرف لبنان والسياسة المالية للدولة بعد إقرار موازنة 2024 واعتمادها سعر صرف 89 ألفاً و500 ليرة في أرقامها وعائداتها ورسومها.
جديد الملف، ما سُرب لـ”النهار” من معلومات أفصح عنها حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري أمام لقاء موسع جمع عدداً من الهيئات الاقتصادية ورجال الاعمال وبعض المصرفيين، إذ سئل منصوري عما آلت إليه آخر المعطيات حيال الدولار المصرفي وعما إن كان من الجائز ترك المودعين أمام مصير حتمي بضياع ودائعهم من خلال سحبها على سعر صرف 15 ألف ليرة؟ منصوري كان واضحاً بتأكيده أن المصارف غير قادرة على إعطاء المودع وديعته على سعر صرف 89 ألفاً و500 ليرة، ولكن في المقابل مصرف لبنان غير مستعد لأن يصدر أي قرار قانوني في هذا السياق، أو أن يوافق على إجراء أي “هيركات” على الودائع، على أن يحال موضوع الخلاف بين الزبون ومصرفه في الموضوع الى القضاء. أما اللافت في كلام منصوري، فتأكيده أنه إذا أصدرت الحكومة قراراً بتحديد سعر الدولار المصرفي، فإن “المركزي” سيخضعه لدراسة قانونية معمقة تحسم الالتباس القانوني حيال صلاحية الحكومة في إصدار مثل هذا القرار من عدمه، أو أن الأمر يحتاج الى قانون من مجلس النواب صاحب الحق في إصدار القوانين والتشريعات، ومنها قانون كابيتال كونترول وتحديد حجم السحوبات وسعر الصرف لها. وأفصح أمام الحاضرين أنه يتشدد كثيراً في تطبيق القوانين، وخصوصاً مع وزارات الدولة والمؤسسات الرسمية ونفقاتها التي يجب أن تكون واردة في الموازنة.
فهل نحن أمام اشتباك حكومي مصرفي جديد؟ وهل يمكن للحكومة التي أوكلت الى مصرف لبنان تحمّل معالجة المعضلات المالية والنقدية أن تقرر وتصدر تعديلاً في ما لو اعتراه أي خلل أن يؤدي الى انفلات السيولة في السوق وتفشي التضخم مجدداً واستئناف جنون الدولار؟
يعيش السوق حالياً واقعاً سوريالياً، فمن جهة ثمة شبه فقدان لليرة من السوق والمصارف على نحو يعيق عمل الشركات والمصارف والشركات المالية، وهو كان موضع شكوى من التجار تحديداً خلال اللقاء. وهذا الشح أدى أيضاً الى ارتفاع يومي في فائدة “الانتربنك” التي وصلت أمس الى 135%، وهو رقم قياسي في تاريخ المداولات بالعملة اللبنانية، علماً بأن ارتفاع الفائدة مرشح للارتفاع أكثر ولفترات أطول من السابق مع تزايد شح العملة في التداول، بعدما انخفض حجم الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة لبنانية في مطلع السنة، إلى ما بين 55 و60 تريليون ليرة في الاشهر الماضية، فيما كشفت مصادر مصرف لبنان لـ”النهار” أن “المركزي” سيلجأ قريباً الى زيادة الكوتا باللبناني للمصارف لتسيير أمورها أكثر.
الارتباك الذي يصيب جميع المعنيين بهذا الملف، إما خوفاً او إحراجاً، دفع بمصادر مصرفية الى اقتراح حل “منطقي” يمكن برأيها أن يمنح كل ذي حق حقه، ويقلل من خطر الانزلاق مجدداً الى حفرة التضخم. الاقتراح يقضي بإصدار مرسوم حكومي بعد توافق بين وزارة المال والمصرف المركزي وجمعية المصارف، يحدد سعر الدولار المصرفي على 89 ألفاً و500 ليرة للسحوبات بين 50 و150 دولاراً شهرياً، مع حق التفاوض بين المودع ومصرفه على سعر صرف لسحوبات إضافية شرط أن لا يقل عن 25 ألف ليرة. ويمكن أن يمنح مصرف لبنان حق تحديد “الكوتا” بالليرة للمصارف لإبقاء عملية ضبط السيولة تحت نظر وسيطرة مصرف لبنان.
وتعتبر المصادر أنه بهذا الحل يمكن أن تتحق أمور ثلاثة: أولها وقف السحب على سعر صرف 15 ألف ليرة المخالف للقانون، ثانيها توحيد كلي لأسعار الصرف استجابة لمطالب وشروط صندوق النقد، وثالثها المحافظة على قيمة الودائع بالدولار المصرفي فعلياً.
تعليقات: