مداخيل المسلمين أقلّ من المسيحيين: كيف يتحدَّد الدخل؟

يلعب التعليم دوراً كبيراً في تحديد حجم المداخيل (المدن)
يلعب التعليم دوراً كبيراً في تحديد حجم المداخيل (المدن)


دفعت الأزمة الاقتصادية والنقدية التي يشهدها لبنان، الكثير من الباحثين للتمحيص في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنسيج اللبناني وللسلطة المهيمنة داخله، وكيف تقوم تلك السلطة بإدارة البلاد ومواردها. وفي خضمّ ذلك، يصطدم الباحثون بعوامل تاريخية ما زالت مفاعيلها موجودة رغم مرور الزمن، وتؤثِّر على تحديد مستوى المداخيل.

واللافت للنظر، أن السلطة السياسية بعد الحرب الأهلية، أي في مرحلة اتفاق الطائف، لم تُغيِّر في جوهر البنية الاقتصادية الاجتماعية للمواطنين، وإنما حافظت على جزء كبير ممّا كان سائداً قبل الحرب، رغم تزايد الإنفاق على مشاريع كان يُفتَرَض بها أن تكون تنموية بشكل فعّال.


مدخل لفهم تفاوت الدخل بين الأسر

لفهم مُحدِّدات الدخل في لبنان وتأثير الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في أواخر العام 2019 على معدّلات المداخيل، لجأت مديرة وحدة ترجمة الكتب في المركز العربي للدراسات، وأستاذة بكلية الاقتصاد في الجامعة اللبنانية، لورا الصياح، إلى الأرقام الواردة في دراستين للمؤشّر العربي، الأولى تتعلّق بسنوات 2017 -2018 والثانية بـ2022-2023، إذ تسمح البيانات الواردة في النسخة الأولى بـ"تحديد الخطوط العريضة لمحدِّدات الدخل قبل الأزمة". في حين تتيح النسخة الثانية "النظر فيما إذا أدّت الأزمة إلى تغيير معدّل الدخل، ومقارنته مع النتائج السابقة".

وفي محاضرة لها في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، انطلقت الصيّاح من أن "الدخل لديه عدد من المتغيِّرات التي تحدّده، ومنها مستوى التعليم وجودته، نوع العمل، الجندر، عدد أفراد الأسرة... وما إلى ذلك". وساهمت سياسات الحكومات المتعاقبة في لبنان، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، في مزيد من تعزيز أزمة المداخيل، إذ عمدت الحكومات إلى "تمييز المركز وتهميش الأطراف"، كما أن "السياسات الاقتصادية بعد الحرب، وإن أظهرت مزيداً من الانفتاح الاقتصادي، إلاّ أنها أدت إلى تفتّت نسيج القطاعات الصناعية لمصلحة قطاع الخدمات".

ولزيادة أزمة المداخيل في مرحلة تثبيت الأجور لفترات طويلة "استحدثت الحكومة سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017 والتي عدّلت الأجور في القطاع العام وأعادت توزيعها ضمن قطاع عام متضخِّم".

وأمام هذه المعطيات، رأت الصيّاح أن السياسات المالية والاقتصادية المعلَنة، هدفَت في ظاهرها إلى التعافي، لكنها فجّرت أزمة اقتصادية في تشرين الأول 2019.


تفاوت مناطقي وطائفي

يُعتَبَر البحث الذي عرضت تفاصيله في محاضرة يوم الأربعاء 3 نيسان، "بحثاً أوّلياً، تأتي أهميته عبر السماح بطرح الأفكار بصوت عالٍ"، حسب الصيّاح.

وبالارتكاز إلى مقارنة الأرقام الواردة في دراستيّ المؤشِّر العربي، فإن "التوزيع الديموغرافي الديني والجندري، لم يتغيَّر قبل الأزمة وبعدها، اعتباراً من أن التوزيع جزء من بنية البلد". وتظهر الأرقام تركُّز التكتُّل السكاني في منطقة جبل لبنان التي "تضم حالياً 80 بالمئة من الأشخاص الذين يحصلون على مداخيل تتراوح بين 6 و10 آلاف دولار"، في حين أنه في كل لبنان، "بات متوسط المداخيل للأسرة 33 دولاراً، بعد ان كان قبل الأزمة 1500 دولار للأسرة. ومن هنا يمكن ملاحظة كيف أدّت الأزمة الاقتصادية إلى إفقار شامل".

بالغوص أعمق في مسألة توزيع المداخيل، تقول الصيّاح أن "معدّلات الأجور ما زالت مشابهة لما كانت عليه قبل الأزمة". وبالتالي "ما زال المسلمون الشيعة والسنة يحصلون على مداخيل أقل من المسيحيين. وسكان الريف مداخيلهم أقل من مداخيل سكّان المدن". كما أن كثافة المداخيل، "تتركّز في مناطق جبل لبنان والنبطية".

ورغم تفاوت المداخيل بين الطوائف، إلاّ أن "نسبة 82 بالمئة من اللبنانيين كانوا يقولون أن دخلهم قبل الأزمة كان كافياً، في حين بات 58 بالمئة يقولون أن دخلهم غير كافٍ بعد الأزمة". وعدم كفاية الدخل، دفع اللبنانيين للاعتماد على مصادر لتمويل عجزهم. فاستندوا على جمعيات حكومية وغير حكومية وعلى الأهل والأصدقاء. وحسب الأرقام، فإن "51 بالمئة من المشاركين في دراسة المؤشر العربي، أعلنوا تمويلهم العجز عبر الاستدانة من الأقارب والأصدقاء. وأعلن 14 بالمئة من المشاركين أنهم باعوا أصولاً للعائلة، أي أراضٍ أو ذهب. وأغلب هؤلاء من الدروز، ثم المسيحيين ويليهم المسلمون. وارتبطت أسباب البيع بالهجرة".

وإذا كانت المداخيل الأتية من الأجور في القطاعين العام والخاص قابلة للملاحظة، فإن "ما لم يستطع المؤشر العربي تسجيله، هو الأموال التي دخلت إلى الاقتصاد من خارج النظام المصرفي، أي بما يعرف بالفريش دولار". وهذه الأموال تأتي عبر شركات تحويل الأموال. وبحسب الصيّاح، تلك الدولارات "لم تكن قبل الأزمة داخلة في حسابات العائلات اللبنانية، لكنها دخلت بعد الأزمة، وتذهب لسدّ الحاجات الأساسية. وفسّرت تلك التحويلات سبب ارتفاع المداخيل في النبطية مقارنة مع مناطق اخرى، باستثناء جبل لبنان". وأيضاً يأتي جزء كبير من تلك الأموال الفريش من جمعيات المجتمع المدني NGO.


القضاء على الرأسمال البشري

أحد العوامل الأساسية في الحصول على المداخيل، هو الرأسمال البشري، والذي يتم استثماره بشكل رئيسي عبر عملية التعليم. في السياق، ووفق ما أوردته الصيّاح استناداً إلى أرقام المؤشّر العربي "أثّرت الأزمة في العام 2019 على مستقبل الرأسمال البشري. فالخطر الأكبر للأزمة هو انهيار النظام التعليمي العام والخاص، سيّما الجامعة اللبنانية التي تعتبر ركناً أساسياً للتعليم في لبنان، خصوصاً للطبقة الوسطى التي لم تعد موجودة. وسيدفع اللبنانيون ثمن ذلك الانهيار لسنوات طويلة".


مشاركة الإناث بسوق العمل

يُنظَر إلى مشاركة الإناث بسوق العمل كرافدٍ إضافي لمداخيل الأسرة. وكلّما شاركت المرأة في ميدان العمل، كلما زادت مداخيل الأسرة. ليرافق ذلك النظر إلى عدد أفراد الأسرة. فكلما عملت المرأة، انخفض عدد أفراد الأسرة.

وبالاستناد إلى المؤشر العربي، تقول الصيّاح أن "43 بالمئة من المشاركات في استبيان المؤشّر، كنَّ من ربّات المنازل. توزّعت نسبتهم طائفياً بين 30 بالمئة من الشيعة و23 بالمئة من الموارنة، والباقي للطوائف الأخرى، وهذه النسبة لم تتغير قبل الأزمة أو بعدها".

أما على مستوى الولادات، فإن المعدّل للفترة بين 2022-2023 كان بنحو 2.032 طفل لكل سيدة. وبيَّنَ المؤشّر أن 72 بالمئة من المشارِكات، يعِشنَ في أسر فيها أكثر من 4 أفراد، وتتركز أعداد تلك الأسر في منطقة عكار، في حين أن 58 بالمئة من السيدات في النبطية والشمال لديهنّ أسر فيها أكثر من 4 أفراد، و32 بالمئة من السيدات في البقاع وجبل لبنان لديهن أسر مكونة من أكثر من 4 أفراد".

التأثير الذي تركته الأزمة على مداخيل اللبنانيين، لا يبدو أنه سيضمحلّ في وقت قريب. ذلك أن الطبقة السياسية المناط بها إيجاد الحلّ، تساهم في تعميق الأزمة عبر طرح تعديل الأجور في القطاع العام من خلال سلسلة رتب ورواتب جديدة، بلا تمويل. كما أنها تسمح بانهيار المؤسسات التعليمية والأمن والقضاء وعرقلة الاستثمارات.

كما أن الطبقة السياسية لا تعمل على إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع اللبناني الذي حمل لعقود تفاوتاً في الإنماء المتوازن، ساهم في تفاوت المداخيل. حتى أن الأحزاب لم تعمل لصالح بيئتها بشكل جيّد. فأنفقت المال العام على مشاريع لم تأخذ بالاعتبار احتياجات المنطقة، ما أدى إلى إنفاق ضخم وغير مفيد.

أما محاولات تصحيح الأجور في القطاع الخاص، فبقيت دون المستوى المطلوب، خصوصاً وأن الشركات لم تصرِّح للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن المداخيل الحقيقية، وهو ما يحرم الموظفين من التعويضات المرتفعة لاحقاً.

تعليقات: