لا يحتاج قرار فصل النائب الياس بو صعب من التيار الوطني الحر إلى كثير عناء ليُقرأ بوضوح. ثلاثة عناصر يُمكن التوقف عندها لقراءة القرار - الرسالة: الخلفية والسبب والتوقيت. الثابت أنه لم يعد لنائب رئيس مجلس النواب مكان بين العونيين في زمن «ضبط الإيقاع الداخلي» و«الحدّ من النشاز» وفقَ مبدأ الثواب لـ«المطيعين» والعقاب لـ«العاصين». والثابت، أيضاً، أن أبعاد فصله، تتعدّى تمايز المواقف، بحسب كلام متواتر، إلى تمايز التجربة. فالرجل ليسَ حالة اعتراضية في التيار يمكنها إلحاق ضرر ببنيته الشعبية أو التأثير في القاعدة الناخبة العونية، بل صاحب «صوفة حمراء» كون «أدواره تعدّت الحدود المسموح بها لشخص محسوب على التيار».«قصة بو صعب» لا تختلِف كثيراً في تفاصيلها عمن شملتهم قرارات الفصل والإبعاد، أو ممن قد يطاولهم «موسم قطع الرؤوس» (يتردّد أن النائب آلان عون تبلّغ مجدداً قراراً بالمثول أمام لجنة التحكيم لورود شكوى ضده وأنه قد يكون التالي في القائمة). في الممارسة، طيلة سنوات، الخلافات بين رئيس التيار النائب جبران باسيل وبو صعب هي، في ظاهرها، الخلافات نفسها بين الأول و«خصومه» داخل التيار، والتي راوحت بينَ حدّين: إما رفض الامتثال الكامل لأوامر باسيل أو تبنّي مواقف متمايزة عن موقف التيار الرسمي. اللائحة هنا تطول، تبدأ من وزارة التربية التي تولاها بو صعب في حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014، وكان يرفض محاولات باسيل «تحديد النهج» في إدارة الوزارة. محطات الخلاف كثيرة تظهّرت في استبعاد بو صعب عن أولى حكومات العهد في مجلس وزراء كان يضم 3 مقاعد للروم الأرثوذكس، ثم في هجوم مستشاري الرئيس ميشال عون (عبر مقدّمة إخبارية نارية كتبها الصحافي جان عزيز ضد بو صعب في محطة أو تي في). وتؤكد مصادر أن بو صعب كانَ الأكثر اعتراضاً وصراحة في الاجتماعات، ولم يتردّد في اتخاذ مواقف متمايزة في ملفات كثيرة، منها حراس الأحراج و«تقديم الساعة» ودعم ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الملف الأخير، الأهم بالنسبة إلى باسيل، لم يخف بو صعب أنه لم يلتزم بالتصويت في جلسة الانتخاب لأزعور.
بقيت هذه الخلافات محدودة التأثير الفوري، لكنها تراكمت شيئاً فشيئاً، وبدأت «تغلي وتفور» بسبب نارها التي ارتفعت في أكثر من مناسبة. مرة، حين ترشّح بو صعب إلى موقع نائب رئيس مجلس النواب، وهو أمر عارضه باسيل قبل انتخاب بو صعب ثم اعتبر أن «المنصب غير مهم وغير ذي فائدة للتيار». ومرة أخرى في عشاء هيئة قضاء المتن الذي انسحب منه بو صعب بسبب لطشات باسيل الذي قالها يومها إن «التيار هو للمناضلين وللمضحّين وللمقاومين، وقد يمرّ فيه أصحاب مصالح ومتسلّقو مناسبات وقانصو مواقع، لكن إذا لم تكن طينتهم طينة نضال ومقاومة فلن يستمروا في التيار»، فضلاً عن كلامه الدائم عن «عديمي الوفاء»، علماً أن بو صعب كان من الداعمين لترؤس باسيل التيار الوطني الحر.
إخراج بو صعب من التيار ليس كخروج من سبقه مثل حكمت ديب وزياد أسود وماريو عون ونبيل نقولا. بعيداً عن الخلافات المذكورة غير الخافية على أحد، يبدو أن أسباب الفصل تتجاوز «خطيئة» التمايز في المواقف إلى انفلاش الدور السياسي لبو صعب في المشهد خارج التيار، إذ تمكّن من التحرك باستقلالية بعيداً عن الأطر التنظيمية، وحافظ على علاقات عميقة مع غالبية القوى السياسية بمعزل عن التيار. ويتردّد أن الرئيس سعد الحريري رفض في زيارته الأخيرة لبيروت في شباط الماضي طلباً من تكتل «لبنان القوي» لزيارته، واستقبل بو صعب والنائب آلان عون كلّاً بصفته الشخصية. وما جعل عقدة بو صعب أصعب، أنه تمكّن من أن يحجز لنفسه مكاناً على طاولة الفاعلين في ملفات كبيرة، وهندس لنفسه شبكة علاقات واسعة من بينها العلاقة المباشرة مع الموفد الأميركي عاموس هوكشتين، والتي سمحت له بلعب دور في عدد من الملفات منها الترسيم البحري وحالياً في المحادثات الجارية بين الأميركيين والرئيس نبيه بري في شأن الوضع الأمني والعسكري، ربما من ضمن تسوية يشعر باسيل بأنه بعيد عنها!
يتردّد أن آلان عون تبلّغ مجدداً قراراً بالمثول أمام لجنة التحكيم وقد يكون التالي في القائمة
لعل انفلاش دور بو صعب خارج التيار هو أكثر ما استفزّ باسيل، لكن السؤال لماذا الآن؟ ربما يشعر الأخير بتوسع الحالة الاعتراضية داخل الجسم العوني وانقسام الأجنحة فيه وتفلّت البعض من الموقف الرسمي حيال كثير من الملفات، بدءاً من رئاسة الجمهورية وصولاً إلى العلاقة مع حزب الله والحرب في الجنوب. وقد اختار باسيل هذا التوقيت لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: التأكيد على إحكام قبضته داخل التيار وجعل بو صعب «عبرة» للمتمردين وإزاحة أي شخصية يتجاوز دورها وموقعها الحد المسموح به. مع العلم أن بو صعب ومنذ الانتخابات النيابية لا يحضر أي اجتماعات للتيار، كما لو أنه استقال ضمنياً. وهذا ما عناه نائب رئيس التيار ناجي حايك بقوله قبل أيام إن «الوزير بو صعب هو من قرّر الانفصال عن التيار لأسباب خاصة».
رغم كل الضجة المثارة، يلتزم «المغضوب عليهم» داخل التيار بالصمت وكأنهم ينامون على شيء. حتى بو صعب نفسه يرفض الدخول في السجال الإعلامي أو التعليق على ما يحصل. لكن الأكيد أن الأمور داخلياً ليست على ما يرام، وأن قرارات باسيل تزيد من حالة الاعتراض والتهديد باتخاذ إجراءات جماعية. ويتردّد أن بعض النواب أوصلوا إلى من يعنيهم الأمر بوضوح أنهم في حال فصل أو طردِ زملاء آخرين لهم سيعمدون إلى استقالات جماعية من التيار الذي يريده باسيل خالياً من أي صوت نقدي!
تعليقات: