عادت عوارض المرض البنيوي تظهر في الاقتصاد اللبناني. من أبرز الدلالات استعادة النشاط الاستهلاكي المفرط المستند إلى استيراد هائل ووهم تثبيت سعر الصرف، لكنّ اكتمال اللوحة يتطلب استعادة «الثقة» باعتبارها حاجة ملحّة للقطاع المالي لإحياء المصارف. وهذه الثقة تدمّرت بين كل الأطراف المعنية، إذ كانت مبنية على الخداع والتضليل طوال السنوات الـ30 الماضية وكانت الأداة الأساسية لعملية نهب الودائع. لكنّ الثقة بين المصارف وزبائنها، تختلف بمفهومها، عن الثقة بين المصارف والسلطة، أي علاقتها مع الحكومة ووزارة المال وعلاقتها مع مصرف لبنان. فالأولى تخضع لقواعد تجارية، بينما الثانية هي علاقة ارتباط بصانعي القرار لا يمكن أن تُبنى إلا على المصلحة العامة.
جشع المصارف وفِخاخها
ماذا حلّ بـ«الثقة» في عام 2019؟ الإجابة واضحة للعيان في ما خصّ الثقة بين المصارف وزبائنها، إذ لا يتطلب تفسيرها الكثير. فالمصارف لا تستقبل ودائع ولا تقدّم القروض. قبل ذلك، بنيت هذه العلاقة بين «الطرفين» على أساس الاستقطاب الشرس للرساميل. في منتصف التسعينيات عندما اتّخذت الدولة قرار الاستدانة بالدولار واندلع صراع بين المصارف على الانخراط في اللعبة أو رفضها، انفجر التنافس بينهما لاستقطاب الودائع. المصارف التي وافقت بدأت تقدّم فوائد مرتفعة على الودائع وتروّج أن المصارف الأخرى ترفض مشاركة أرباحها مع الزبائن، بينما المصارف الرافضة روّجت بأن منافسيها ينهبون الودائع. انتهى الأمر بهدنة تتيح تعزيز «الثقة» التي بنتها المصارف مع زبائنها على أساس الفوائد المرتفعة. وبهذا المعنى، فإن ما هو أهم من استقطاب الودائع، أن تبقى مودعة في المصارف لفترة طويلة. وعلى جانب القروض، جاء دعم الدولة ثم دعم مصرف لبنان للفوائد، لتعزيز ثقافة الاقتراض بهدف الاستهلاك. وفي المحصّلة، ازدادت قيمة الودائع في القطاع المصرفي من 4.7 مليارات دولار في عام 1990 إلى 91 مليار دولار عام 2023 (كانون الأول).
استمرت هذه العلاقة المبنية على هذه «الثقة» حتى انفجرت في عام 2019. في هذه الفترة، كانت الثقة هي الفخّ الذي كانت للمغتربين حصّة كبيرة فيه بعدما وجّهوا القسم الأكبر من ادّخاراتهم نحو مصارف لبنان. لم تنكشف اللعبة أمامهم إلا عندما تبيّن أن المصارف تحتجز ودائع بقيمة تفوق 100 مليار دولار. أما المقترضون، وهم بغالبيتهم من رجال الأعمال المحليين الذين انخرطوا في لعبة الاقتراض المدعوم، فقد وجدوا في الأزمة فرصة للتسديد بثمن أدنى وصل إلى 12% من قيمة القرض الاسمية. وكانت قد وصلت قيمة القروض في أيلول عام 2019 إلى 54 مليار دولار، ثم سُددت بعد الأزمة المالية على سعر صرف 1500 ليرة حتى شباط 2023 وذلك عند تغيّر سعر الصرف إلى 15000 ليرة، ووصلت قيمتها إلى 7.4 مليارات دولار في كانون الأول عام 2023.
علاقة نفعية
بالنسبة إلى «الثقة» بين المصارف مع سلطة الحكم والتنظيم المتمثّلة في الحكومة ووزارة المال ومصرف لبنان، فإنها لم تكن مفهومة في سياقها الطبيعي. فالسلطة الناظمة وظيفتها أن تفرض على القطاع المالي رؤيتها الاقتصادية وأن تجعله أداة من أدواتها المالية والنقدية لتحقيق أهداف اجتماعية مهما كان شكلها وعمقها. لكن في لبنان بنيت هذه العلاقة على أساس نفعي وفئوي بالكامل وبتوجيه من السياسة النقدية. فالحكومة، وممثلوها السياسيون، لم يكن لديهم أي مشروع باستثناء الانصياع لهذه الأدوات وتقاسم الأرباح. فالسلطة في لبنان لم تميّز بين مصارف تقدّم خدمات، ومصارف تقدّم قروضاً. وجرى اعتبار كل أنواع القروض، الاستهلاكية والعقارية والإنتاجية في سلّة واحدة بمعزل عن نسب التركّز. والأهم أن السلطة سمحت بأن تكون هذه القروض بالعملة الأجنبية، أي بالمدّخرات التي أودعها المودعون في المصارف. وتنافست هذه الأخيرة على استقطاب الودائع وتبديدها بهذا الشكل، بالإضافة إلى إيداعها لدى مصرف لبنان الذي يقرضها للدولة. فالمصارف كانت دائماً تدّعي بأنها ترفض إقراض الدولة، لكنها وافقت على «لعبة» إيداع المصارف لدى مصرف لبنان على أن يقرضها هو للدولة. عملياً، كانت الأرباح المحققة في المصارف ناتجة من الأموال الجديدة التي تتدفّق سنوياً وتصبح الحاجة إلى كميات أكبر في السنوات التالية. يروي أحد المطّلعين ما قاله حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في إحدى الجلسات، إذ سئل: كيف تمكنت من تنفيذ الهندسات المالية التي استقطبت كل هذه الأموال عبر المصارف؟ ردّ سلامة: الجشع. هذه الكلمة تختصر «ثقة» المصارف بمصرف لبنان. حتى إن أصحاب المصارف كانوا يردّدون دائماً بأن لبنان «لا يسقط»، فهم اعتادوا على نوع من «الثقة» مرتبط بقدرات سياسية للتسوّل كما حصل في مؤتمرات باريس، أو مرتبط بالشخص كما حصل أثناء الهندسات حين ظنّوا أن رياض سلامة رجل أميركا وأوروبا في لبنان. «ثقة» مفرطة امتدّت نزولاً من أعلى الهرم نحو الصناديق التعاضدية في الضمان الاجتماعي ونقابة المهندسين ونقابات المحامين والأطباء الذين خسروا كل أموالهم ورفضوا التعامل مع احتمال الانهيار لأنهم كانوا معتدّين بهذه «الثقة».
فرص الترميم
استعادة الثقة بين الزبائن والمصارف، لا يمكن أن تتم «قبل استعادة الثقة بالسلطة السياسية انطلاقاً من تأمين فصل السلطات والحوكمة» يقول كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس، نسيب غبريل. ويبرر بأن «سوء استخدام السلطة السياسية في السابق سبّب أزمة الثقة، وبالتالي أزمة السيولة». لكنّ الفوز مجدداً بثقة الزبون «يتطلّب إجابة على ثلاثة أسئلة يطرحها المودعون الآن: ما مصير الودائع؟ بأي طريقة نستردّها؟ بأي مهلة زمنية نستردّها؟».
ورغم كل هذا الدمار اللاحق بالعلاقة بين الزبون والمصرف، يقول المدير العام في بنك عودة، خليل الدبس، إن «الثقة ترتبط بإدارات المصارف»، بمعنى أن هناك مصارف ما زالت لديها علاقات مع زبائنها. وهذا التفاوت يعود إلى أن الأسئلة المثارة تتمحور حول نظرة المودعين إلى الفخّ الذي وقعوا فيه «إذ إن بعضهم يعتقد أن المصارف وقعت ضحية المصرف المركزي». ويشير إلى أن «الثقة بالقطاع المالي لم تنقطع 100% (...) لكن ليست لدينا ثقة لكي نفتح حسابات مجمّدة قبل أن تُحل مشكلة الدولة اللبنانية ومصرف لبنان».
كانت «الثقة» الفخّ الذي وقع فيه المغتربون الذين حوّلوا ادّخاراتهم إلى مصارف لبنان
في الواقع، يقف الجميع الآن أمام مشهد انفراط عقد الثقة بين الأطراف المعنية. المصارف تطالب بأن تتحمّل الدولة المسؤولية الكبرى وتطالب بحمايتها من أي مسّ بما راكمته من أرباح وأصول. لذا، ترفض كل الطروحات المتعلقة بتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة المصارف ظنّاً منها أن هناك بنية تحتية لـ«الثقة» التي كانت قائمة مع القوى السياسية يمكن استعادتها لاحقاً. أما السلطة السياسية والنقدية فهي تمارس نوعاً من «التقية» يتيح لها غضّ النظر عن المصارف رغم الاتهامات المتبادلة بينهما، أحياناً. فالقضاء مثلاً لم ينظر في مئات الدعاوى المرفوعة ضدّ المصارف. والدولة لم تحدّد سعر صرف لليرة مقابل الدولار بشكل واضح ومباشر، وتخضع في كل مرّة لما تريده المصارف. وتحت عنوان «قدسية الودائع» يجري تمرير كل هذه الممارسات التي نتجت من انفراط عقد الثقة بينهم. في السياق نفسه، تمارس المصارف اللعبة نفسها مع الزبائن. فهي تظنّ أنه بمجرّد بقائها على «قيد الحياة» يمكنها أن تستعيد ثقة الزبائن. فالمودعون ليست لديهم خيارات لادّخار أموالهم سوى المصارف الموجودة في السوق. والراغبون في الحصول على التمويل يرون أن الاقتراض من المصارف ضروري لتنشيط الاقتصاد. إنما في الوقت نفسه، تطالب المصارف بحمايتها قانونياً من المقترضين الذين يسدّدون قروضهم بثمن أدنى من قيمته الأصلية، وتطالب بأن تكون لديها حماية ضدّ الدولة أيضاً.
تركّز القروض
بحسب أرقام مصرف لبنان، في أيلول من عام 2019، كانت الكتلة الكبرى من القروض تتركز بين 1.45% من المستفيدين في قطاع المقاولات والبناء و21.05% من المستفيدين من القروض السكنية، ومعاً يشكلان 35% من مجمل القروض. وهي حلقة تغذّي بعضها خلقتها سياسات المصرف المركزي، حيث عزّز الطلب على العقارات من خلال القروض السكنية وعزّز العرض في قطاع البناء من خلال القروض، وذلك بين حلقة ضيقة من المستفيدين الأثرياء الذين لديهم وجود في السلطة وحصص في المصارف ويملكون معظم العقارات والحصة الكبرى من القروض. بينما حصص القطاعات الإنتاجية أدنى بكثير، حيث إن حصة قطاع الزراعة من مجمل القروض كانت 1%، وحصة الصناعة 10.6%، حيث أكثر من 90% من القروض كانت تذهب للصناعات التحويلية.
تعليقات: