مسألة عودة السوريين تتخطى إرادة اللبنانيين (Getty)
عندما وقعت جريمة العزونية، في منطقة عاليه بمطلع الأسبوع الماضي، والتي ذهب ضحيتها المغدور ياسر كوكاش، تحدثت وسائل التواصل الاجتماعي عن توارٍ جماعي للسوريين ودراجاتهم النارية عن الطرقات. تناقُل مثل هذه الاخبار خلّف بالطبع إيحاءً عن حالة غليان تهيىء لعقاب جماعي على غرار ذلك الذي رافق قتل باسكال سليمان قبل أيام. وعليه، مع أن رد الفعل في العزونية بقي مضبوطاً، إلا أنه لم يبدد حالة القلق من الانتقام، خصوصاً أن أرضيته الخصبة يؤمنها تنميط شعب بصفات "الكذاب" و"الحرامي" و"المجرم" و"المتخلف"، ليشكل ذلك مبرراً لتجريدهم من إنسانيتهم.
العقاب الجماعي
لم تمض ساعات حتى صدر بيان عن الجيش اللبناني، يؤكد فيه توقيف اثنين من المتورطين في جريمة العزونية. وتبين فعلاً أنهما سوريان. إلا أن رد الفعل الذي انتُظر من عاليه، تُرجم بقاعاً، وتحديداً بمخيم في برالياس تقطنه عائلات نزحت منذ 11 سنة من تل الضمان، وتبيّن أن أحد أولادها متورط في الجريمة، ومتوار عن الأنظار. فجاء العقاب الجماعي بتسوية المخيم الذي يضم 22 خيمة على الأرض، واقتياد ذوي المشتبه به.
كاد المشهد يتكرر في مخيم ببلدة المرج يضم 95 خيمة، حيث يقطن أيضاً إثنان من المشتبه بهم، إلا أن تدخلات دينية ومحلية حالت دون ذلك، فنجا سكانه من وبال جريمة ارتكبها أحد قاطنيه وهددت بتشريدهم.
بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت الجيش إلى هدم المخيم في برالياس على رؤوس أهله، والتي ذكر شهود من البلدة أنها جاءت كرد فعل على محاولة تصد له في تنفيذه لمهمته، إلا أن أمرين برزا لدى الاستماع إلى أبناء المخيم.
أولاً: قال من فقدوا خيمهم إنهم لم يجدوا من يأويهم من عائلاتهم في المخيمات الأخرى. وعلى رغم تذرع من رفضوا استقبالهم بأن الجيش حذر المخيمات وأشاويشها من استقبالهم، بدا واضحاً أن دافعهم هو الخوف من عقاب قد يتعرض له من يأويهم.
ثانياً: عدم تنديد أهل المخيم أنفسهم بالعقاب الجماعي، مقدمين عائلة القاتل كأضاح، في محاولة للنجاة بأنفسهم من تداعيات الجريمة وعقابها.
لا شك أن أصابع الاتهام الموجهة للسوريين في جرائم متكررة، أفقدت مجتمعاتهم المقيمة الشعور بالأمان، الذي جعلها غير متحمسة للعودة إلى سوريا بصرف النظر عن تشابه الظروف المعيشية الصعبة في البلدين.
وقد تسلل هذا القلق حتى إلى المجتمعات التي لم يطلها بعد خطاب الكراهية والتحريض، وتحديداً في البقاع وقراه السنّية.
منتحلو صفة النزوح!
تنقسم آراء المجتمعات المضيفة للنازحين في هذه المنطقة، بين غير مبال بوجودهم، ومطالب بمغادرتهم، ولكنها لا تبدي أي حدة تستدعي مواجهتهم بالقوة. وعليه مع أن المقيمين في هذه القرى يستشعرون مؤخراً جواً غير مرحب بهم، فهم لم يفقدوا أريحيتهم في أماكن سكنهم.
ما يبرز في القرى البقاعية السنية تحديداً هو رفض تعميم الصفات الجرمية على السوريين، واعتبار ذلك تخل عن القناعات الأولى التي جعلتهم يستضيفون من هربوا من ظلم نظام بلادهم. وعليه، تميّز هذه الفئة من اللبنانيين اللاجئين السوريين بين مؤيد للنظام ومعارض له، لتلصق أي جريمة بمن ينتحلون صفة النزوح. ويعزز قناعاتها تردد هؤلاء إلى بلادهم عبر المعابر غير الشرعية، حيث يجدون ملاذهم من أي ورطة.
وللدلالة على صحة كلامهم يشير أصحاب هذا الرأي إلى كون القاتلين في جريمتي جبيل والعزونية توجهوا أو حاولوا التوجه إلى سوريا فوراً. فيطرحوا السؤال: "من يجرؤ على ارتكاب جريمة والفرار إلى سوريا إذا لم يكن إبن النظام؟".
ومن هنا يحاول هؤلاء أن يفصلوا بين من يستفيد من مكتسبات النزوح السوري، ومن هرب فعلاً من النظام في بداية الأحداث، ويخشى انتقامه. والفئة الثانية برأيهم فقدت بيوتها وممتلكاتها في سوريا، وليس لديها أمل من دون حل أممي شامل لأزمة سوريا. وبالتالي، فإن خوف هذه الفئة من النظام وداعميه، هو برأيهم يوازي خوف اللبنانيين من التداعيات التي باتت تخلفها الإقامة الطويلة للنازحين في لبنان، سواء على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وحتى على الصعيد الوجودي. وهذا ما يجعل اللبنانيين ليسوا الوحيدين الخائفين من الارتكابات الجرمية، إنما أيضا السوريين الذين لا تقتصر خشيتهم على تعزيز خطاب الكراهية تجاههم، وإنما قلقهم من أن تدفعهم هذه التداعيات كرهاً إلى أحضان النظام مجدداً.
الدولة ومسؤولياتها
ولكن حتى داخل هذه المجتمعات التي لا تتقاسم الكراهية تجاه السوري، ليست قضية النظام السوري وحدها التي تصم الأذان عن خطاب الكراهية، فهناك أولاً العامل الديني والجغرافي، وخصوصاً لكون الجرائم التي وقعت بعيدة عن منطقة البقاع. وهناك ثانياً العامل الاقتصادي. إذ أن جزءاً من المجتمع مستفيد من هذا النزوح، سواء على مستوى الأفراد أو حتى على مستوى السلطة المحلية التي تسعى للمكاسب كمجتمع مضيف.
ولكن ماذا لو خطينا خطوة إلى الوراء، ونظرنا إلى المشهد بعيداً عن انفعالات قد تكون مبررة بلحظة غضب. ماذا لو كانت هذه العصبية تحمل من عناصر توتير العلاقات بين شعبين مقيمين في بلد واحد، من دون أن تكون قادرة فعلاً على إعادة السوريين إلى ديارهم كما يطالب جزء كبير من اللبنانيين.
عملياً لم يعد جائزاً نكران التداعيات التي يخلفها ملف النزوح السوري بظل سلطة عاجزة عن إدارة أمور شعبها على مختلف المستويات. ولكن هل يشكل ذلك مبرراً كاف لإسقاط المسؤوليات الفعلية؟
لدى الحديث عن المسؤوليات، تصبح السلطة اللبنانية المتهمة الأولى بسوء إدارة هذا الملف. فهي من استقال من دوره في الحد من الاندفاعة التي أظهرتها بعض المجتمعات لاستقبال النازحين وإيوائهم في مخيمات غير رسمية، لا تملك الدولة حتى الآن الداتا الواضحة لأعداد المقيمين فيها. وهي من أهمل تطبيق القوانين بصرامة فيما يتعلق بالعمالة السورية. وهي حتماً مسؤولة عن عدم فرض سيادتها على الحدود، وإبقائها رهينة واقع شاذ فرضته القوى المسيطرة على المعابر غير الشرعية.
ومن دون أن يعفى المجتمع الدولي من مسؤوليته، فإن اللبنانيين أفراداً وجماعات كانوا شركاء أيضاً في تعميم حالة الفوضى ببلدهم. وميزة الشعب الذي يتقنص الفرص، يبدو أنها انقلبت على اللبنانيين هذه المرة، لتوقعم في براثن الفوضى. فأصبحوا شركاء في ارتكابات ضيوفهم الذين يتهمونهم بالتعدي على مساحتهم الاقتصادية.
الانفلاش الاقتصادي
في المخيم الذي سوي بالأرض نموذج بسيط عن ما ذكر. فصاحب الأرض يجاهر بمكتسبات أمّنها للمخيم من خلال جر المياه النظيفة إليه. وهو بالطبع لم يفعل ذلك بطريقة رسمية. كما أنه يفاخر برفع مجارير المخيم، ولكنه لا يتردد بالإشارة إلى كونه يحولها مباشرة لمجرى نهر الليطاني المجاور. هو إذاً من الفئة التي وجدت في النزوح فرصة ربح. وبفضله وفضل آخرين تمدد النزوح في قرية برالياس تحديداً، حتى بات فيها 1700 مؤسسة من أصل 2400 مشغولة من قبل الضيوف.
مثل هذا الانفلاش الاقتصادي شجّع خلال الفترة الماضية النزوح الجماعي إلى لبنان، للذكور خصوصاً. فكانت المعابر غير الشرعية سبيلهم الوحيد للتنقل بين لبنان وسوريا. لتصبح هذه المعابر أيضاً ملاذاً للتواري والفلتان من العقاب.
ما ذُكر أوصل لبنان عموماً إلى حالة من الخوف المعمم على شعبين في دولة واحدة. وكل ذلك وسط توجس من أداء النظام السوري الذي ينأى بنفسه عن ملف شعبه المشرد في دول العالم، ليقف متفرجاً على الأزمات التي يخلفها في بلده الجار. وهذا ما يضع الدولة وفقاً لمراقبين أمام مسؤوليتها في إيجاد قنوات التواصل الرسمية مع الجانب السوري، لسؤالها لماذا لا توجه الدعوة حتى الآن إلى مواطنيها كي يعودوا، أو اقله تبدد الهواجس التي تمنعهم من العودة، وفي مقدمها ما يتعلق بالخدمة العسكرية الإلزامية؟
بات واضحاً في المقابل أن مسألة عودة السوريين تتخطى إرادة اللبنانيين، أياً كانت درجات الانفعال التي بلغوها. فيما مزيد من التحريض سيمعن في تأجيج النار المشتعلة أساساً تحت الرماد، ويخشى أن يهيئ لانفجار يعتقد البعض أن لا مفر منه بظل الإمعان في الإدارة السيئة لهذا الملف.
تعليقات: