مشهد من شوارع البارد
مخيم نهر البارد :
رحت ليلاً تغتسل من غبار المخيم، من ركام ما زال ماثلاً كشاهد على كل ما جرى. مشاهد المخيم تباغتك في لحظة متعة. إنها المياه التي استعادت لك بعضاً من هذا الشيء. استمتاعك بها في هذه اللحظة بالذات، لا يمكن إلا ان يكون مؤلماً.
النهر يخترق المخيم، المعزول في جانب، المدمر في جوانب أخرى، والغارق في الإهمال في كل النواحي. الافتقار إلى المياه هنا، والصيف لم يغادر بعد، فيما مياه النهر تجري بين المنازل، يجعلك، تصاب بذهول. ينحني الفتى ليشرب مباشرة من صنبور خزان في أحد الأزقة الملاصقة لما يسمّى »المخيم القديم«، الذي تلاشت ملامحه تحت ركام الحرب الموجعة التي اندلعت في ذلك الصيف من العام ٢٠٠٧ لأكثر من ثلاثة شهور.
لا يشير لك الخزان، الحديث والباهت اللون، بأنه مخصص للاستهلاك البشري في الأحوال العادية. لكن من قال إن الأحوال هنا »عادية«. اللاجئون في هذه الشقق المتداعية والمرممة بعضها، ينقلون المياه من هذا الخزان إلى أفراد عائلاتهم يدوياً. بعضهم، ممن تيسرت لهم الاحوال قليلاً، اشتروا مضخات كهربائية لسحب المياه الى الشقة مباشرة.
ان برامج اغاثة متعددة تضافرت حتى يتاح لهذا الفتى الشقي ان يشرب من مياه الخزان وهو يلهو في هذا الزقاق. انتشال المخيم مما عانى منه، لم يكن ممكناً بجهد اللاجئين الفلسطينيين وحدهم.
صارت القضية دولية. عقدت من أجلها قمم ومؤتمرات ونظمت ورش عمل وزيارات لمسؤولين دوليين وأجريت أبحاث ودراسات. الدمار يفوق خيال الانسان الطبيعي. منظمات وجمعيات عديدة تعمل هنا. والى جانب الجمعيات والهيئات الفلسطينية واللبنانية، تتواجد »الاونروا« بطبيعة الحال، مثلما تفعل منذ ما بعد النكبة الكبرى قبل ٦٠ سنة، بالاضافة الى دائرة المفوضية الاوروبية للمساعدات الانسانية »ايكو«، بالتعاون مع منظمات مثل »بريميير ايرجانس« واليونيسف ومنظمة التعاون التقني والتنمية »آكتد«، ومنظمة »اوكسفام« البريطانية، و»الاغاثة الاسلامية«، والمجلس النروجي للاجئين »ان آر سي« ومنظمة »ميرسي كوربس«.
خمسة وثلاثون ألف شخص كانوا يقطنون هذا المكان الذي شيد مع نكبة العام .١٩٤٨ محمد يحيى طوية ولد هنا في العام ،١٩٤٩ اي ما ان وصل والداه من فلسطين المحتلة، كلاجئين من قرية الصفوري في الناصرة، الى هذه البقعة الواقعة قرب مدينة طرابلس في اقصى شمال لبنان.
عصفت سنوات النزوح الطويلة بهذه العائلة على الرغم من ان مخيم نهر البارد تميز نسبياً عن غيره من المخيمات الفلسطينية المنتشرة في لبنان، بانه من بين الاكثر هدوءاً واستقراراً. في بداية التسعينيات، في ما بعد نهاية الحرب الاهلية في لبنان، اعتقد محمد طوية انه حقق الخطوة الكبرى في حياته بعدما بدأ مشروعا متواضعا، وانما طموح، يتمثل بمقهى على ضفاف نهر البارد، وصفه بانه الاول من نوعه في المخيم.
مع اندلاع الحرب بين مقاتلي تنظيم »فتح الاسلام« والجيش اللبناني، بدا كأن التاريخ يوقع ظلمه على محمد طوية مرة اخرى. تحول حلم استمر ١٦ سنة، الى ركام. هذه المرة ايضاً، الكارثة لا تطال محمد طوية وحده وانما اطفاله واولاده العشرة وزوجته التي ما ان وصل وفد الصحافيين العرب والأجانب في زيارة ميدانية الى المخيم، وما كان يفترض ان يكون مقهى الاحلام، حتى خرجت من غرفة خشبية... تبتسم للجميع.
من أين بربكم يمكن أن تأتي الزوجة بهذه الابتسامة وسط هذا الخراب والقلق من المستقبل؟!
عادت عائلة طوية كغيرها من العائلات الـ ٢٥٠٠ التي عادت، بعد نهاية الحرب فيما بقيت حوالى ثلاثة آلاف عائلة في نزوحها المستجد الى مخيم البداوي المجاور او غيرها من مناطق الشمال. هذا سبب لتلك الابتسامة.
وهناك سبب آخر، فالمقهى الذي تحول خلال الحرب الى ساحة للدبابات والعربات العسكرية لقربه من منطقة »المخيم القديم«، عاد ليقوم رويدا رويدا. بعض الاعمدة الخشبية نصبت، وظهرت السكاكر في بسطة عند مدخل المقهى الذي ما زال يفتقر الى المقاعد والطاولات، وما هو أكثر أهمية بكثير... النرجيلة.
فبدعم من دائرة المفوضية الاوروبية للمساعدات الانسانية »ايكو«، ومنظمة »بريميير ايرجانس«، وقف ثلاثة من ابناء طوية قرب والدهم وهو يتحدث عما كان يظنه مستحيلاً قبل أسابيع مضت، ويشير الى النهر الخافت الذي كان مقصداً للباحثين عن السكينة من ضجيج الاكتظاظ السكاني وعن بعض الخصوصية، ويقول إن عودته باتت وشيكة، بعدما نال موافقة على مشروع لتمويل إعادة إطلاق المقهى بقيمة ثلاثة آلاف دولار.
يبتسم محمد طوية عندما تسأله عما إذا كان يتمنى لو ان الموافقة على تمويل المقهى كانت مبكرة فعندها كان ربما ليحقق أرباحاً أكبر خلال موسم الصيف. وكأنه يصرّ على التفاؤل، عندما يقول بثقة: »سأعوض خلال موسم الشتاء«، بتخصيص مكان مسقوف يقي مرتادي المقهى قسوة البرد.
والمساعدة التي تلقتها عائلة طوية، ويفترض أنها سترسم طريقاً جديداً لمصيرها، جزء ضئيل من برامج إغاثة متنوعة قيمتها حتى الآن ١٣,٢ مليون يورو منذ ايار ،٢٠٠٧ قدمتها المفوضية الاوروبية كمساعدات إغاثة، تتراوح ما بين الإيواء والغذاء والطبابة والعلاج النفسي وصولاً إلى تمويل المشاريع الصغيرة والترميم ودورات المياه المنقولة.
»ميرسي كوربس« مثلاً ستضيف سبباً آخر لسعادة عائلة طوية. مجرى النهر لم يعد يصلح حتى لاستمتاع الناظرين بعدما شوّهته القاذورات والركام. أقرت هذه المنظمة مشروعاً لتنظيفه وتجميل المجرى وضفتيه وتشغيل الايدي العاملة من شباب المخيم حيث البطالة تكاد تطال الجميع في مخيم يبلغ معدل عدد افراد العائلة الواحدة فيه ٥,٦ افراد.
هناك في هذه البقعة النائية من شمال لبنان، شابات وشبان لبنانيون وفلسطينيون، يغمرهم نشاط استثنائي لتغيير وضع الانتظار القاتل الذي يعيش فيه المخيم منذ أن انتهت المعارك. يشكون في المخيم من بطء العودة. ليست تلك العودة الكبرى الى فلسطين. انما العودة الى منزل او ما كان منزلا، على بعد امتار منهم. عائلة طوية عادت نعم، لكن اطنان الركام ما تزال راقدة على قلوب الجميع، منتصبة في مكانها لا تتزحزح. رفع الانقاض تأخر، ثم تأجل اكثر من مرة.
الولد الشقي يرشق بالحجارة بركة مياه آسنة بالقرب منا. تعود المشاهد الى رأسي وانا احاول الاستمتاع بحمامي الساخن في منزلي!!. يحاول الفتى تلويث ملابسنا فيوبّخه شاب من الناشطين في العمل الإغاثي. يتذمر الفتى لأنه لم يحقق مبتغاه. يقول شاب آخر من الناشطين في المخيم إن سلوكا كهذا يقول اشياء كثيرة، اكثرها ايلاما ان الوقت ليس في مصلحة احد، فكلما تأخرت الاغاثة والعودة، كلما كان الوضع أكثر سوءاً. إن جيلاً جديداً يكبر في ظل البؤس.
في محطة زيارة تفقدية أخيرة لنا، أقرر ألا أدخل المنزل المرمم لزيارة عائلة عائدة. لقد نلت ما يكفي من مشاهد موجعة. على بعد أمتار معدودة من جبال ركام المخيم القديم، هناك جسر خشبي متهالك يعبر بك فوق النهر. تحت الجسر تمتد ثلاثة خطوط انابيب لنقل النفط!!
تعبر الانابيب بين ضفتي النهر الصغير، آتية من العراق عبر الاراضي السورية، ومتوقفة عن العمل منذ نحو ٣٠ سنة. يقول شاب من المخيم ان صيانة ما تخضع لها الانابيب بين الحين والآخر، مقدمة ربما لضخ الحياة فيها، في مكان يرمز الى كل هذا الموت في »المخيم القديم«، الذي يخشى البعض...أن الحياة قد لا تعود إليه.
تعليقات: