.. من "البارد" إلى بيروت.
بؤس المخيمات الذي اعتاد الصحافيون الاضاءة عليه من العدسة الانسانية، زاد اليوم بؤساً بعدما فاضت المخيمات المنتشرة في ارجاء الوطن بالنازحين اثر اشتباكات نهر البارد. وكأن عصابة فتح الاسلام جاءت لتزيد واقع الفلسطينيين سوءا، فانتشلتهم من جذورهم وعائلاتهم لترميهم في مخيمات كان غالبيتهم هرب منها بسبب سوء اوضاعها. هي ليست المرة الاولى التي تتعدى فيها هذه العصابة على اهالي المخيم، اذ سبق وان حاول عناصرها افتعال المشاكل داخله والتي كان آخرها قتل شاب من ابنائهم في وسط الشارع وعلى مرأى منهم، الا انها وبحكمة الاهالي لم تبلغ منالها. كما انها وحسب السكان، حاولت اكثر من مرة استفزاز عناصر الجيش اللبناني على الحاجز الواقع على مدخل المخيم ولم تلق منهم ردات فعل تسد جوعها للمعركة والدم. إلى ان كانت حادثة اغتيال عناصره في قلب الثكنة، الفتيل الذي اشعل نار الاشتباكات.
ايام المعركة طالت، بعدما كان الجيش يتريث بحسمها حفاظاً على ارواح المدنيين الذين اتخذت منهم العصابة دروعاً بشرية، ومعها طال انتظار العودة إلى المخيم الذي اصبح اليوم بالنسبة اليهم "ابدى من فلسطين ذاتها". هم مقتنعون بان هؤلاء لا يمتون إلى الاسلام بصلة، وان الاسلام منهم براء، متسائلين اذا ما كانوا يريدون "تحرير فلسطين من عنا؟ ولمين بعد ما هجرونا".
200 عائلة نازحة حطت في مخيم شاتيلا في بيروت، واكثر من 250 عائلة في برج البراجنة. الارقام ليست نهائية وهي ترتفع بين ساعة واخرى، خصوصا بعد امتداد الاشتباكات إلى عين الحلوة وتهديدها مخيمات صور.
مخيما شاتيلا وبرج البراجنة، يفيضان اصلاً بمآسي حكايا الزواريب الضيقة التي تضيق بيوميات اهلها واحلامهم على الرغم من تواضعها. حكايا تبدأ بضيق الحال المعيشي ولا تنتهي عند افتقار معظم الناس إلى ثمن ربطة خبز، خصوصاً وان الجمود الذي يطال مفارق البلد ككل يصيبها بجزء كبير منه. النازحون الذين لطالما عاشوا على امل العودة إلى فلسطين، يعيشون اليوم ويكابدون الم الهجرة وسهامها على امل العودة إلى ديارهم في مخيم نهر البارد. التوجيهات التى اعطاها رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة للدوائر المختصة في وزارة الداخلية لمساعدة من فقدوا اوراقهم الثبوتية لا سيما منهم التلاميذ المرشحين للامتحانات الرسمية، بالاضافة إلى توجيهاته لوزارة الصحة باستقبال المرضى في المستشفيات على نفقتها خففت عنهم ثقل النزوح ووزرالقلق الذي يعيشون.
"المستقبل" عاينت الاوضاع في المخيمين في جولة ميدانية برفقة دليلين من "جمعية تضامن المرأة العربية" و"جمعية الانعاش الاجتماعي الفلسطيني"، ولملمت من حكايا الناس وسحناتهم وهيئاتهم قصصاً عن مأساتهم ولقمة العيش.
تجهد الجدة محاولة اقناع حفيدتها سهى ابنة الاعوام السبعة بان مخيم نهر البارد حيث بيتهم افضل من مخيم شاتيلا الذي لجأوا اليه بعيد نزوحهم، (حيث وصل عدد النازحين الى نحو 180 عائلة) هرباً من عصابة فتح الاسلام. تنهرها محاولة فرض رأيها على اعتبار انه الاصح، الا ان الطفلة توطئ برأسها وتسترق النظر إلى الجدة متهيبة غضبها، وكأنها تصر على خيارها من دون ان تتجرأ على معاودة الافصاح عنه. تتدخل امها معللة السبب بانها بمجرد ان دخلت المخيم استطاعت تكوين صداقات، وهي بذلك تحررت من اللعب مع اخوتها على سطح البيت، الفسحة الوحيدة المفتوحة امامهم للعب او "للنزهة" كما تسميها بداعي خوفها عليهم "خصوصاً مع ظهور فتح الاسلام، اللي ما يعرفو شي عن الاسلام".
اللعب خارج مربع سطح المنزل هو الشيء الوحيد الذي يعني تلك الطفلة الصغيرة من كل قصة التهجير التي عاشتها العائلة. حتى ولو كان الزاروب، المكان الجديد المخصص لذلك هنا، اضيق واسوأ حالاً الا انها تراه اجمل واوسع ربما لانها تجد فيه انماطاً جديدة من اللعب او ربما لان فيه اطفالا آخرين تتشارك اللعب معهم.
فرحتها كبرت بعدما تعدت نزهتها حدود السطح. ومعها كبر حلمها ليشمل الزاروب والبيوت والعلب الموزعة على جنباته. كم يبدو هذا الحلم كبيرا بالنسبة اليها، لتقايضه ببيت وشمس وهواء، هم في غربة عن حيث حلت لكثافة الحواجز المتراصة بين عالمه الارضي وعالم الكواكب السماوي. ربما ان الانفصال العامودي بين اطفال المخيمات وبين السماء، او حتى الافقي بينهم وبين ما يحوطهم هو السبب في صغر احلامهم حتى لا نقول تحجيمها، لتأتي مضغوطة على شكل ظروف حيواتهم ويومياتهم الرتيبة. احلام الاطفال الفلسطينيين، وخصوصا منهم اولئك المحصورين في علب المخيمات، تبدو بعيدة من اطفالنا الذين تخطوا باحلامهم حدود احلام الكبار. او حتى انها تبدو بعيدة من فلسفة الحلم ذاته التي تعني المراد او المتمنى والصعب المنال. يمكننا ان نتخيل ان يحلم الطفل بشراء لعبة يحبها او بالذهاب في نزهة إلى البحر او بالخروج من حلزونة المخيمات حيث يتقوقع، لكن ان يحلم بالتخلص من سطح منزله ليلعب في زاروب لا يتعدى عرضه النصف متر، فهذا امر يتجاوز بحجمه مأساة العالم كله.
حلم سهى تحقق بعد نزوحها وعائلتها من البارد إلى مخيم شاتيلا اثر الاشتباكات بين عصابة فتح الاسلام والجيش اللبناني. هي لم تحفظ من مشوار عائلتها المعبد بالمعاناة شيئاً. همّها انها غنمت بحلمها الثقيل، او ربما آثرت تغليب الفرحة على ما عداها بعدما سدت شيئاً من جوع قديم لديها إلى اللعب بحرية، وبعدما نعمت باصدقاء من اترابها تقاسمت معهم المقعد الدراسي، في مدرسة أريحا، كما الزاروب مسرح ضحكاتهم وكتاب حكاياتهم. لم تجد صعوبة في الاندماج معهم. هم ابناء المأساة ذاتها، وان كانت مأساتها اقل وزرا كونها ابنة مخيم صُنف راقياً مقارنة ومخيم شاتيلا الواقع في نهاية خط البؤس، بعدما تجاوز الحدود القصوى على خريطة الفقر والحرمان وكل مفردات الاوضاع الدنيا في القاموس الانساني.
تائه عن وظيفته
المشوار كان مضنياً. من المخيم الساخن حيث عاشت وعائلتها (التي توسعت لتشمل عمومتها وابنة خالتها واولادهم) فصلاً وافراً من الاشتبكات، مروراً بالبداوي وجهتها الاولى، وصولاً إلى شاتيلا حيث استقرت فيما يشبه غرفتين صغيرتين لا تتعدى الواحدة منهما المترين المربعين. غرفتان من علب المخيم المتلاصقة. علب مكدسة تختلط فيهارائحة العفن والرطوبة برائحة المياه المبتذلة التي لم تفلح "ادوية التنظيف"، الموزعة ضمن المساعدات المقدمة من قبل المؤسسات والجمعيات، في طمسها.
كل ما في المخيم تاه عن وظيفته، بسبب عدم امكانية ادخال المواد اولاً وبسبب العوز ثانياً. الجدران لم تتحسس طعم الطلاء ولا الاسمنت، بعدما تحولت إلى ما يشبه الواحاً حملت كل شعارات حق العودة ورسومات مفاتيحها، إلى جانب اوراق نعاوى الاموات. النوافذ ان وجدت ليست للتنفيس لعدم وجود متسع لمرورالهواء، تبدلت وظيفتها لتتحول إلى مرايا ترصد تحركات الجيران والرواد، او إلى اطار لوجه طفل سجن داخل الغرفة بانتظار عودة امه فاختار مشاهدة الزاروب مستعيضاً عن التلفاز غير الموجود اصلاً.
الزواريب هي الشرايين التي تربط مفاصل المخيم وتفرعاته. تراها تضيق حيناً لتستوعب شخصا واحدا، وتتسع في المفارق ـ الساحات لتصل إلى حدود النصف متر في الداخل والمتر عند الاطراف. هي شرايين مثخنة بالدم البشري الفلسطيني، كما بسيول المياه المتحررة من المواسير والخزانات والتي تحولت ملاذا للذباب والبعوض واحواض سباحة للمشتريات من فئة المئتين وخمسين ليرة. وليس بعيدا منها الزوايا وقد شكلت مجمعاً للاوساخ وبقايا ارز مطبوخ في مشهد ينطق بحكايا بؤس عن بيئة لم يصلها صدى مصطلح السلامة البيئية.
... المشهد عينه
بين خارج المنازل وبين داخلها، المشهد لا يختلف كثيراً. "يا أهل الدوّار" عبارة بمثابة جواز لعبورالعتبة باتجاه الداخل. لا يمكن للزائر تمييز ما اذا كان اهل البيت يمتهنون النظافة او انها غريبة عنهم، لعدم توافر مقوماتها في معظم المنازل. اثاثها عبارة عن حصيرة قش عفى عليها الزمن، بعدما حل البلاستيك مكانها، وكرسيين ومقعد خشب صغير. ارضها صلعاء يفرشها الباطون، تغطيه طراحة قماش او اسفنج ربما تنسجم او لا مع قطعة القماش المتدلية على الشباك يحملها سلك حديد لستر اصحاب البيت.
وحده مكتب الاونروا في المخيم يبدو غريبا عن المكان، اذ يحظى بنعمة البلاط التي تمنحه لمعاناً يوحي بنظافة، تعود في جزء كبير منها إلى الموظفات اللواتي دفعن كلفة الستائر المذهبة لتجميله حفاظاً منهن على الترتيب وتأميناً لراحتهن النفسية.
في مقاربة قصيرة بين الخارج وبين الداخل لا يبدو الامر غريباً، خصوصاً اذا ما استحضرالزائر صورة الزاروب الذي يضيق عند بعض الامكنة ليصعب معه ادخال براد او حتى غسالة فكيف بكنبة؟ كثيرة هي البيوت التي تملك سخاناً كهربائياً ربما لوفرة المياه عندهم، يدل عليها ما يفيض من الخزانات. وفي الكهرباء ما زالت ثقافة قنديل الكاز منتشرة بقوة بالاضافة إلى الشموع مع بعض ظهور لـ "لفلوريسان" البطارية عند من هم اشفى حالاً، خصوصا مع التقنين المتقطع.
الحواس.. العين
لا فسحة او حفنة تراب ولا حتى عرق اخضر، فيما عدا شجيرتين فتيتين يتيمتين في احد الشوارع الخارجية، موطنهما برميل صدىء. تنتصبان في ظل الحائط في عالم غريب عنهما.
لا كلاب، ولا قطط ولا حتى عصفور واحد. المكان مزدحم بالناس إلى هذه الدرجة او ان هذه الكائنات لا يمكنها التأقلم وظروف العيش فيه. هي بامكانها ان تسرح بحرية أينما شاءت، فلا قيدها يحتم عليها الانحباس داخل حدود المخيم ولا خوفها يمنعها من تجاوز الخط المرسوم لحملة الوثيقة الزرقاء. انعدام كلّي للسيارات وابواقها ودخانها. لا وجود للدراجات الهوائية والنارية، ما يضفي على المكان سكونا غير عادي لا تخرقه ذبذبات الخلوي. لا صوت لاغان او اناشيد منبعثة من جهاز الراديو، ربما لان الاجواء معبأة بما هو اهم وابعد من النشيد مع تفاعل احداث نهر البارد.
هو السكون يرون في الارجاء على الرغم من كثرة الناس والاطفال، او ان الزائر يحيل لا ارادياً حواسه على التقاعد مفرغاً وظائفها للعيون المشدوهة باحصاء كم الصور ومشاهد الشقاء المتبعثرة من حوله. الجهاز الخلوي نادر الوجود اصلاً، وحدهم موظفو وكالة الاونروا والموظفون العاديون ومعهم مسؤولو الجمعيات يتعاطونه. لا إرسال في المخيم لذبذاته سوى في الطبقات العليا من المنازل. التكنولوجيا ما زالت تقف عند اطراف المخيم في صالة للانترنت من عشرة اجهزة كمبيوتر. وحدهم الصغار كانوا يلهون بالفارة الـ(esuom)على شاشات ميتة بعدما خُطف بريقها مع انقطاع التيار الكهربائي.
حاله من حالهم
حال المكان من حال ناسه. الصغار يملأون الزواريب، فيما تحتل الصبايا عتبات البيوت. الشبان منقسمون بين متطوع يجول في الاحياء مزودا بقلم وورقة لاحصاء النازحين الجدد في محاولة لتقديم المساعدات، وبين من يتحين الفرصة علّه يتعرف إلى احدى الضيفات اللواتي يتجنبن الخروج لخجلهن من عدم لياقة هندامهن، خصوصا وانهن خرجن ليلاً بما عليهن.
المتطوعون الشباب، معظمهم من طلاب الجامعتين العربية والاميركية. مستقلون سياسياً عن اية جهة، يحاولون قدر مستطاعهم الالتفات إلى حاجات النازحين ويحضرون لمشاريع خاصة بالاطفال، علّهم بذلك يساهمون في زرع البسمة في عيونهم.
الشابات الضيفات لسن افضل حالاً من الشبان القابعين داخل حيطان الغرف لعدم حيازتهم اوراقاً ثبوتية تركوها في البارد، ما قد يعرضهم للحبس في حال خرجوا من الخيم. هم يخافون من التجول خارج المخيم، خصوصا في مثل الايام التي نعيش والتي "يجلس فيها البلد على كف عفريت" حسب ام محمد حسن. وتتابع "في حال حصول اي شيء في البلد يكون ولدي اول من يقتاد للتحقيق. خلينا نموت من الجوع ولا ينهان واحد من ولادي. الناس طلعت منَدْلة(لا شيء معها). ما معانا قرش نشتري شي ولا حتى عندنا غاز. نشكر اللي عم بيساعدونا بالمواد الغذائية، بس بدنا نطلب اذا في مجال يقدمولنا مصاري حتى نشتري بعض الحاجات اللازمة مثل الثياب".
ام محمد والدة لاثني عشر ولداً. مثلها مثل كثيرات من نهر البارد تركت بيتها من دون ان تحمل معها حتى "كرت الاعاشة" (مرادفة لاخراج القيد العائلي). تقيم اليوم في بيت من غرفتين اثنتين يستضيف إليها وعائلتها عائلة اخيها المكونة من 12 فردا ايضاً (دزينة)، يجاورهم في بيت قريب عائلتا اخويها اللتان لا تقلان عدداً.
هيئات الاهل لا تشي بكبر اعمارهم. كبر تتوقعه لدى سماعك الرقم، الذي يسقط عليك كجلمود صخر من علي. الرقم، الذي ما زال يقاس بالدزينة، يبدو مستغربا في ظل الظروف الحياتية الصعبة التي نعيش والتي تحول دون امكانية تأمين متطلبات العيش الكريم لولدين فكيف بعشرة. ابراهيم حسن يؤمن بأن "كل ولد إلو رزقتو"، فتتدخل أخته ضاحكة "كيف بدنا نرجع على فلسطين اذا ما كثرنا الذرية؟".
تحول الحي إلى مقر لدار (آل) حسن بعد وصول الجد والجدة من وادي الزينة، "هرباً من العجقة"، ليحطّا رحالهما في غرفة افتتحت خصيصا لهما، بهمة الحفيدات اللواتي تبرّعن بتنظيفها. الجد محمد علي حسن، يستريح من عناء المشوار على الدرج الممتد قرب عتبة الغرفة. يتكئ على عصا خشب تئن بثقل سنيه الـ72. في عينيه اللتين ضاع لونهما بعدما جرفته الماء الزرقاء، يمكن قراءة حبه للحياة. حب يترجمه حبه لزوجته التي مضى على زواجه بها خمسون عاما. هو لا يعنيه من كل ما اصابه الا انها ما زالت إلى جانبه. يشير اليها مبتسما "بأيار الـ 57 تزوجتها. صار النا بالضبط خمسين سنة مع بعض". ويردف ضاحكا بحيوية يستمدها من ذكرها "ظفرها عندي بالدني كلها.. يروح كل شي بس هيّي تبقى معي".
ابدى من فلسطين
النسوة يوحدهن زي العباءة وان اختلفت الوانها. قابعات ايضاً في المنازل، منهمكات باعداد الطعام الذي تفوح منه رائحة البصل من البعيد. بعضهن انشغل بتنظيف البيوت الفارغة لاستقبال النازحين، واخريات التزمن دكاكين السمانة. ما ان يرين غريباً يطأ أرض المكان، حتى يتهاتفن اعتقاداً منهن بانه يسجل للمساعدات. "شو عم بتسجلن.. " النبرة تتغير لدى معرفتهن باننا من الجسم الصحافي "يا هلا بيكن، معوّدين ع الصحافة احنا"، ويتحولن إلى دليل لنا إلى بيوت النازحين. يختلط حديثهن عن مجريات نهر البارد بالهموم المعيشية التي باتت لا تطاق، "بالكاد نحصّل لقمتنا". هنّ لم يعتدن الخوض في غمار السياسة ما يهمهنّ ان يتمكن النازحون من العودة، العودة التي باتت بالنسبة إلى أم صالح عفيفي "ابدى من فلسطين نفسها. كفانا تهجير، شبعنا".
ام صالح لا تعي تقدير سنوات عمرها، فتختصرالطريق بعبارة "خير الله وكوم"، ما يوحي باكوام السنوات التي حملت وزرها ومعاناتها. من وراء نظارتيها الشفافتين تقرأ في عينيها جبروت المرأة الفلسطينية. تنظر إلى محدثها بقوة، فيختال لبرهة ان عينيها الفاتحتين ستقفزان مخترقة اطار النظارة. تفاجئك بقدرتها على احتراف الكلام بمنهجية وعقلانية قلّما تتخيل وجودها عند بنات عمرها. "انا من الغابسية. عشت المجزرة والاجتياح الاسرائيلي وحرب المخيمات. ولدت بنيتي بالملجأ. تنقلت والعيلة بين شاتيلا ونهرالبارد هالخد معوّد ع اللطم. تركنا المخيم بالبارد، واهلنا طشّوا على صور والبداوي وشاتيلا. لازم نرجع على مخيمنا. "وبالفصحة الطليقة تصر على ان" مخيمنا جزء لا يتجزأ منا".
يتدخل حسن عكر، اب لستة اطفال لم يعرف مصيرهم حتى اليوم، "فتح الاسلام أبعد ما يكونو عن الاسلام. بدو يحررو فلسطين من عنا؟ لمين؟ هجرونا. اهل المخيم بالاساس ما تعاطوا معهم وبعدما قتلوا شاباً من عنا كلنا كرهناهم ما عدنا طقناهم. والله اذا منرجع وبعد في واحد منهن احنا رح نصفيه".
الدكان.. رسم للمستوى
في حانوت صغير وسط المخيم، ينهمك رجل ابيض الشعر بتوضيب بضعة الاف من العملة اللبنانية. ابتسامته تعكس بياض قلبه ايضاً. يقول ممازحاً ظناً منه اننا من النازحين "انتو رَوحوا على فلسطين شو الكن عنا". سحنته البيضاء توحي بانه اجنبي او غريب عن المكان واهله، اذ ان الاخيرين عادة ما تلوّنهم سمرة ناعمة ربانية لا تطبعها الشمس الغائبة عنهم . حتى طريقة لباسه توحي بذلك، مع السترة الكاكية المعتمدة عادة للمصورين الصحافيين والمنسجمة مع بنطال من لونها. سليم كايد (72 عاماً)، اب لاربعة شبان لم يبق منهم الا واحد بعدما فقد ثلاثة، اكبرهم في عمر الـ19 عاماً، خلال حرب المخيمات. عوض الله عليه ببنات اربع استطاعت ان تتبوأ كل منهن ارفع المستويات لتكون احداهن نائبة في البرلمان الدنماركي واثنتان طبيبتين في الامارات العربية المتحدة، والصغيرة مهندسة متخرجة من فرنسا. ولا ينسى كايد الحديث عن حفيديه اللذين يكملان علمهما في اميركا.
ربما يبدو غريباً وجود شخص كهذا داخل المخيم، اذ ان معظم المتعلمين وميسوري الحال يمددون خريطة اقامتهم إلى خارجه. وهذه حال كايد الذي اختار فتح دكانه في العام 1995 في المخيم على بعد امتار من بيته الكائن في الطريق الجديدة، بعيد انهائه وظيفته كمساعد مهندس في المملكة العربية السعودية، طمعاً في التسلية من جهة ولكي يكون دائماً قريباً من اهله من جهة ثانية. "هذا المخيم بؤس. واليوم زاد البؤس فيه. كثرت العجقة وما في بيع، لانو كثرت المساعدات. الحياة هون بتقصر العمر".
من خلال دكانه المتواضع يمكن رسم جدول لتحديد المستوى المعيشي للسكان، الذي لم يتجاوز عند الكثيرين خط الفقر او العدم. لا ضرورة لان يكون في الدكان علبة حليب كبيرة لأن لا قدرة لأحد منهم على شرائها، لذلك يعمد كايد إلى عرض المظروف الصغير الذي يباع مقابل 250 ليرة للواحد. وكذلك الحال بالنسبة إلى حفاضات الاطفال التي يبتاعها السكان مقابل 250 ليرة للواحد او 500 ليرة للاثنين.
للعبور إلى الخارج
للاستدلال إلى منفذ للخروج من المخيم، عليك ان تلاحق خيوط الشمس التي يمكنها ان تنسل إلى اطرافه. من مدخله الجنوبي تحط في شارع صبرا. المشهد هنا يبدو جميلاً على الرغم من بؤسه. البؤس هنا من نوع آخر، لا يمكن قياسه بذلك المتربع داخل المخيم. يكفي ان الشمس، المولجة تطهير جراثيم اليأس، حاضرة بقوة هنا.
الشارع لا يشبه حاله قبلا. الناس قليلون جداً كما السيارات. ربما الجمود الذي يعيشه البلد منذ بدء اشتباكات نهر البارد طاله ايضاً. او ربما طاله بقوة اكبر بسبب قربه من الخيم. وحدها اصوات الباعة تخدش السكون. مع ندرة الناس بدا الشارع انظف بكثير.
لا اكوام زبالة تزين جنباته، فيما عدا تلة ثياب خدمت عسكريتها وتحولت من البالة إلى الزبالة. لا اكوام خضار عفنة وبقايا مؤونة بسطات. وفي هذا دليل على ان الباعة لا يكثرون من الخضار، ما ينتج منه ان الناس خف اكلهم او ربما باتوا يصنفون الخضرة ضمن الكماليات، او ربما تحولوا نحو المعلبات التي اغرقت المخيم وطالت النازحين والقاطنين الاصليين، بعدما وصلت عدوى ضيق الحال اليهم بسبب انقطاع اشغالهم المتأثرة بالوضع العام للبلد ككل. لا وجود حتى للقوى الامنية، التي تحرص منذ فترة على تطويق مداخل الخيمات.
شمس ونظافة
من شاتيلا إلى مخيم البرج، المعاناة واحدة وان خفت وطأتها. الشمس حاضرة بقوة في المكان. اطرافه رحبة اكثر، وان تشابه في الداخل مع شاتيلا لجهة شكل البيوت وضيق الزواريب، الا ان الشمس تجد فتحات لها لتعقم بحرارتها شرايين المخيم. بعض البيوت في الداخل كساها البلاط الذي ينم في لمعانه عن نظافة ساكنيها. حتى ناسه يبدون اكثر حضارية، تستدل على ذلك من لباسهم وطريقة حديثهم. ربما لانه اوسع، وبالتالي اقل كثافة سكانية.
الخلوي هنا اكثر شيوعا، ويرسل ذبذباته كيفما اتجهت. الاطراف تضج بالناس من نازحين ومقيمين. النازحون الذين فاق عددهم بقليل اولئك الذين في شاتيلا (250 عائلة) يجهدون في البحث عن بيوت لمن بقي من اقربائهم في البداوي، او استقر في الضيع مثل برجا ووادي الزينة. النازحون هناك، يرغبون في الاقامة في المخيم ليتمكنوا من الحصول على المساعدات المحصورة بمن استقر في المخيم لعدم قدرة المؤسسات المعنية من حصر عدد الموجودين خارجه.
مدارس الاونروا الابتدائية ومعها روضات المؤسسات الاجتماعية فتحت ابوابها امام الطلاب الجدد، افساحا في المجال لاكمال عامهم الدراسي بعدما اشرف على النهاية.
هنا تتحول قصة سهى مع السطح إلى اطفال روضة مؤسسة الانعاش الاجتماعي، الذين "ستنقل رحلتهم المعتمدة نهاية العام الدراسي من كل سنة من شاطئ البحر إلى السطح"، حسب مديرة الروضة عايدة الاشقر دليلنا إلى المخيم برفقة شقيقتها ام طارق. الادارة وتعويضا للاطفال عن الرحلة التي الغيت بسبب الاوضاع الامنية، تحضر لشراء مسبح بلاستيك كبير تمده على السطح بغية عدم حرمان التلاميذ من الاستمتاع بالسباحة واللعب بالمياه. "اهالي المخيم ليسوا معتادين على خلق فسح للترويح عن الاطفال. لذلك انا اصر دائماً على اعتماد هذا النوع من الترفيه".
حب عايدة للاطفال نابع من حبها لاولادها الاربعة، الذين فقدوا اباهم منذ ثلاث سنوات بعدما اودت بحياته رصاصات حقد سددها جاره اليه، لتتحول هي الام والاب بالنسبة اليهم. ولعل في قصة هذا الاب الذي قتل على خلفية خلاف على المفرقعات بين الاولاد، خير مثال على الفوضى وعلى ضيق العيش وضيق النفوس التي يعيشها ابناء المخيمات المحصورة او بالحري المضغوطة.
وحدهم طلاب البريفيه والبكالوريا القسم الثاني في حيرة من امرهم، الا ان التعميم الذي اصدره رئيس مجلس الوزراء ودعا فيه إلى حل مشكلتهم ومشكلة من لم يحملوا معهم اوراقهم الثبوتية اراحهم. الطالب محمد وهبي يعبر عن قلقه بالقول "لا احمل طلب ترشيحي. وكتبي كذلك تركتها في البيت حتى هويتي. لا اعرف ماذا يمكننا ان نفعل. اليوم وعد الرئيس فؤاد السنيورة بترتيب الاوضاع وهذا طمأننا، والا لكان ضاع علينا العام الدراسي".
فتح الاسلام .. الله عليهم
الشباب هنا اكثر تحرراً، وهذا يعود في جزء كبير منه إلى انفلاش المكان. بعضهم مشغول بتوضيب محله او بشرب النارجيلة. ومن هم اكبر منهم سناً منغمسون بلعب الورق لقتل الوقت الذي يمر متهادياً عندهم مع الاحداث الملتهبة في مخيمهم.
حتى النبات يبدو اكثر تحررا على الرغم من انه محصور في احواض علب التنك، الا انه ذو قيمة بالنسبة إلى السكان والا لما كان موجودا عندهم اصلاً. كل هذه التفاصيل الصغيرة توحي باختلاف نمط العيش في مخيم برج البراجنة عنه في مخيم شاتيلا، وان تشابها في بعض النواحي في داخلهما. بعض النازحين استقروا عند اقربائهم، الامر الذي خفف عنهم عذابات النزوح، خصوصا وان معظم البيوت مجهزة بالاثاث ولو المتواضع، وبكل ما يلزم من كهربائيات وغيرها. الجولة برفقة ام طارق الحاملة لواء العمل الاجتماعي والمنهمكة دائما برصد احوال النازحين إلى المخيم وجمع شمل عائلاتهم، لها طعم آخر. هي لا تفتأ تتحدث مع هذه وتسأل عن احوال تلك. تحمل اليهم ما استطاعت جمعه من ثياب مستعملة وتجهد في تأمين بيوت يلجأون اليها، وكانها احترفت حمل هم الآخرين.
اهالي المخيم يفاخرون بانهم طردوا جماعة فتح الاسلام الذين حاولوا الاقامة في مخيمهم بعيد عدوان تموز. النازحون يروون معاناتهم مع فتح الاسلام الذين تعاطف السكان معهم في البداية كاسلام حتى ان بعض الشبان حاولوا الانتساب اليهم ومن ثم تركوهم، "كانوا يستفزون الجيش اللبناني ويشتمون عناصره. كانوا يصلون بدراجاتهم حتى الحاجز ويشفطون"، يقول ذيب خشان. ويؤكد ابنه "انهم خلال الاشتباكات التي عشنا جزءا منها، كانوا يتعمدون رمي الرصاص على الجيش من جانب منازلنا. طلبت من احدهم الا يفعل فعيرني باني اعزل وكيف لي ان احكي. من اين يريدني الامير ان أرمي أرمي". ويروي بعض الاهالي انهم رأوا "نساءهم صاحبات الخمار الاسود وهن يرمين الرصاص على الجيش. لقد شاركن في المعركة".
ويحكي ديب السعدي "كانوا بيننا ولم نكن نجرؤ على التعامل معهم. وفي الفترة الاخيرة قتلوا شابا من المخيم على مرأى من الجميع وراحوا يدوسونه بارجلهم وينعتونه بالزنديق والكافر. بعد هذه الحادثة بايام فتحوا معركة مع الجيش". ويتابع "كنت اتوقع ان تقع معركة داخلية بينهم وبين الفلسطينيين في حزيران، الا ان توقعاتي انقلبت لتأتي المعركة باكراً ومع الجيش اللبناني. كل ما كانوا يقومون به كان ينذر بقرب المعركة. بدأوا يتدخلون في شؤون الناس، ويستنفرون بين الفينة والاخرى محاولين افتعال المشاكل مع الاهالي. كانوا يستأجرون البيت من صاحبه لعائلة واحدة ثم ما يلبث ان يمتلئ بالشباب، وعندما يعود صاحب البيت اليهم يفاجأ بان فتح الاسلام عائلة واحدة. واخيراً حاول بعض اصحاب البيوت استرداد بيوتهم الا انهم امتنعوا عن تسليمها اليهم بالقوة وتحت التهديد". ويسأل "اية علاقة تربطهم بالاسلام. كنا بمخيمنا قاعدين مرتاحين وآمنين، طلعولنا نزعو علينا حياتنا. مخيمنا الوحيد اللي ما في مشاكل. الله عليهم".
تعليقات: