خسائر المودعين: نصف ودائع المقيمين اختفت من الميزانيّة

عدم قدرة المصارف على رد الغالبيّة الساحقة من الودائع المتبقية (مصطفى جمال الدين)
عدم قدرة المصارف على رد الغالبيّة الساحقة من الودائع المتبقية (مصطفى جمال الدين)


نشرت جمعيّة المصارف في تقريرها الشهري مؤخّرًا وضعيّة المصارف، كما في نهاية شهر شباط الماضي، أي في الشهر الثاني بعد اعتماد سعر الصرف الواقعي لإعداد الميزانيّات. هذه الأرقام، باتت تعبّر بصورة أكثر دقّة من عدّة نواحي عن مكوّنات الميزانيّة، بعد التخلّص من الكثير من التشوّهات التي سببها اعتماد أسعار الصرف غير الواقعيّة لإعداد الميزانيّة. أمّا أكثر الأرقام أهميّة، التي يفترض الالتفات إليها الآن، هي تلك التي ترتبط بالتغيّر في قيمة الودائع، وهو ما يعبّر عن جزء أساسي من الخسائر المجتمعيّة التي طرأت بعد الانهيار.


التغيّر في أرقام الودائع

بحلول نهاية شهر شباط، باتت قيمة ودائع المقيمين -بالليرة اللبنانيّة والعملات الأجنبيّة معًا- لا تتجاوز 69.2 مليار دولار أميركي، وهو ما يقل بنسبة 7.73% عن قيمة هذه الودائع قبل سنة واحدة فقط، أي في نهاية شباط 2023. ومن أصل هذه القيمة، كان هناك ما يقارب 68.68 مليار دولار أميركي من ودائع المقيمين بالعملات الأجنبيّة، في مقابل 525 مليون دولار فقط من ودائع المقيمين بالليرة اللبنانيّة. ومن المعلوم أن تقلّص قيمة الودائع بالليرة على هذا الشكل جاء نتيجة اعتماد سعر الصرف الحقيقي لاحتساب قيمتها، بعد أن تم تضخيمها في الأشهر الماضية عبر أسعار الصرف المنخفضة المعتمدة لاحتسابها (بسعر 1,507.5 ليرة للدولار حتّى شباط 2023، ثم 15 ألف ليرة للدولار لغاية آخر السنة الماضية).

لكن ثمّة ما هو أكثر إثارة للاهتمام في كل هذه الأرقام. فعلى سبيل المثال، قبل خمس سنوات بالتمام والكمال، أي خلال شهر شباط 2019، قبل بدء الأزمة، كانت قيمة ودائع المقيمين تقارب حدود 134.06 مليار دولار. منها 45.95 مليار دولار من الودائع بالليرة اللبنانيّة، ونحو 88.11 مليار دولار أميركي بالعملات الأجنبيّة. وفي تلك المرحلة، كان هذا التقييم –لقيمة الودائع بالليرة اللبنانيّة- يعبّر عن قيمة الودائع الفعليّة والحقيقيّة، إذ كان سعر الصرف الرسمي (1,507.5 ليرة للدولار) هو سعر الصرف الرائج والفعلي في السوق.

ما يمكن استخلاصه من هذه الأرقام، هو أنّ حجم ودائع المقيمين، أي قيمة مدخرات هذا المجتمع، تقلّصت خلال سنوات الأزمة بنسبة 48%، أي بحدود النصف تقريبًا. هذا مع الأخذ بالاعتبار أنّ ثمّة خسارة أخرى وإضافيّة لا تقل أهميّة، تتمثّل في عدم قدرة المصارف على رد الغالبيّة الساحقة من الودائع المتبقية، لكنّ تلك الحقيقة تعبّر عن مشكلة أخرى سيتبيّن حجمها خلال السنوات المقبلة.


أسباب انخفاض حجم الودائع

على أي حال، من الضرورة هنا تفنيد أسباب انخفاض حجم الودائع على هذا النحو، خلال السنوات الخمس الماضية. فجزء أساسي من هذا الانخفاض، جرى عبر بيع المودعين سيولتهم بالشيكات المصرفيّة خلال سنوات الأزمة، بحسومات كبيرة من قيمة هذه الشيكات الإسميّة، فيما تم استعمال هذه الشيكات لإطفاء القروض المصرفيّة. كما تكبّد المودعون خسائر أخرى لا تقل أهميّة، جرّاء سحب أموالهم بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف منخفضة. أما الجزء الأكبر من هذا الانخفاض، فجرى نتيجة تدهور قيمة الليرة اللبنانيّة، وهو ما أدّى إلى هبوط قيمة الودائع بالعملة المحليّة (وهذا ما لا يُؤخذ بالاعتبار في العادة عند مناقشة الخسائر التي تحمّلها المودعون).

في المقابل، يمكن الإشارة هنا أيضًا إلى أنّ حجم ودائع غير المقيمين انخفض خلال الفترة ذاتها من 36.67 مليار دولار أميركي في شباط 2019، إلى نحو 20.96 مليار دولار أميركي خلال شهر شباط الماضي. وهذا ما يعني أنّ 42.84% من ودائع غير المقيمين اختفت من الميزانيّات خلال السنوات الخمس الماضية، جرّاء الأسباب نفسها. مع الإشارة إلى أنّ نسبة الانخفاض في قيمة ودائع المقيمين كانت أكبر من ذلك، بسبب وجود نسبة أعلى من السيولة بالليرة في تلك الودائع.

ترابط ميزانيّات المصارف والمصرف المركزي

في أواخر شهر شباط الماضي، بات حجم توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان يناهز 81.25 مليار دولار، أي ما يقارب 78.03% من إجمالي حجم موجودات القطاع بأسره. وبهذا الشكل، باتت ميزانيّة المصارف التجاريّة مترابطة بشكل تام مع ميزانيّة مصرف لبنان، طالما أنّ جميع الموجودات الأخرى لا توازي أكثر من 22% من إجمالي الموجودات المصرفيّة. وفي جميع الحالات، قد يكون من المفيد التنويه هنا بأنّ حجم خسائر مصرف لبنان قارب –حسب خطّة الحكومة- حدود 60 مليار دولار أميركي، ما يعني أنّ قيمة الخسائر باتت تقارب 74% من توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان.

لكل هذه الأسباب، بات القطاع المصرفي –في حالته الراهنة- يراكم الخسائر التي تصيب قيمة الودائع المتبقية في القطاع، تمامًا كما جرى طوال الأعوام الماضية. فمع مرور كل سنة، تتزايد قيمة الخسائر، وتتقلّص معها القيمة التي يمكن ضمانها من كل وديعة، كما تتناقص أعداد الودائع التي يمكن ضمانها من خلال أي خطّة حكوميّة شاملة. هذا الواقع، هو ما يفرض التعامل مع الأزمة المصرفيّة بخطّة شاملة تفصل ما بين ميزانيّات المصارف وميزانيّة المصرف المركزي، بإعادة هيكلة تبدأ من الاعتراف بالخسائر وقيدها محاسبيًا، وتصل إلى توزيعها ومعالجتها ليتمكن القطاع من استعادة انتظامه.

تعليقات: