تشهد الساحة السنية غلياناً سياسياً غير مسبوق منذ سنوات. فإلى الفراغ الذي خلّفه ابتعاد الرئيس سعد الحريري عن العمل السياسي بضغط سعودي، فرض انخراط تنظيم «الجماعة الإسلامية» في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي تحديات جديدة على أطراف محلية تشمل قوى وشخصيات سياسية ودينية واقتصادية تعتبر نفسها معنيّة بالساحة السنية، بالتزامن مع اهتمام خارجي، خصوصاً من الأميركيين والبريطانيين والسعوديين والمصريين والإماراتيين.المفارقة أن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يتصرف وكأنه أبرز المعنيين بإحداث اختراقات كبيرة في الساحة السنية. ورغم أنه يتصرف كصاحب نفوذ قوي في الشمال من خلال تحالفه مع النائب أشرف ريفي، إلا أنه وجد في الآونة الأخيرة أن الأمر لا يستقيم من دون بناء علاقات أوسع في الشمال وخارجه. وقد حاول بالفعل التواصل مع آل كبارة فلم يلقَ تجاوباً، فيما حاول جنوباً توسيع نطاق علاقات فريقه السياسي والنيابي من شرق صيدا وجوارها إلى إقليم الخروب والشوف، وكذلك في الساحة البيروتية حيث التقى شخصيات من بينها نواب ومقرّبون سابقون من فريق الحريري، سعياً إلى دخول العاصمة عبر شخصيات لها حضورها الاجتماعي والأكاديمي والخيري. وهو أجرى لذلك جولة لقاءات انتهت إلى نتيجة واحدة: «لا رغبة لنا بالعمل السياسي الآن، ولا يمكننا التعاون معك في ظل خلافك الحادّ مع الرئيس الحريري»!
وبحسب مصادر متابعة، فقد تعزّزت هذه الجهود بعد الزيارة الأخيرة للحريري إلى بيروت في شباط الماضي، إذ تدرس قوى عملت في فلك 14 آذار الواقع التمثيلي للعاصمة في حال حصلت انتخابات بلدية أو استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة. وما يقوم به جعجع يصبّ في خانة قيام تحالف سياسي واسع يجمع القواعد السنية مع الزعامة الدرزية والقوى التي تدور في فلك القوات اللبنانية لتشكيل أغلبية نيابية تهدف مسيحياً إلى رفع الغطاء عن التيار الوطني الحر وإخراجه من المشهد السياسي أو تحويله إلى قوة ثانوية على غرار حزب الكتائب، وتهدف «وطنياً» إلى خلق حالة تقول لحزب الله وحلفائه بأنه لا يمكن إدارة البلاد بالصورة التي تجري فيها الأمور اليوم. وتعمل هذه القوى وراء جعجع على خلفية الخشية من أن يعمد الحريري إلى بناء تحالفات مباشرة مع الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط على قاعدة عدم الصدام مع حزب الله، وأنه في حال حصل ذلك فإن هذا التحالف لن يكون لديه مرشح لرئاسة الجمهورية أفضل من سليمان فرنجية.
وعلمت «الأخبار» أن محاولات معراب اختراق السّاحة السنية لم تنجح سوى في «قطف» بعض الشخصيات التي خفت حضورها السياسي كالنائب السابق عمار حوري (التقى جعجع أخيراً) الذي لم يتمكّن من تشكيل حالة شعبيّة بيروتيّة عندما كان نائباً عن «تيّار المستقبل» في العاصمة، ولا حتّى بعد انقطاعه عن الحريري وابتعاده عن التيّار. كما يواجه انتقادات واتهامات بالفساد باعتباره رئيس مجلس أمناء وقف «البر والإحسان» بعدما تقدّم ناشطون العام الماضي باستدعاء إلى المحكمة السنيّة الشرعيّة للتحقيق في أعمال مجلس أمناء وقف البر والإحسان والمؤسسات التابعة له، خصوصاً جامعة بيروت العربية، رغم محاولات المحكمة ودار الفتوى «ضبضبة» الملف.
كذلك لم يتمكّن جعجع هذه السنة من إنجاح الإفطار الذي يدعو إليه المشايخ سنوياً، إذ غابت حماسة علماء الدين السُّنَّة الذين عادةً ما يحضرون هذه المناسبات. وجاءت الإشارة «الفاقعة» من دار الفتوى بعدما تقصّد مفتي الجمهوريّة اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان أن يكون ممثله في الإفطار القاضي الشيخ وسيم فلاح الذي لا يُعدّ من الوجوه القياديّة في عائشة بكّار بعدما اعتاد المفتي أن يُمثّل بأقرب مستشاريه.
محاولات معراب في بيروت لم تنجح سوى في «قطف» شخصيات خفت حضورها السياسي كالنائب السابق عمار حوري
وإلى هذه المحاولات الداخلية لاختراق الساحة السنية، ثمّة جهد ترعاه السفارة المصرية في بيروت، بدعم من السفارة السعودية، لمواجهة «النمو المتزايد» للجماعة الإسلامية. واستنفرت عواصم عربية وغربية معنية قوى ناشطة في الساحة السنية، من دار الفتوى إلى جمعيات وبقايا التيارات الناصرية وأطر إسلامية مناهضة للإخوان المسلمين، لإطلاق حملة تهدف إلى احتواء حالة التضامن مع حركة حماس والعمل على عزل الجماعة بوصفها الحليف الأبرز لحركة حماس. ويجري في هذا الإطار بث شائعات كثيرة، كالحديث عن انقلاب رعته حماس في قيادة الجماعة وعن استقطابها كوادر من شباب الجماعة للعمل في صفوفها، وعن تأمين رئيس الحركة في الخارج خالد مشعل تمويلاً سنوياً كبيراً للجماعة لتعزيز قدراتها كفصيل مقاوم. ويحمل المصريون خصوصاً على الأمين العام للجماعة الشيخ محمد طقوش، واتهامه بقيادة مناورة وضعتها حماس لخلق واقع في الساحة السنية تكون مرجعيته الإخوان المسلمين في المنطقة، بمساعدة من قطر.
وإلى الحملة المباشرة على الجماعة من زاوية علاقتها بتنظيم الإخوان، تجري إثارة موضوع التسليح من ناحية أنه «لم يعد خياراً واقعياً ومرغوباً لدى السُّنَّة في لبنان». وهي نغمة سبق أن قادها تيار المستقبل حتى في زمن الحريري الأب، ويتولاها اليوم الفريق الرافض لفكرة انخراط سنّة لبنان من جديد في المعركة المباشرة ضد العدو الإسرائيلي، ويتهم الجماعة الإسلامية بأنها أداة لتوسيع نفوذ القوى الحليفة لإيران مثل حزب الله وحركة حماس. واستغلّ هؤلاء ظهور مقاومين من الجماعة بسلاحهم خلال تشييع أحد الشهداء في العاصمة لترهيب أبناء بيروت والمدن اللبنانية، علماً أن الجميع يعرف أن هذه الظاهرة لا تعكس نمطاً في سلوك الجماعة ولا نهجاً لديها، وأنها ظاهرة تعبّر عن لحظتها ليس أكثر.
يبدو أن هذا التناتش للساحة السنية في لبنان سيعيدها من جديد إلى الواجهة، لتكون مكاناً لسجال ونشاط اعتقد كثيرون أنهما انتهيا مع إبعاد الحريري عن الحكم وشرذمة التمثيل السياسي البديل.
تعليقات: