آثار قصف حزب الله على كريات شمونة رداً على استشهاد أربعة مدنيين من عائلة واحدة (غيتي)
كثف الاحتلال الاسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، هجومه السياسي والإعلامي على المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وخصوصاً كلما أصدرت تقريراً مخالفاً لدعايتها، أضاءت فيه على الضحايا الفلسطينيين نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة، ومعاناة اللبنانيين جراء المواجهة الدائرة منذ أشهر.
جديد ذلك، هجوم إسرائيلي على منظمة الطفولة الأممية "يونيسف" بسبب نشرها تقريراً قبل أيام عن معاناة سكان جنوبي لبنان منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة في المنطقة، إذ أكدت فيه أن نحو 90 ألفا من سكان الجنوب اللبناني نزحوا من منازلهم، بينهم 30 ألف طفل.
استنفار ضد "يونيسف"
وبدا الاحتلال مُستفَزاً ومستنفراً بسبب التقرير الأممي، فوجّهت صفحة "إسرائيل بالعربية" في فايسبوك انتقادات لاذعة لـ"يونيسف"، متهمة إياها بـ"النفاق" و"ازدواجية المعايير". واعتبرت الصفحة المقربة من وزارة الخارجية الإسرائيلية أن "ازدواجية يونيسف ونفاقها" لا يغطيان "الحقيقة".
ووفق مزاعم "إسرائيل بالعربية"، فقد "تجاهل" تقرير المنظمة الأممية الجهة التي بادرت إلى القتال في 8 تشرين أول/أكتوبر، ألا وهي "حزب الله الذي شرع في قصف قرى ومدن إسرائيلية في شمال البلاد دون مبرر"، على حد تعبيرها. والواقع، ما كتبته الصفحة الإسرائيلية في فايسبوك هو فحوى رد إسرائيل الرسمي أيضاً على التقرير الأممي، حيث ادعت تل أبيب أن حزب الله هو الذي "بادر" إلى القتال، "ضارباً حياة اللبنانيين وسلامتهم عرض الحائط"، وفق قولها.
كما اتهمت "إسرائيل بالعربية" منظمة "يونيسف" بـ"التجاهل التام لاضطرار نحو 61 ألف إسرائيلي، بينهم أطفال، إلى ترك منازلهم قبل 6 أشهر، إثر تعرضت المنازل لقصف عشوائي من الحزب الذي يخدم مصالح إيران"، بحسب منشورها.
وشككت الصفحة الإسرائيلية التي تمثل الدعاية الرسمية للاحتلال، بمصداقية المنظمة الدولية، عبر وصفها بـ"المنحازة"، وأنها "لا تستنكر بشكل صريح الجانب المعتدي".
وحاولت "إسرائيل بالعربية" تصديق دعايتها بنشر صورتين، إحداهما أظهرت أضراراً في منزل إسرائيلي بسبب قصف حزب الله الذي وصفته بـ"العشوائي"، بينما لم ينشر الاحتلال ما أحدثه جيشه من دمار كبير في البلدات اللبنانية المستهدفة.
نقاشات إسرائيلية: "العالَم ضدنا"
كما رصدت "المدن" نقاشات أجرتها إذاعة "ريشت بيت" العبرية التابعة لهيئة البث الرسمية مع إسرائيليين من "سكان المنطقة الشمالية" المحاذية للبنان حول تقرير "يونيسف"، وقد تحدثت غالبية الذين استضافتهم بعقلية ولغة إسرائيلية "موحّدة"، تتمحور حول اعتبار "العالم ضد إسرائيل"، وأن "معاداة السامية تعود من جديد، وبشكل قوي". واتهم بعض الإسرائيليين أميركا بأنها "تخلت عن إسرائيل"، وأنه لا أحد "يقلق لمعاناة الإسرائيليين، خاصة أن هناك 100 ألف إسرائيلي أجبروا على ترك منازلهم منذ 7 أشهر".
وبرزت منشورات إسرائيلية في مواقع التواصل في معرض تعليقها على تقرير "يونيسف"، إلى جانب انتقادها دور أميركا وأوروبا، مدعية أن الاهتمام الدولي والغربي ينصب تجاه الفلسطينيين واللبنانيين، و"كأن إسرائيل متهمة ومذنبة ومجرمة، وليس حماس وحزب الله".
لكنّ ما تعرضت له "يونيسف" ليس الهجوم الإسرائيلي الأول من نوعه ضد منظمة أممية، حيث تواجه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" حملة احتلالية كبيرة لإنهاء وجودها بذرائع متعددة، كما استهدفت البروباغندا الإسرائيلية على مدار سنوات "هيومن رايتس ووتش"، ومجلس حقوق الإنسان الأممي، ومحكمة العدل الدولية، وغيرها من المؤسسات التابعة للأمم المتحدة ومظلات دولية أخرى.
دوافع الحملة؟
الحال أنّ هجوم إسرائيل على المنظمات الأممية نابع من منطلق محاولاتها توحيد الرواية المزعومة التي تخدمها فقط، عبر تجييش العالم خلف دعايتها، ومنع أي رواية مضادة. وقد سعت إسرائيل إلى تصوير هجوم السابع من أكتوبر على منطقة "غلاف غزة" بمثابة "هولوكوست جديد" منذ اللحظة الأولى، بهدف توحيد العالم ومؤسساته الدولية خلف رواية الاحتلال فقط، وقطع الطريق على أي محاولة للتشكيك فيها، بحجة أنه صاحب "المظلومية المُطلقة"، وليس أي عرق أو دين آخر.
وهنا، أرادت إسرائيل بهذه الطريقة أن تكتم صوت العالم ومنظمات الأمم المتحدة، وأن تثنيها عن قول أي كلمة بشأن القتل الجماعي للفلسطينيين واللبنانيين، ولأي عربي.
وهذا ما يبرر غضب إسرائيل حدّ "الجنون" من أي تقرير أممي، حتى لو تطرق فقط إلى معاناة لبنانيين وفلسطينيين من الصراع، من دون انتقاد الاحتلال.
ثمة دافع آخر لهجوم تل أبيب على المنظمات الدولية، ويرتبط بالفوقية الإسرائيلية، ويُجسدها مفهوم تقليدي عززته الحركة الصهيونية في القرن الماضي، حيث يقوم على أساس أن المؤسسات الأممية والعالمية تشكلت لحماية اليهود بعد ما تعرضوا له في الحرب العالمية الثانية، وليس لكي تصبح ضدهم.. وقد تعزز هذا المفهوم الفوقي الإسرائيلي بناء على قناعة الاحتلال بأن غطاء أميركا وحمايتها يجب أن يشكل حصانة لإسرائيل من الإدانة أو الانتقاد على لسان المؤسسات الدولية.
"متلازمة الردع".. بالتحدي!
ولا يُمكن إغماض العين أيضاً عن جانب سيكولوجي لازم إسرائيل منذ اللحظة الأولى لنشوئها، ويتمثل بنرجسيتها التي تدفعها دائما إلى الاعتقاد بأن تحديها المستمر للعالم ومؤسساته يُعد جزءاً من "مركّبات الردع"؛ علّها تظهر بهذا الأسلوب وكأنها تدير ظهرها للعالم، ولا تعيره أي انتباه، تحت عنوان أنها "المقرر الوحيد"، وأن هذا نتاج "قوتها".. بمعنى آخر، شكلت "متلازمة الردع والبقاء" تفسيرا إضافيا لما وراء حرص الاحتلال على القول ضمنا عبر هجمته المتصاعدة على منظمات الأمم المتحدة، إن عدم اكتراثه بهذه المنظمات "دليل على قوة إسرائيل"، وأن سكوتها يظهرها "ضعيفة".
ويقول المتخصص بالشأن الإسرائيلي عادل شديد، لـ"المدن" إن الهجوم الإسرائيلي على "يونيسف" ومنظمات دولية أخرى، يندرج في سياق الماكينة الإعلامية الإسرائيلية التي انتهجت سردية تدعي أن "إسرائيل هي الضحية"، وأن من هم غيرها "مجرمون".
مع ذلك، يدل غضب تل أبيب من منظمات الأمم المتحدة، وما يجري في الجامعات الأميركية من احتجاجات كبيرة دعما للفلسطينيين، على وجود قلق غير مسبوق من إسرائيل، مفاده أن "شرعيتها"، و"شرعية روايتها في المجتمع الغربي"، بدأت تتآكل، ولم تعد قادرة على تمرير سرديتها بسهولة أمام الأجيال الجديدة في العالم، ما فاقم خشيتها من خسارة حلفائها و"أصدقائها" ذات يوم، في ظل شعور الدولة العبرية أنها تمر في أصعب ظروفها منذ نشوئها قبل أكثر من سبعة عقود.
تعليقات: