لم يعد حجم هذه القروض يوازي اليوم أكثر من 6% من إجمالي الموجودات المصرفيّة (مصطفى جمال الدين)
كشف المصرف المركزي أخيرًا عن الميزانيّة المجمّعة للقطاع المصرفي اللبنانيّ، أي تلك التي تلخّص وضعيّة جميع المصارف معًا، حتّى نهاية شهر كانون الثاني الماضي. أهميّة هذه الأرقام، هي أنها تعكس لأوّل مرّة وضعيّة المصارف اللبنانيّة، بعد اعتماد سعر صرف 89,500 ليرة للدولار لإعداد الميزانيّات، أي وفقًا لسعر صرف السوق الفعلي والواقعي. بهذا المعنى، ولأوّل مرّة منذ بدء الأزمة، سيكون بالإمكان قراءة الأرقام المصرفيّة، من دون أي تأثير لأسعار الصرف غير الواقعيّة والمنخفضة، التي كانت معتمدة لاحتساب الأصول والإلتزامات. التحوّلات الأخيرة في الميزانيّات، تكشف كميّة التشوهات التي شهدتها الأرقام سابقًا، تحت تأثير سعر الصرف.
فقدان 38% من الموجودات
سرعان ما يتّضح للقارئ سريعًا، قبل الدخول في التفاصيل، أن حجم موجودات القطاع الإجمالي انخفض إلى 104.64 مليار دولار بحلول كانون الثاني الماضي، أي بعد اعتماد سعر الصرف الواقعي لاحتساب الموجودات. وبهذا الشكل، يكون حجم الموجودات الإجمالي قد انخفض بنسبة 38%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي 2023، حين بلغ حجم هذه الموجودات أكثر من 167.96 مليار دولار. أو بصورة أوضح، يمكن القول أن اعتماد سعر الصرف الحقيقي للتصريح عن الأرقام، شطب من الميزانيّات المصرفيّة أكثر من 63 مليار دولار من الموجودات، التي كان مصرّح عنها سابقًا.
المُلفت للنظر أيضًا، هو أنّ حجم الموجودات الإجمالي كان يوازي نحو 213.8 في أواخر العام 2020، أي قبل ثلاث سنوات فقط. وبذلك تكون الأرقام الحاليّة قد عكست انخفاضًا بنسبة 51% في الموجودات، بين الفترتين، أي أن حجم الميزانيّة المجمّعة الحالي لم يعد يوازي أكثر من نصف حجمها السابق قبل ثلاث سنوات.
الدخول في تفاصيل الموجودات، يكشف عن التحوّلات التي طرأت على كل بند من بنودها. فعلى سبيل المثال، انخفض حجم توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بنسبة 26% على أساس سنوي، أي بأكثر من الربع، لتقتصر قيمتها على نحو 81.35 مليار دولار.
وبدا من الواضح أن هذا التحوّل ارتبط بإعادة تقييم توظيفات المصارف بالليرة اللبنانيّة لدى مصرف لبنان، ليتم التصريح عنها وفق القيمة الفعليّة للدولار الأميركي، بعدما تم نفخ هذه الموجودات عند اعتماد أسعار صرف منخفضة لتقييمها. وعلى أي حال، من المهم الإشارة أيضًا إلى أنّ حجم هذه التوظيفات بات يمثّل اليوم أكثر 77.74% من إجمالي الموجودات المصرفيّة، وهو ما يعكس مأزق ترابط الميزانيّات المصرفيّة بميزانيّة مصرف لبنان وخسائره.
في الوقت نفسه، تراجعت قيمة محفظة السندات المحليّة التي تملكها المصارف بنسبة 62.93%، لتقتصر على 5.26 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ هذه المحفظة تعبّر عن سندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، المملوكة من المصارف اللبنانيّة، والتي تناقصت قيمتها بالدولار بعد اعتماد سعر الصرف الجديد. وعلى أي حال، لم تعد هذه المحفظة تمثّل حاليًا أكثر من 5% من إجمالي الموجودات المصرفيّة.
أمّا سندات اليوروبوند، أي سندات الدين السيادي المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، فباتت قيمتها في الميزانيّة تقل عن 2.19 مليار دولار، نتيجة بيع المصارف للجزء الأكبر من سندات اليوروبوند التي تملكها. وبهذا الشكل، لم تعد المصارف تملك أكثر من 6% من إجمالي سندات اليوروبوند التي تخلّفت الدولة اللبنانيّة عن سدادها، منذ شهر آذار 2020.
أمّا ديون المصارف الممنوحة للقطاع الخاص المحلّي، فلم تعد توازي –في الميزانيّة المجمعة- أكثر من 6.2 مليار دولار، وهو ما مثّل انخفاضًا بنسبة 65% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. ويمكن فهم هذا التحوّل من زاوية تناقص قيمة الديون الممنوحة بالليرة، بعد اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع. وفي النتيجة، لم يعد حجم هذه القروض يوازي اليوم أكثر من 6% من إجمالي الموجودات المصرفيّة، وهو ما يعكس تراجعًا واضحًا في الدور الذي تلعبه المصارف، كوسيط بين المدخرين والمقترضين.
حجم الودائع الإجمالي: 90.44 مليار دولار
على جهة الإلتزامات من الميزانيّة، أثّر اعتماد سعر الصرف الجديد على تركيبة الودائع المتبقية في القطاع المصرفي، بسبب التغيّر الذي طرأ على تقييم قيمة الودائع المقومة بالليرة اللبنانيّة. فسعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّة، هو الذي يحدد قيمة الودائع بالليرة عند التصريح عنها بالدولار الأميركي.
فحجم ودائع المقيمين بلغ حتّى أواخر كانون الثاني 69.46 مليار دولار، منها 68.92 مليار دولار من الودائع المدولرة. أمّا ودائع غير المقيمين، فباتت توازي نحو 20.98 مليار دولار، جُلّها من الودائع المُدولرة، باستثناء قيمة صغيرة من الودائع بالليرة اللبنانيّة التي لا يتخطّها حجمها 31.66 مليون دولار أميركي.
وبهذا الشكل، يمكن الاستنتاج أن حجم إلتزامات القطاع المصرفي الإجماليّة للمودعين بات يوازي اليوم 90.44 مليار دولار، في مقابل خسائر تقدّرها خطّة الحكومة –غير المحدّثة- بأكثر من 73 مليار دولار. وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن حجم الودائع القابلة للسداد، والذي يمثّل الفارق بين حجم الخسائر وقيمة الودائع، بات يوازي نحو 17.44 مليار دولار أميركي، أي نحو 19% من الودائع المترتبة على المصارف اللبنانيّة اليوم.
في النتيجة، يمكن القول أنّ الأرقام الموجودة حاليًا تعبّر بشكل أوضح عن وضعيّة المصارف من ناحية إلتزاماتها وموجوداتها. غير أنّ المصارف لم تبدأ بعد بنشر أهم ما يفترض مراقبته، بعد اعتماد سعر الصرف الفعلي لإعداد الميزانيّات، وهو وضعيّة الأموال الخاصّة لكل مصرف على حدة، والتي يمكن استخلاصها من الميزانيّات المصرفيّة الخاصّة بكل مصرف. فهذا المؤشّر، هو الذي يسمح بتحديد المصارف القادرة على الاستمرار، بعد إتمام الحد الأدنى من عمليّات إعادة الرسملة، المطلوبة لاستيعاب الخسائر.
تعليقات: