من تاريخ التربية والتعليم في الخيام (ج7)
تمهيد لا بد منه
برز في الحلقات السابقة من تاريخ التربية والتعليم في الخيام أن تعليم المرأة كان أمراً مطلوباً ومعتنى به منذ عهد الكُتَّابِ الأول سواء لدى المسلمين أو المسيحيين من أبناء الخيام وكان الأستاذ إبراهيم محمد عواضة (أبو عبدو) يُدرِّس الصبية كما كان يُدرِّس البنات أيضاً في منزله وكذلك كان الرهبان يدرِّسون الصبيان والبنات في الكنائس قبل وجود المدارس الإرسالية أو الرسمية.ولكن بقي هناك نقص في وجود معلمات تُدرِّس البنات أو الصبيان،خاصة عندما إنتشرت المدارس الرسمية وازدادت الحاجة الى إيجاد حل لموضوع إشراك المرأة بشكل فاعل في القطاع التعليمي ، وبالتالي إعطاء المرأة أولاً حقها في قطاع التعليم على غرار النهضة العلمية التي شهدها عالم الرجال في هذا المجال ، وثانياً في تحقيق نهضة بدور المرأة على مستوى الحياة بشكل عام .
ظروف النشأة
ولدت ذيبة فارس نعمة الجلبوط عام 1906 في بيت رب الأسرة فيه مختار محب للعلم والتعلم،وكان والدها ميسور الحال وذا عقل منفتح لا يميز بين الجنسين ، كما كان يرى بوضوح أن لا مستقبل لأولاده إلا بالعلم لذلك كان حريصأً أن يدرس أبناءه في طفولتهم في مدارس الخيام ، لذلك حين أنهى ولداه موسى وتوفيق دراستهم الإبتدائية في الخيام ، أرسلهم مباشرة ، ليتابعوا دراستهم المتوسطة والثانوية في مدرسة الحكمة في بيروت(في القسم الداخلي)وبعد تخرجهم من الثانوية تابعا دراستهما في الجامعة الأميركية حيث كان موسى أول طبيب تخرج من أبناء الخيام لكنه لم يعمل في مهنة الطب فيها إلا فترة وجيزة وتوظف لاحقاً طبيباً لشركة (I.T.c)التابلاين في طرابلس ثم عمل بعد ذلك ، طبيباً الشخصياً للملك عبدالله إبن الشريف حسين في الأردن الذي منحه لقب بيك. أما أخوه توفيق فقد تتلمذ في طفولته على يد أخته ذيبة ، هو وحسيب وحسين إبنا خنجر عبدالله حتى حصل الثلاثة على شهادة السرتفيكا وبعد تخرج توفيق من الجامعة إنتسب إلى سلك الأمن العام ووصل إلى رتبة عميد وصار مديراً للأمن العام في لبنان.
في طفولتها تتلمذت ذيبة على يد والدها حتى نالت الشهادة الإبتدائية السرتفيكا وعندما صارت في المرحلة المتوسطة قام والدها بتسجيلها في المدرسة الإنجيلية الأميركية في صيدا في القسم الداخلي وكان هذا الموقف يعتبر جريئا ومتقدما للمختار فارس نعمة الجلبوط قياساً لأبناء جيله ، نظراً للعادات والتقاليد التي كانت سائدة يومها في قضية تعليم البنات،وكانت ذيبة تذهب إلى صيدا بعربة يجرها حصان ويكون السائق أحد العاملين في مزارع والدها وعندما يحين موعد عطلتها يذهب السائق بالحصان والعربة ، ليعيدها إلى بيت أهلها لتمضي إستراحتها وتقضي عطلتها وتستعيد نشاطها ، وكان والداها يرسلان لها زوادة عندما تسنح لهما فرصة سفر أحد أبناء الخيام إلى بيروت ، لأن الوقت الفاصل بين العطل كان طويلا في تلك المرحلة من الزمن.
كانت ذيبة فتاة جدية ومجتهدة في تحصيلها العلمي ، وهي أول فتاة خيامية تخرجت من الثانوية العامة من ثانوية صيدا ، وكانت تتقن ثلاث لغات بطلاقة(العربية والفرنسية والإنكليزية) ومن زملائها في الدراسة روز غريب وإميل البستاني ، وعندما عادت في نهاية عشرينات القرن الماضي إلى الخيام ، وهي حائزة على الشهادة الثانوية،عُرِضَ عليها كثيرا أن تنتسب إلى سلك التعليم الرسمي أو وظائف في مؤسسات الدولة ، لكن رغبة المختار والدها كانت أن تتفرغ إبنته ذيبة لتربية أولادها كأولوية،وهذا الأمر ناتج عن مركزية دور الأسرة في حياة الإنسان الشرقي ، الأسرة التي تعتبر وظيفتها الأساسية تربية وتخريج أفراد ناجحين أخلاقياً أولاً ، ونافعين في خدمة مجتمعهم ، ومحصنين لمعالجة ما يواجهون في حياتهم من محن وبلاءات بكفاءة ونجاح ، وقد تزوجت ذيبة فارس الجلبوط في سن مبكرة من قريبها نعمان إبراهيم الجلبوط الذي درس في طفولته في الخيام ، ولكنه لم يتابع دراسته خارجها ، لأنه عاش في طفولته يتيم الأب وهو في عمر ثلاث سنوات ، ولكنه رغم ذلك ، ولأنه يمتلك خبرة وكفاءة ، فقد عين لاحقا مختاراً ، وظل في هذا الموقع لمدة ثلاثين سنة تقريباً ، كما إستلم وظيفة إدارة توزيع مياه نبع الدردارة في فصل الصيف على الأراضي الزراعية في سهل المرج على أراضي المزارعين.
مميزات شخصية
كانت ذيبة إنسانة مؤمنة متدينة تذهب بإستمرار إلى الكنيسة لحضور القداس ، وكانت محبة للمطالعة ، وتقتني مكتبة في منزلها ، وتشجع أولادها بإستمرار على المطالعة ، كما. كان لها محاولات جادة في كتابة الشعر ، ولكن للأسف الشديد فقد أتلفت مكتبتها ودفاترها التي تضم مذكراتها ونتاجها الشعري في الحروب المتعاقبة التي دُمِّرت فيها الخيام أكثر من مرة.
ذيبة فارس نعمة الجلبوط الأم(أم عصام)
وفاء للوالد ولرغبته ، تفرغت أم عصام لتربية الأولاد وتعليمهم وتهذيبهم فكانت أما مثالية في أخلاقها وتواضعها وفي حرصها على زيادة ثقافتها ، من خلال المطالعة ، وقد ظهرت نتائج جهودها التربوية والتعليمية واضحة من خلال تنشئتها لأسرة ، كل أفرادها متعلمين ، مثل (ليلى مواليد 1937 التي درست مع أختها ناديا في الكلية الوطنية في مرجعيون للأستاذ لبيب غلمية ، وتابعتا دراستهما في المدرسة الإنجيلية في صيدا حيث تعلمت والدتهما . وهند التي درست مثل أخواتها وتعيش اليوم مع أسرتها في نيجيريا أما نهى مواليد 1943 فقد درست بداية في مدرسة الراهبات في مرجعيون ونالت البروفي عام 1962 في مدرسة الخيام وكان مدير المدرسة الأستاذ علي حسين عبدالله .
وحصلت نهى على شهادة الليسانس في مادة التاريخ من الجامعة العربية .
كما ان أبناء أم عصام الشباب(عصام عمل في السلك العسكري - خليل كان عميدا في الجيش اللبناني ومعروف بمواقفه الوطنية المشرفة والمحبة للخيام والخياميين – إبراهيم حصل على شهادة الدكتورا من جامعة السوربون في سبعينيات القرن الماضي – فؤاد متخصص في مجال الهندسة المدنية وهو استاذ جامعي ويعيش في اميركا ).
أم عصام تدخل سلك التدريس.
توفي فارس نعمة الجلبوط عام 1948 وكان أولاد أم عصام صاروا بالغين راشدين ، وكان عمر أصغرهم ثماني سنوات الأمر الذي أتاح لها أن توظف العلم الذي حصَّلته في في شبابها بخدمة من أحبت من أبناء بلدتها ، فالتحقت بسلك التعليم الرسمي في مدرسة المعارف الخاصة بالبنات عام 1950وكانت هذه المدرسة يومها في مبنى البلدية القديم قرب بيت علي نعيم عبدالله بعد إنشائها ، وذلك قبل إلتحاق أم عصام بسلك التعليم في بيت الحاج مصطفى قرب بيت حليم القسيس ، حيث كان يديرها يومها الأستاذ علي عبدالله كما كانت تعلم فيها بداية نهاد شاهين من مدينة النبطية ، وفيوليت خوري من مرجعيون ، ومعلمة من آل رحمة من طرابلس ونهاد أبو صبحا زوجة علي فايز عبدالله ونزيهة الأنصاري التي أصبحت زوجة أحمد مهنا لاحقاً.
كانت هذه المدرسة تُدرِّس حتى مرحلة الشهادة الإبتدائية وقد أدارتها أم عصام حتى العام 1970 وكان الطلاب والمعلمون يتعاملون مع أم عصام كأم اهم وليس كمسؤولة عنهم أو زميلة لهم ، نظراً لما كانت تتمتع به من أخلاق عالية ، وحملاً للمسؤولية التعليمية الرسالية التي تتحلى بها .
الأستاذة نهى إبنة المديرة أم عصام تتابع مسيرة والدتها.
التحقت الأستاذة نهى إبنة أم عصام عام 1963 بسلك التعليم تحت إدارة والدتها فكانت الأم مديرةً ، والإبنة ناظرة ، وفي العام 1971 إستلمت الأستاذة نهى إدارة المدرسة بعد والدتها التي بلغت سن التقاعد ، وتم تعيين الأستاذة شما كايد سمور (والدة الشهيد علي صادق) ناظرة مكان الأستاذة نهى ، وكانت توجد روحية عالية في التعاون بين المعلمات والمعلمين حيث تذكر الأستاذة نهى أنه عندما تم إدخال منهج الرياضيات الحديثة في التعليم الرسمي لم يكن ممكنا إرسال معلمين الى دورة التأهيل على المنهج الجديد فتم إرسال الأستاذ كامل يوسف مخزوم الذي قام بعد عودته بتدريب زميله الأستاذ حسين عبدالله وتمكن بذلك الإثنان من القيام بدورهما في التعليم على أكمل وجه.
ومن زميلاتها اللواتي تذكر الأستاذة نهى أنهن عملن معها في التدريس (ليلى محمد إبراهيم – زينب أبو عباس – زينب محمد عطوي – شما كايد سمور – عطاف فاعور – فاطمة صادق – فاطمة سعيد مهنا – نازك علي عبدالله) ومن زملائها تذكر (كامل يوسف مخزوم – كامل رحيم – رياض فاعور)
* المصادر:
ليلى نعمان ابراهيم الجليوط.
نهى نعمان ابراهيم الجلبوط.
عدنان ابراهيم سمور.
باحث عن الحقيقة.
05/05/2024
تعليقات: