الانتقادات تساقطت على جهاز أمن الدولة وعلى رائحة الفضائح التي تفوح منه (مصطفى جمال الدين)
يبدو حتى اللحظة، أن العرقلة المقصودة في عشرات الملفات القضائية التي مرت على القضاء اللبناني في السنوات الأخيرة، لا تتوقف على القضايا الكبرى، بل تتفرع نحو سائر القضايا الخطيرة منها والعادية.
وليس مستغربًا اليوم، أن يُسمع بنبأ في الشكل يبدو كنكتة "سمجة"، لكنه في الواقع حقيقة مسلّم بها، وهي أن لطخة الفساد والمحسوبية والكيديات الأمنية باتت تظهر بصورة دائمة أمام العيان.
"تهريب" الرشيد؟
"مسلسل أمني ركيك"، توصيف يتناسب مع الروايات الأمنية التي عممت خلال الساعات الأخيرة حول قضية المدعو داني الرشيد. إذ حاولت الأجهزة الأمنية التعاطي مع مسألة هروبه من السجن مساء الخميس 28 آذار، وكأنه خبر عادي.
والمدعو الرشيد هو شخصية مثيرة للجدل لدى أهل القضاء والأمن منذ أشهر طويلة. فهو كان مديرًا لمكتب وزير العدل السابق، سليم جريصاتي، ومستشارًا لرئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا. وقد اتهم بتشكيل عصابة أشرار لمحاولة قتل المهندس عبدالله حنا، المسؤول عن أراضي رئيسة الكتلة الشعبية ميريام سكاف في زحلة. وملف الرشيد القضائي يعتبر من أبرز الملفات التي تعرضت لضغوط وتدخلات أمنية وسياسية "فاضحة". وبعد صدور القرار الظني الذي اتهم فيه بجناية محاولة قتل حنا، كان للهيئة الاتهامية رأي مختلف، ففسخت هذا القرار واكتفت باتهامه بالإيذاء.
والنبأ الذي سُرّب فجأة، أن الرشيد فرّ من سجن مركز حماية الشخصيات بأمن الدولة في ساحة العبد، كان بمثابة الإعلان أن الموقوف المعروف بعلاقته المتينة برئيس جهاز أمن الدولة، اللواء طوني صليبا، هرب فجأة من السجن بعد خلعه للباب. وهذه الرواية الأمنية المُعمّمة لم تكن مقنعة إلى حدٍ ما، خصوصًا أن مصادر أمنية رفيعة المستوى أوضحت لـ"المدن" أن مسألة "خلع" أو فتح الباب ليس سهلًا أبدًا، فالسجون مليئة بالعناصر الأمنية المنتشرة في كل الزوايا.
عملية أمنية ممنهجة!
وليس مستبعدًا القول أن هذا الموقوف هُرّب بمعية الأجهزة الأمنية، أي بمساعدة جهاز أمن الدولة، ولكن المُستغرب كان برواية أمنية أخرى تؤكد تسليم نفسه فور وصوله إلى نقطة المصنع أي عند الحدود اللبنانية-السورية، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الرواية، وندخل في مسار جديد، لتبدأ مرحلة "صراع" الأجهزة الأمنية والتنافس بين بعضها البعض لتصيّد هذه القضية. وحسب معلومات "المدن"، فبعد ساعات من هروبه متوجهاً نحو الأراضي السورية، ألقي القبض عليه وسُلّم للأمن العام. إلا أن جهاز أمن الدولة نشر بيانًا يؤكد فيه أنه قام بعملية أمنية نوعية وألقى القبض على الرشيد، "وبعد تنسيق مشترك بين المديرية والجهات السورية الأمنية المعنية، نفذت قوة من أمن الدولة عملية أمنية مشتركة داخل الأراضي السورية أفضت إلى توقيفه وسُلّم إلى إلى المديرية العامة للأمن العام اللبناني للقيام بالإجراءات القانونية..".
وحسب معلومات "المدن"، فقد سُلّم الرشيد مجددًا إلى أمن الدولة، والتحقيقات مُستمرة داخل القضاء اللبناني لمتابعة قضيته.
والمؤكد أن هذه القضية أربكت القضاء اللبناني بشكل كبير، لناحية أن الجهاز الأمني المخول بحماية الأمن وتنفيذ القرارات القضائية ورعاية الموقوفين داخل السجن ومنع هروبهم، تحوّل إلى مساحة لتهريب الموقوفين المحظيين بدعم سياسي أو أمنيّ. كما أن الانتقادات تساقطت على جهاز أمن الدولة وعلى رائحة الفضائح التي تفوح منه بين الآونة والأخرى. إذ اعتبر الوزير والنائب السابق ميشال فرعون أن "أداء وتصرفات مدير جهاز أمن الدولة هو إهانة لضباط هذا الجهاز ولجميع الضباط الشرفاء الكفوئين من طائفة الروم الكوثوليك الذين يخدمون وطنهم ملتزمين شعار الشرف والتضحية والوفاء".
وحسب معلومات "المدن"، فإن المدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار، باشر بتحقيقات موسعة فور تبليغه بمسألة فرار الرشيد من السجن، فأجرى اجتماعات طارئة داخل النيابة العامة التمييزية مع مفوض الحكومة في المحكمة العسكرية، القاضي فادي عقيقي، طالبًا منه إجراء اللازم لإعادة إلقاء القبض على الفار الرشيد ومعاقبة كل المُرتكبين في مسألة هروبه.
استجوابات وتوقيف
وبدوره، استجوب عقيقي مجموعة من العناصر الأمنية التابعة لأمن الدولة، وجرى توقيف ثلاثة عناصر. كما استُجوب اللواء طوني صليبا ولكنه ترك رهن التحقيق. وإن كانت مسألة هروب الرشيد حُلت خلال يوم واحد، فإنها تطرح تساؤلات عديدة حول إعادة تسليمه إلى جهاز أمن الدولة، حيث تؤكد معلومات "المدن" أنه كان يتمتع برعاية استثنائية مختلفة عن باقي الموقوفين، فيسمح له بالدخول والخروج من السجن متى ما شاء للقاء عائلته أو لتناول العشاء والتفسح قليلًا. وربما، هكذا تفاصيل تؤكد أن الدولة اللبنانية بأجهزتها الأمنية تحولت إلى ساحة للمحسوبيات، وصارت بعيدة كل البعد عن دولة القانون.
ونتيجة التداول بهذه التفاصيل، تحرك القضاء اللبناني، وطلب القاضي الحجار نقل جميع الموقوفين لدى أمن الدولة إلى سجون قوى الأمن الداخلي، والفضيحة الكبرى أن جهاز أمن الدولة جهز لائحة تضم جميع أسماء الموقوفين لديها، وحولها للقاضي الحجار، ليتبين بعدها أن اللائحة لا تضم إسم الرشيد، وبعد أيام قليلة سُرب خبر هروبه من السجن.
في الخلاصة، تثبت هذه التفاصيل أن الروايات الأمنية هي جزء من المسلسل الأمني الذي تحاول فيه الأجهزة الأمنية إقناع شريحة كبيرة من المواطنين بتفاصيله المفبركة أحياناً. ولكن تبقى "العبرة" في نهاية التحقيقات التي ستتوصل إليها النيابة العامة التمييزية، وبالإجراءات التي يتوجب عليها اتخاذها بهذه القضية.
تعليقات: