من يعترف هذه المرّة، وزير الماليّة يوسف الخليل، ليس سوى الذراع اليمنى للحاكم السابق رياض سلامة (عباس سلمان)
بات اللبنانيون يعرفون جيّدًا اليوم، بعد مرور أكثر من أربع سنوات على حصول الانهيار المصرفي، أنّ هناك من تآمر عمدًا عام 2016 لإخفاء المؤشّرات التي تدل على بدايات الأزمة. يومها، كان حجم "العجز الصافي" في مصرف لبنان، أي الفارق بين حجم الموجودات والمطلوبات، لا يتجاوز 4.7 مليار دولار، وهو ما يمثّل قيمة بسيطة يمكن استيعابها بأموال وأرباح القطاع المصرفي الخاصّة. في تلك المرحلة، حين أشار صندوق النقد في أحد تقاريره إلى هذه الفجوة، ثارت ثائرة المسؤولين اللبنانيين، فطلبوا شطب هذه الفقرة من التقرير لدفن الحقيقة وتفادي الإفصاح عنها.
ما حصل لاحقًا بات معلومًا: بدل التعامل مع هذه الفجوة الصغيرة منذ عام 2016، من دون أن يُمس بقرشٍ واحد من أموال المودعين، أقحم مصرف لبنان القطاع بأسره في لعبة الهندست الماليّة. اعترف مصرف لبنان بتكبّده 56 مليار دولار أميركي ككلفة مباشرة للهندسات، بينما أصرّت "آلفاريز آند مرسال" على تقدير الكلفة عند حدود 76 مليار دولار. ما يهم في خلاصة الأمر، هو أن أرباحًا ضخمة دخلت إلى الأموال الخاصّة المصرفيّة، بين عامي 2016 و2019، مقابل توظيف دولارات المودعين لدى مصرف لبنان. أمّا مصرف لبنان، فبات اليوم أمام خسائر تناهز 73 مليار دولار، مقابل إلتزاماته للمصارف التي تتجاوز حاليًا 81 مليار دولار.
اعترافات ذراع سلامة اليمنى
هذا هو "البونزي"، أو العمليّة الاحتياليّة المنظمة والمتقنة، كما وصفه البنك الدولي والأمين العام للأمم المتحدة والرئيس الفرنسي، وغيرهم. أن يمتص مصرف لبنان أموال المودعين المودعة في المصارف، مقابل أرباح مشبوهة لأصحاب المصارف إياها، وعلى حساب أموال المودعين أنفسهم. وعلى مرّ السنوات الماضية، لم يتعب بعض المدافعين عن نهج الحاكم السابق رياض سلامة، من الدفاع عن تلك الهندسات ونتائجها. فالدفاع عن الهندسات، كان في واقع الأمر دفاعًا عن النخبة المصرفيّة نفسها، طالما أنّ هذه النخبة هي من قرّر توريط سيولة القطاع في لعبة خطرة من هذا النوع. بين تقارير البنك الدولي وصندوق النقد من جهة، وتصريحات "خبراء المصرف" من جهة أخرى، ظلّت مسألة الهندسات موضوع سجال أمام الرأي العام.
في أواخر الأسبوع، لفت وزير الماليّة يوسف الخليل الأنظار من خلال المقابلة التي أجراها مع صحيفة "ذا ناسيونال"، والتي مثّلت أوّل اعتراف من مسؤول في مصرف لبنان بالعلاقة بين الهندسات الماليّة وفجوة الخسائر في المصرف. ومن يعترف هذه المرّة، ليس سوى الذراع اليمنى للحاكم السابق رياض سلامة، والمسؤول عن مديريّة العمليّات الماليّة في المصرف. وسيكون غريبًا طبعًا أن ينبري بعدها أي شخص للدفاع عن سياسة الهندسات الماليّة، بعد إدانة الهندسات على لسان مهندسيها.
في تلك المقابلة، يشير الخليل إلى أنّ هدف الهندسات كان "شراء الوقت"، للتمكّن من وضع "استراتيجيّات نقديّة واقتصاديّة" أكثر قوّة. غير أن الخليل يعترف فورًا: لقد انجرّ الجميع وأفرطنا في هذا الأمر. بهذه العبارات البسيطة، يأسف الخليل على هذه الخطوة، وكأنّها مجرّد هفوة عملياتيّة بسيطة، أو خطأ إداري هامشي.
بعد هذا الاعتراف النادر والمهم، يستكمل الخليل حديثه عن دور المصرف المركزي، الذي كان جزءًا من آليّة صنع القرار السياسيّة والاقتصاديّة، وما هو يجعل المصرف مسؤولًا عن الأزمة وأخطائها، تمامًا كحال المصارف و"الدولة". "كلهم ارتكبوا الأخطاء"، كما يشير الخليل في نهاية المقابلة-الاعتراف.
على أي حال، من المهم التنويه إلى أنّ الحديث الملغوم عن "الدولة"، بدل الإشارة إلى مسؤوليّة السلطات المتعاقبة، بات أحد الأفخاخ التي يتم استعمالها اليوم للتحايل وتحميل جزء من الخسائر للأموال العامّة، أي للشعب اللبناني. والخليل يدرك خطورة هذا الفخ جيّدًا، في الوقت الذي يتعرّض فيه لضغوط سياسيّة للقبول بالتعديلات التي قام بها رياض سلامة على ميزانيّة مصرف لبنان، والتي أفضت إلى "خلق" ديون جديدة بقيمة 16.5 مليار دولار على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف.
العودة إلى الحاضر
رغم أهميّة هذه الاعترافات النادرة، يبقى من المهم التأكيد أن سائر أجزاء المقابلة لا توحي بتراجع الخليل أو تغييره لنوعيّة المصالح التي يخدمها. ففي سياق الحديث عن برنامج صندوق النقد الدولي، والتفاهم المبدئي المعقود على مستوى موظفين، يناور الخليل ويتحايل، ليلقي اللائمة على "عدم مرونة" الصندوق في تبنّي الإصلاحات "ضمن السياق اللبناني". بهذا المعنى، نحن أمام وزير ماليّة لا يضغط لإقرار الإصلاحات المطلوبة من لبنان، والتي ساهم هو شخصيًا في الاتفاق عليها مع الصندوق. بل يسعى للضغط على الصندوق للتراجع عن الشروط، التي تمس بمصالح النخب المصرفيّة والسياسيّة في البلاد.
ثم في مكان آخر من المقابلة، يتهرّب الخليل من الحديث عن أسباب عرقلة خطة التعافي المالي، بالإشارة إلى "السياق السياسي الأوسع" الذي يمثّل "مفتاح تعافي لبنان الاقتصادي". هكذا، يسقط من أولويّات الخليل مسائل وأولويّات تقع ضمن نطاق وصايته كوزير للماليّة، مثل إنجاز مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو الاتفاق مع مصرف لبنان على مسار تدقيق الميزانيّات المصرفيّة.
هكذا، ما زال الخليل في المربّع نفسه، جزءًا من تركيبة ماليّة وسياسيّة لا تملك مصلحة في الحلول المطلوبة من لبنان. أمّا الاعتراف بمسؤوليّة الهندسات الماليّة عن خسائر مصرف لبنان، ودورها في تراكم الفجوة، فيأتي متأخّرًا بعد خراب البصرة، ومن دون أن تتم ترجمة هذا الاعتراف أو الرأي في معادلات توزيع الخسائر التي يتبنّاها الخليل. وقد يكون اعتراف الخليل هذا، مجرّد مجاراة لمواقف المؤسسات الدوليّة وشركات التدقيق الأجنبيّة، التي باتت على دراية بنوعيّة "البونزي" الذي أدّى إلى تراكم خسائر مصرف لبنان.
تعليقات: