أشباح وموساد وأحداث تهدد البلاد: السياسيون ينصاعون للغوغاء

يوجب بالكثيرين التوجه إلى البيوت والإنكفاء بدلاً من اعتلاء المنابر (Getty)
يوجب بالكثيرين التوجه إلى البيوت والإنكفاء بدلاً من اعتلاء المنابر (Getty)


تعود "الأشباح" مجدداً إلى لبنان. "أشباح" جداً حقيقية تقتل وتخطف وترهب بأساليب خفية. أهي أشباح داخلية أم خارجية أم الاثنين معاً؟ وهل أهدافها تفجير الوضع برمته على وقع انقسام داخلي عمودي، في ظل تصعيد عسكري إسرائيلي يمكن أن يلتقي مع تشظيات الداخل؟ أم لها أهداف سياسية للمرحلة المقبلة، طالما أن الأحداث المتوالية لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وتعمل على إرساء جو أمني في البلاد يستدعي مقاربات مختلفة لضبط الوضع؟ أهي "الأشباح" أم الموساد في قلب بيروت، يسرح ويمرح بعمليات بعضها معروف وتم اكتشافه، وبعضها الآخر لا يزال مطموراً.

إذ أن اسم الموساد برز مجدداً في عملية تصفية الصرّاف محمد سرور. فقبل اغتيال سرور، ألقت الأجهزة الأمنية اللبنانية القبض على أشخاص في الضاحية الجنوبية لبيروت يحملون جوازات سفر ديبلوماسية. ولطالما عمل الإسرائيليون بهذه الطريقة. ولكن لا بد أن يكون معهم بعض المتعاونين في الداخل. وما يعزز هذه السردية أن المرأة التي استدرجت سرور لبنانية، وقد توارت عن الأنظار مع الفرقة المحترفة التي نفذت العملية، وتركت كل أدوات الجريمة في مسرحها ولكن بلا أي دليل، من خلال مسح البصمات بالماء وسوائل التنظيف.


سلسلة مريبة من الأحداث

يبقى لبنان بلد السرديات المتناقضة، وهي على الرغم من دقتها أو خفتها، تقيم فيها المخاطر دائماً. سلسلة أحداث أمنية شهدها لبنان في الأيام القليلة الماضية. عملية خطف وقتل منسق القوات في جبيل باسكال سليمان. رد فعل سريع على السوريين في لبنان واعتداءات ودعوات لخروجهم من المناطق التي يقطنون فيها. عمليات متنقلة من اعتداءات على مكتب الحزب السوري القومي الإجتماعي في جديتا، واحراق سيارة للحزب القومي في بيصور. وعملية تصفية واغتيال محمد سرور الذي يعمل في مجال الصرافة وتحويل الأموال، ومتهم أميركياً بإيصال أموال من الحرس الثوري الإيراني إلى حركة حماس.

المتعاطفون مع باسكال سليمان، يتبنون سردية أن ما جرى هو عملية اغتيال سياسي منظمة. وأن الجريمة وإن تورط بها سوريون أو عصابة سرقة سيارات، فهي لم تكن لتحصل لولا سقوط الدولة وذوبان الحدود المفتوحة على التهريب، ولولا سيطرة حزب الله على لبنان. فيما المتعاطفون مع الحزب يتهمون القوات بمحاولة الاستثمار السياسي بما جرى. ويحصرون ما حدث بالمسألة الجنائية والسرقة. أما المتعاطفون مع محمد سرور، فشددوا على أن ما تعرض له هو جريمة اغتيال مدبرة ومنظمة ومخطط لها بدقةز وذهبت الاتهامات باتجاه الموساد الإسرائيلي، فيما خصوم حزب الله وضعوا العملية في سياق التصفية الجنائية بسبب الأموال وإحتمال السرقة أو الصراعات بين مجموعات الصرّافين.


وزير الداخلية وسائر السياسيين

لكن الواضح أن كل هذه العمليات ثمة ما يربط بينها، وهو هشاشة الوضع الأمني أو سعي جهات إما داخلية أو خارجية لتفجير الوضع. وهو ما انعكس في الأحداث المتنقلة، بما حملته من تحريض على العنف وما قد يستدرجه من عنف مضاد.

جانب واسع من الاعتداءات التي طالت سوريين لا ذنب لهم، من عمّال أو تجار أو أصحاب محال تجارية أو لاجئين، يتحمل مسؤوليتها وزير الداخلية الذي خرج في مؤتمر صحافي مطلقاً عنانه لتصريحات شعبوية، أقل ما يقال فيها إنها بعيدة عن الدقّة. إذ اتهم السوريين بالعموم بالمسؤولية عن الكثير من الجرائم التي تحصل، وكرر عبارة "السوريين" أكثر من مرة. هكذا من دون أي احتساب لا للكلمة ولا للموقف ولا للصدى، وخص بالذكر نسبة المسجونين السوريين في السجون اللبنانية والتي تبلغ 35 بالمئة، وكأنه بذلك أعطى الضوء الأخضر لمن يريد البحث عن "فشة خلق" ليذهب ويصب جم غضبه على هؤلاء السوريين.


الانصياع للغوغاء

ليست المرة الأولى التي يمارس فيها مسؤولون لبنانيون مثل هذه الركاكة السياسية والإنسانية والأخلاقية، لطالما من تبوأ مركزاً في السلطة استسهل إلقاء اللوم على السوريين، فحملهم مسؤولية انهيار الدولة ومؤسساتها، وانقطاع الكهرباء والانهيار الإقتصادي والمالي، بالإضافة إلى الانهيار الأمني. ففي علم التعميم وصناعة التفاهة المجتمعية، أو حتى في "أسطرة السلطوي"، لا بد دوماً من اختراع سبب ما خارج عن الإرادة، وفوق القدرة على السيطرة، لتحميله كل مسؤوليات الفشل، تماماً كما حملت أنظمة عربية كثيرة نتائج فشلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بذريعة أنها تخوض معارك مستمرة لتحرير فلسطين.

بمثل هذا النموذج يحمل المسؤولون اللبنانيون فشلهم وانهياراتهم منذ سنوات للاجئين السوريين. وهنا المشكلة لم تعد "طائفية أو مذهبية" كما يحاول البعض تصويرها، والدليل الأبرز أن موقف وزير الداخلية كان في غاية الانصياع إلى غوغائية العوام، فيما كان موقف القوات اللبنانية المستدرك واضحاً برفض تحميل المسؤولين للسوريين. أما الموقف الأبرز فكان لرئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، والذي قال بوضوح إنه لا يمكن تحميل أبرياء وزر جريمة قام بها أشخاص محددون. كما أن الجريمة يمكن أن يرتبكها سوري أو غير سوري.

وما غاب عن بال الوزير الفذّ (القاضي أيضاً!) أن شبكات العصابات غالباً ما تتداخل فيها عناصر من جنسيات مختلفة، ويمكن لهذه العصابات السورية أن تكون مشغّلة من أطراف لبنانية. أما ما هو أخطر أن يستسهل الوزير هذه الاتهامات للسوريين، وقدرتهم على التحرك بهذا الشكل في لبنان، باعتراف ضمني أو استعراضي من قبله، بأنهم أقوى من الدولة وكل أجهزتها. وهو ما يوجب بالكثيرين التوجه إلى البيوت والإنكفاء بدلاً من اعتلاء المنابر وإلقاء الخطب العصماء.


الأهواء السياسية

ما لا نقاش فيه أن أزمة اللجوء السوري إلى لبنان هي ازمة جدية وعميقة، ومن يتحمل مسؤوليتها ومسؤولية تنظيمها أو الفشل في إدارتها هي الدولة اللبنانية والحكومات المتعاقبة، بالإضافة إلى المجتمع الدولي. لكن المشكلة الأكبر هي في طريقة التعاطي مع هذا الملف غب الطلب، ووفق الأهواء السياسية. وهو ما ينذر بانفجارات متوالية قد تؤدي إلى تشظيات كبيرة على المستوى الأمني والعسكري، لا سيما أن كل المقاربات لهذا الملف تشير إلى هشاشة في التعاطي. وهي هشاشة قد بدأت مع ادعاءات متوالية عن "انتصارات" جرى تحقيقها على هذا الصعيد، بنجاح خطط إعادة اللاجئين في مراحل سبقت، ليتبين أن كل الاستعراضات لم تدم لأكثر من لويحظات، استشاط فيها أبطالها أمام العدسات ووراء الميكروفونات.


أهي خفة البلاد وهشاشتها، التي لا يمكن أن تُحتَمَل أو تَحتَمِل أي حدث أو حادثة أو جريمة، ليندفع بعض أهلها إلى دعوات الانفصال والطلاق، أو ليسارعوا إلى الوقوف على شفير الحرب الأهلية. أم خفّة كائنات من المصنّفين في خانة المسؤولين أو ولاة أمر الأمن. وهي بالتالي خفة فيها الكثير من اللامسؤولية، واستسهال رمي الاتهام وفق المعزوفة السائدة، وإن حملت الكثير من ثقافة الغوغاء وتفاهتها. وبذلك لا يمكن لهذه الخفّة أن تُحتَمل خصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة.

تعليقات: