من تاريخ التربية والتعليم في الخيام(8): المربي الأستاذ يوسف محمد خليل عطوي

الكاتب المهندس عدنان سمور والمربي الراحل الأستاذ يوسف محمد خليل عطوي
الكاتب المهندس عدنان سمور والمربي الراحل الأستاذ يوسف محمد خليل عطوي


المُطَّلع على تاريخ التربية والتعليم في الخيام ، يعرف جيداً ، أن الأستاذ يوسف عطوي ، يمثل أحد أعمدة نشوء المدرسة الرسمية في الخيام ، بالمعنى الحديث للكلمة ، لذلك فقد شرَعتُ بجمع المعطيات عن تجربته التربوية ، بشكل متناثر بداية من زملاء دراسته وتلامذته ، ولاحقاً تشرفت بلقائه في مكتبه في مدرسة الليسة دي زار في (16/05/2011) ، كما تشرفت في (12/03/2022) بلقاءٍ ثانٍ به في منزله في بئر العبد وكان بحضور صديقنا الحبيب ، إبنه المهندس أسعد ، كان لقاءً لطيفاً وحميماً ، سنستعرض فيما يلي من سطور ، تفاصيل مجريات هذين اللقائين ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن في قصة الأستاذ يوسف عطوي أمر لافت ، إضطرنا لنبدأ بسرديته من فترة جده ومن ثم والديه بعد ذلك ، لأن هذه الاسرة الكريمة قدَّمت شهيدين نموذجيين في مجزرة الخيام التي نفذها الصهاينة وعملاؤهم في 17/03/1978 ، على أرض الخيام ، مجزرةٌ حفرت عميقاً في ذاكرة الخياميين وما زالت كذلك ، ومثَّلت هذه المجزرة المروعة ، محطة خالدة في حكاية صمود الخياميين وتعلقهم بأرضهم ، وقد سبق وذكرت في إحدى المقالات السابقة التي تحدثت فيها عن الذاكرة الشفهية للخيام ، بأنني سأبذل أقصى جهد ممكن لتدوين الذاكرة الشفهية للخياميين عن هذه المجزرة المروعة التي حصلت ، ولا أخفيكم بأني شعرت بكثير من التقصير من قبل الكتاب والمؤرخين والمثقفين والشعراء الخياممين ، في حفظ سيرة حياة شهداء المجزرة ، وأهم الأحداث والتفاصيل المتعلقة بالظروف التي أدت لحصولها ، ورافقت أحداثها الصعبة والمؤلمة ، وما تلاها من تعاطٍ مجحفٍ وظالم في هذه القضية بحق الشهداء ، وفي قضية الإقتصاص من الأعداء القتلة والمجرمين ، الذين للمجزرةوالذين إفتعلوها .

هذا الخيار الذي إعتمدناه في تناول موضوعنا ، تم فيه المزج بين مَداد التربية والتعليم الذي صار الأستاذ يوسف عطوي أحد رموزه ، ومَداد الدم الذي بذله والداه الشهيدان ، والذي يعكس الوعي بقضايا الوجود الاكثر عمقاً ، والأكثر تعلقاً بالأرض وبقيم العدالة الإنسانية وبحقوق الإنسان.


الحاج خليل عطوي (جدّ الاستاذ يوسف عطوي)


نقدِّر أن ميلاد الحاج خليل عطوي كان في ستينات القرن التاسع عشر ، وكان الرجل يعمل مزارعاً كمعظم الخياميين في تلك الحقبة من الزمان ، وكان يعمل إضافة لمهنة المزارع ، كالكثيرين من أبناء الخيام يومها ، في التجارة (مكاري) ، ونتيجة المجاعة والظروف الصعبة التي مرَّ بها العالم في الحرب العالمية الأولى ، ومن جملتها الخيام ، التي كانت لا تزال تابعة للحكم العثماني يومها ، وكانت الخيام يومها عبارة عن قرية صغيرة ، يبلغ تعداد سكانها حوالي ثلاثة آلاف نسمة ، ومنازلها مشيَّدة من الطين وأزقتها ترابية ضيقة ، وينقل سكانها الماء على الرؤوس أو على الدواب ، من ينابيع الماء والأنهار المنتشرة حول سفوحها المطلة على السهول الممتدة حولها من سهل المرج إلى سهل الوطى ، وصولاً إلى سهل الحولة المنبسط جنوباً بإتجاه بركة طبريا في فلسطين ، ولم يكن يوجد مراحيض ، ولا مغاسل أومجالي في المنازل أو المعابد في الخيام ، وكانت الحياة بدائية ومحكومة لنظام إقطاعي قاسٍ لا يرحم ، وكانت الموارد شحيحة ، والمدارس عبارة عن كتاتيب يُدرَّس فيها القرآن الكريم للأطفال الطامحين للتعلم والتطور والتغلب على صعوبات الحياة .

وكان للفرنسيين في لبنان نفوذاً وإمتيازاً في تلك الفترة ، حصلوا عليه من السلطنة العثمانية ، وذلك من خلال نظام المتصرفية ، ومن خلال الإمتيازات التي فرضتها الإمبراطوريات الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية ، التي وُصِفت في تلك المرحلة بالرجل المريض .

في هذه الظروف الصعبة التي كانت تعيشها الخيام ، والتي إزدادت صعوبة بسبب الحرب ، قرر الحاج خليل عطوي أن يهاجر مع المهاجرين الخياميين إلى القارة الاميركية ، التي كانت بعيدة عن اجواء وآثار الحرب الدائرة في العالم يومها ، ومن الخياميين الذين هاجروا في تلك المرحلة نذكر (الحاج يوسف مخزوم (أبو نعيم) – الحاج خليل حيدر(رئيس البلدية) – الحاج محمد حسن عواضة (والد الأستاذ علي) – الحاج إبراهيم مهنا (والد الأستاذين حسين ومحمد) – عبد النبي عطية (والد الأستاذ رضا) – كرم عطالله(والد الدكتور شكرالله كرم) ).

كان لخليل عطوي أسرة مكونة من زوجته (حمدي ضاوي) التي توفيت في عمر الشباب ، وولده محمد ، وإبنتيه (الحاجة فاطمة – والحاجة خديجة ) فإصطحب معه في سفره ولده الوحيد محمد ، وابقى إبنتيه برعاية إبن أخته علي حسن ضاوي والد المرحوم كامل ضاوي (رئيس البلدية) ، وفي ذلك التصرف مؤشر واضح الى مدى الترابط التراحمي ومستوى الإرتباط الحميم بين الاقارب والأرحام ، ومدى الثقة في الإعتماد الأسري بين العائلات في ظروف الحاجة والشدة ، وقد عمل خليل عطوي برفقة ولده في الأرجنتين في الزراعة مدة خمس سنوات ، أمضياها بالكد والتعب لتحسين ظروف أسرتهما المعيشية والمادية ، وكانا يحلمان دائماً بالعودة من الغربة الموحشة ، إلى الأهل والاحبة في الخيام ، وكانت هذه التجربة غنية لهما ، خاصة للشاب اليافع والطامح والجاد خليل ، أمل والده ووحيده .


عودة الحاج خليل عطوي من الهجرة


عاد الحاج خليل عطوي من هجرته إلى الخيام حاملاً لغة جديدة هي اللغة الإسبانيولية ، وخبرات زراعية جديدة أيضاً ، ومجموعة من العادات والتقاليد التي عاينها وعايشها ، وعاد بها مع مجموعة من زملائه الخياميين ، الذين حافظوا على التواصل والتزاور فيما بينهم في الخيام ، بعد عودتهم ، وكانوا يروون ذكرياتهم المشتركة في الأرجنتين ، ويشربون المَتَّة الأرجنتينية التي إصطحبوها معهم ، ويتحدثون بالإسبانيولي ، حيث كان ينظر وينصت الخياميون إليهم بدهشة وإعجاب .

عاد الحاج خليل عطوي برفقة ولده إلى الخيام ومعه مبلغ مُعتدٌّ به ، جمعاه بتعبهما وكدِّهما وعرق جبينهما ، وقد مكَّنه هذا المبلغ ، من تشييد بيت جميل للأسرة ، بناه بالحجر الصخري وكان يتألف من طابقين ، يزينه سقف من القرميد الأحمر القاني ، ويرجح أن يكون البنَّاء للبيت هو العمَّار الخيامي البارع ، صالح عبود (أبومحمد) ، نظراً للعلاقة الطيبة التي كانت تربطه بالحاج خليل عطوي وولده محمد ، وكانت تقع خلف البيت حاكورة فيها بعض أشجار الفاكهة ، وزريبة للبقر ، وفيها مسطبة وبجانبها بئر ماء للخدمة ، وأمامه حوش مُظلَّلٌ بالبيت طوال النهار بسبب وقوعه شماله ، وقد بنى الحاج خليل بيته على عقار كان قد تملَّكه قرب حارة البركة ، وهو البيت الذي ورثه حفيده الأستاذ يوسف عطوي لاحقاً ، وكان بيت خليل القديم يقع قرب المسجد الصغير في الحي الغربي ، قرب منزل المرحوم إبراهيم عبدالله (أبو رائف) ، وقد ظلت تربط إبراهيم عبدالله ومحمد خليل عطوي علاقة حميمة طوال حياتهما ، بحكم الجيرة القديمة بينهما ، كما مكَّنه المبلغ الذي عاد به من الأرجنتين ، من شراء مجموعة عقارات لا بأس بها ، صار يُضمِّنُها للمزارعين الخياميين الفقراء مقابل حصة يَتَّفِق معهم عليها ، وتكون من حصاد المواسم البعلية بسبب بعد عقاراته عن مصادر مياه الري ، وكان الكثير من المهاجرين العائدين إلى الخيام بعد غربة ، يكونوا قد جمعوا فيها ثروةً جيدة ، يمارسون هذا النوع من العمل ، أمثال الحاج خليل حيدر وكرم عطالله وغيرهم ، ويذكر أبناء محمد خليل عطوي وبناته ، أنهم كانوا يذهبون ، في موسم حصاد المزارعين الضامنين للارض من والدهم ، وأحياناً كانت ترافقهم والدتهم ، حيث يعاين الجميع رجد الحبوب (نقلها من الحقل إلى البيدر) بواسطة الجمال والدواب ، كما يعاينوا درس الحصاد بواسطة المورج وتذريته ، حتى يأخذوا حصتهم المتفق عليها من الغِلَّة (المحصول) وكانوا يصطحبون معهم شماسي تقيهم أشعة وحرارة الشمس .

إضافة لتضمين الأرض إلى المزارعين الخياميين ، إمتهن خليل عطوي ، مهنة الخواجكي ، وهي بيع الأقمشة والبالية في الخيام وفي الأسواق ، وكان

محمد رفيق والده في حِلِّهِ وتَرحالِه ، وكان محباً لوالده ومتعلقاً به ، ومتأثراً به وبسلوكه في إدارة شؤون حياته وأسرته ، وكان شاباً جاداً ومثابراً في عمله ، وقد تزوج بعد عودته من الأرجنتين برفيقة عمره زكية خليل أبو عباس ، التي شاركته حلو الحياة ومرها ، وكانت نعم المعينة والمطيعة له ، في الشدة والرخاء ، وقد أنجبت له زكية ، أسرة عامرة مؤلفة من ثماني شباب هم (علي(مربي ومعلم) – إبراهيم(يعمل في مجال المساحة ، وهو والد شهيد الدفاع المقدس الحاج سامر عطوي)– محمود(موظف في الجمارك) – يوسف(مربي ومعلم) – خليل – بديع – عدنان – غسان) وإبنتين هما (حمدي (إم عزت ضاوي) التي حملت إسم جدتها ، وعطور (أم فادي سويد) ).


عمل الحاج محمد خليل عطوي


توفي الحاج خليل عطوي عام 1939 ، ففقد إبنه الوحيد محمد بوفاته سنداً وعوناً على الحياة ومصاعبها ومتاعبها ، ولكنه كان قد بلغ من العمر 44 عاماً وصار رجلاً ذو خبرة وتجربة لا يستهان بهما ، وكان قد فتح مع والده محلاً لبيع البالية والاقمشة في ساحة الخيام في محلات عبدو الحاج علي (خال المرحوم كامل ضاوي) حيث فتح كامل ضاوي لاحقاً محلات له فيها .

وكان الحاج محمد عطوي قبل إنتشار وسائل النقل ، يشتري البالية والأقمشة من تجار الجملة في النبطية وبنت جبيل وينقلها بواسطة الدواب مثل الجمال والبغال إلى داره ، حيث يقوم بمساعدة أفراد اسرته بتصنيفها وتعريبها ، تمهيداً لنقلها إلى الاسواق لبيعها ، وكان يقصد الأسواق الاسبوعية في الخيام ومحيطها،حيث كانت تنتشر الاسواق بحيث كان سوق

الخيام يقام يوم الخميس ، وسوق الخان قرب نهر الحاصباني يوم الثلاثاء ، وسوق مرجعيون يوم الجمعة ، وسوق القليعة يوم الاحد وهكذا دواليك ، ومع إنتشار وسائل النقل الحديثة صار التجار الخياميون ومنهم خليل عطوي ، يشترون بضاعتهم من سوق بيروت المركزي قرب المرفأ ، وكانوا ينقلونها بواسطة الطندر(وهو الإسم الذي كان يطلق على البيكأب في تلك المرحلة) إلى الخيام وإلى الأسواق .


شخصية الحاج محمد خليل عطوي التربوية


كان الحاج محمد خليل عطوي كالكثيرين غيره من الخياميين ، متاثراً بشخص الدكتور شكرالله كرم ، الذي مثَّل نموذجاً متالقاً للإنسان الخيامي المتنور ، والطامح إلى تطوير وتقدم مجتمعه ، معتمداً بشكل أساسي على العلم كمدخل للخلاص من التخلف والعصبيات والتبعية للإقطاع والإستعمار ، لذلك سعى بكل ما يمتلك من طاقة وقوة وعلاقات إجتماعية ، لتعليم أفراد أسرته ، كما كان حريصاً على تحصيل الثقافة والحكمة من خلال القراءة ومرافقة أصحاب الرأي والخبرة ، فكان يهتم بالمطالعة ، وقد إشترك في مجلة الطريق التي كانت تأتي إلى مكتبة المرحوم عبد الأمير عيسى ، ولاحقاً كان يقرأ مجلة العربي التي تصدر في الكويت ، كما كان يتبادل الكتب مع قسيس البروتستنت في الخيام ، القس سليم ، وهذا النوع من السلوك يعتبر متقدماً جداً بالنسبة لأبناء جيله ولإهتماماتهم الثقافية ، وهناك قصة جميلة لا بأس من ذكرها ما دمنا تحدثنا عن العلاقة الطيبة التي كانت تربطه بالقسيس سليم ، حيث كان ينبت في حاكورة الحاج محمد نبات الأرضي شوكي ، وذات يوم شاهدها القس سليم في إحدى زياراته للحاج محمد ، فسأله ماذا تصنعون بهذه النبتة ؟ فأجابه أنه يُطعمها للبقر ، فإبتسم القسُّ وقال لصاحبه نحن أولى بها أيها الصديق العزيز ، وصار يحصل القس سليم على زهرة الأرضي شوكي التي تنبت سنوياً في حاكورة الحاج محمد، كهدية سنوية من صديقه المحب ، لتطبخها لها زوجته القسيسة ، التي كانت خبيرة في طهي الأرضي شوكي ، في وقت لم تكن لدى الحاجة أم علي عطوي أي معلومة عن كيفية طهي الأرضي شوكي.

كان محمد خليل عطوي حريصاً على نشر المودة والتعاطف والتعاون ، بين أفراد أسرته ، بحيث يشعر كل فرد بحصته من العاطفة والرعاية ، رغم كثرة عدد أفراد الاسرة في مرحلة عزوبية الأبناء ، وما أضيف إليها لاحقاً من أحفاد ، عندما بدأ أفراد الأسرة يتزوجزن تباعاً ، وتجدر الإشارة أنه عندما تزوج إبنه البكر الأستاذ علي من الحاجة سوريا أمين عياش ، إستضاف الحاج محمد ، الأسرة الجديدة الناشئة ، في الطابق العلوي من المنزل ، كمرحلة تأسيسية للعائلة الفتية ، لتتمكن من بناء منزلها المستقل لاحقاً ، وهذا ما حصل بالفعل ، كما كان يحرص الحاج محمد على تعليم أبنائه في مدارس الخيام ، وإذا أنهوا الصفوف العليا الموجودة في المدارس ، ينقلهم إلى مدارس في بيروت ، حيث درس إبنه علي في الكلية الشرعية في بيروت ، وكان من زملائه في الخيام المرحوم الأستاذ حسين كاظم عطية ، ومن شبعا حسان ماضي ورؤوف القادري الذي صار مفتياً لراشيا الوادي لاحقاً ، وكان يدرِّسهم في الكلية الشرعية والد المرحوم المفتي حسن خالد ، ودرس لاحقاً في هذه الكلية من أبناء الخيام الأستاذ رياض أشمر والشيخ حسين عبدالله(قارىء العزاء) ، ويذكر هؤلاء أن جو الكلية الشرعية كان مثالياً في التعايش بين المذاهب دون أي تفرقة أو تمييز.

كان أحفاد الحاج محمد خليل عطوي معجبين بشخصية جدهم إلى درجة الإنبهار ، ويذكر حفيده المهندس أحمد علي عطوي ، أنَّه كان يتعمد زيارة جده ليتأمل حركاته وسكناته ، ويستمع إلى حديثه المتقن والمعبِّر عن رأي مبني على خبرات عميقة في الزمان والوعي ، وقد صقلتها الحياة بتجاربها واحداثها الغنية وبمصاعبها وبلاءاتها ، ويصفه عندما يرتدي ملابسه النظيفة والطاهرة إستعداداً للصلاة في الحوش ، فينتعل قبقابه الخشبي الذي يضخم صوت خطواته في أرض الدار ، وكيف كان يستخرج الماء من بئر الجمع بواسطة دلوٍ معدنيٍّ ، ثم يسكبه على شاشة من القماش وضعها على فم المنشلٍ(الجرة) ، لتنظيف الماء من الشوائب التي علقت بها ، ثمَّ يرفع رأسه إلى السماء لينوي نية الوضوء ، ويبدأ بعدها بِغَسل وجهه ويديه ، وبعد أن ينهي وضوءه ، يقف على المصلية متوجهاً لربٍّ رحمانٍ رحيم ، وإذا سأله حفيده ، سؤالاً عن قضية من القضايا ، بعد أن يُنهي صلاته ، فإنه كثيراً ما كان يَصفُن ويتأمل قبل أن يجيب ، ليكون جوابه محيطاً بكل متعلقات السؤال.

ومن القصص اللطيفة التي لا زال يذكرها الأبناء والأحفاد ، أن الحاج محمد كان يربي معزايتين شاميتين في حاكورة البيت ، وذات يوم دخلت إحداهما إلى إحدى غرف المنزل في الطابق الأرضي ، حيث كانت توجد كومندينا وخلفها مرآة كبيرة ، فما كان من المعزاية الشامية ، إلا أن وضعت قوائمها الأمامية على الكومندينا ، وراحت تحدق في المرآة ، مندهشة من المعزاية التي تقف قبالتها وتبادلها التحديق ، الأمر الذي أغضبها واضطرها لترفع قائمتها اليمنى وتركل فيها المرآة ، فتتسبب بتحطمها ، الأمر الذي أحزن أهل البيت على خسارة المرآة الجميلة ، لكنه صنع لهم حادثة جميلة يتندرون بذكرها أمام جيرانهم ومعارفهم ، وللأسف الشديد فقد دمر العدو الصهيوني البيت الجميل الذي بناه الحاج خليل عطوي في عدوان العام 2006 ، كما خسر الخياميون في كثير من الحروب ، أجزاءً عزيزة من ذاكرة رائعة كانت تختزنها عماراتهم وأماكنهم التي دمرها العدوان الحاقد مرَّات ومرات في الحروب المتعاقبة .

مفاهيم محمد خليل عطوي حول علاقة الإنسان بالأرض والوطن.

كان الحاج محمد خليل عطوي له فلسفة متقدمة في الحياة ، تشرح مفهومه لعلاقة الإنسان بالأرض والوطن ، وكان مهتماً بالأراضي التي يملكها ، وكان يركز على زراعة الزيتون ، لأن ثمر الزيتون مباركٌ وممدوح في القرآن الكريم ، ولأنه لا يحتاج إلى ري أو عناية كثيرة ، ويؤمِّن مؤونة البيت من زيت وزيتون وجُفت (فضلات تنتجمن عملية عصر الزيتون) ، يستخدم كوقود للتدفئة أو لطهي الطعام ، وكان الحاج محمد عاتباً على الفلسطينيين الذين نزحوا بسرعة من أرضهم بعد نكبة العام 1948 ، ولم يصبروا ويصمدوا فترة أطول على تحمل العدوان والقتل الذي مورس ضدهم من الإنكليز والصهاينة ، وعندما دخلت القوات المتعاملة مع العدو الصهيوني إلى الخيام واحتلتها في 17 شباط عام 1977 ، وباشر الخياميون مغادرة الخيام زرافاتٍ ووحداناً ، سيراً على الأقدام من المنحدرات الشرقية للبلدة ، إلى سهل الوطى ، ومواصلة السير بمحاذاة مجرى نهر الحاصباني وصولاً إلى جسر الفرديس ، أو عبر الطريق المحاذي لنبع إبل ، ومن ثم الإنتقال من هناك بواسطة السيارات ، إلى العاصمة بيروت أو أي منطقة آمنة أخرى ، وكان من جملة الذين قرروا الرحيل من الخياميين ، أبناء الحاج محمد خليل عطوي وعائلاتهم ، فما كان منه إلا أن إستنكر هذا القرار الذي إتخذه أبناؤه ، ولما كان يسكن مع أسرة ولده يوسف في نفس المنزل ، فقد طلب منهم البقاء في الخيام وعدم المغادرة ، وقال لهم "الدنيا بتهز ما بتوقع ، وين رايحين ، إبقوا هون" ، وعندما أصرَّ الأستاذ يوسف عطوي على المغادرة وأحضر بيكأب لتحميل جزء من أثاث المنزل ، طلب الحاج محمد من صهره زوج إبنته عطور عدم التعاون مع إبنه في تحميل الأثاث ، لذلك قرر الأستاذ يوسف البقاء مع والده في الخيام ، وأرسل أسرته مع بقية العائلات الخيامية التي نزحت ، وبصعوبة سمح الحاج محمد لزوجته أم علي بالنزوح مع أسرة ولده يوسف التي إستقرت بداية في منزل ولدها محمود في الشياح في شارع عبد الكريم الخليل ، وقد دفعها إلى إتخاذ هذا القرار ، أن زوجة إبنها محمود هي إبنة أختها ، وتوجد علاقة طيبة وحميمة بينهما .

بقي الأستاذ يوسف عطوي مدة مع والده في الخيام محاولاً إقناعه بالرحيل ، لكنه لم يوفق في مسعاه ، فاعتذر من والده ، وغادر الخيام متوجهاً إلى بيروت والتحق بأسرته ، وبعد فترة وجيزة ، وحرصاً على سلامة والدهما ، قصد إثنان من ابناء الحاج محمد خليل عطوي الخيام ، وتمنيا على والدهما النزول معهما إلى بيروت ، بسبب خطورة الوضع في الخيام ، ولكن الحاج محمد لم يقتنع بهذا الأمر ، وبقي مصراًّ على موقفه ، لكنه نتيجة تكرار الإلحاح ، نزل مع ولديه إلى بيروت مُكرَهاً ، حيث مكث فيها ثلاثة أيام ، قضاها متجولاً في الاحياء التي سكن فيها الخياميون النازحون ، في الضاحية الجنوبية لبيروت ، وكان كلما رأى تجمعاً لأبناء الخيام ، يتوجه إليهم بالقول ، ماذا تصنعون هنا ؟ وما لكم في هذه المدينة ؟ لماذا لا تعودوا إلى منازلكم وارزاقكم ؟ لمن تركتم الخيام بعدكم ؟ ايجوز أن نترك أرضنا وبلادنا للغرباء ؟ فتضيع كما ضاعت فلسطين ؟

كان الحاج محمد خليل عطوي يشعر بأنَّه أوكل إليه دور رسالي ، عليه تأديته لإلقاء الحجة على أهل بلدته ، وقد أدَّاه قبل مغادرته لهذا العالم الفاني ، إبراءً لذمته ، وقال لرفيقة دربه وأم أولاده الحاجة زكية خليل أبو عباس (أم علي) ، عودي معي يا حاجة إلى الخيام ، وأمرنا وأمرك إلى الله ، وكعادتها رفيقة الدرب كانت مطيعة ، وحملت معها إعاقتها ، حيث كانت تستخدم عكازاً ، بسبب كسر قديم في فخذها ، تم زرع سيخ من الفضة لتجبيرة ، ولكنها بسبب خطأ في التجبير والمعالجة ، بقيت الحاجة أم علي تعاني من عَرَجٍ في المشي ، إلى أن اجتباها الله شهيدة مظلومة وفيَّة لأرضها ولأسرتها .


أهم العلاقات التي كان ينسجها الحاج محمد عطوي مع الخياميين


كانت تربطه صداقة جيدة بإبراهيم عبدالله (أبو رائف) . الذي كان يقول عنه أنه "رجل محترم ، ولديه عزة نفس ، ولا يتملق لأحد للحصول على مال أو نفوذ".

كما سبق وذكرنا ، كانت تربطه علاقة طيبة بصالح عبود (أبومحمد) ، الذي كان يزوره بشكل منتظم ، وكانا يجلسان في باحة الدار ، حيث كان المشهور عن صالح عبود ، أنه كان رجلاً نافذ البصيرة ، وصاحب رأي حر ، وناقد لاذع ، وغالباً ما يحتاج الحوار معه إلى تركيز ، لأنه يكون غنياً بالعبر والمعلومات القيمة ، لذلك كان أبو علي عطوي يحرص أن يكون الجو هادئاً ، والضجة خفيفة في الدار ، عندما يكون ضيفه هو صالح عبود ، كي لا يضيع أي جزء من الحوار القيم ، وقد إمتدت صداقة صالح عبود إلى محمود ، إبن الحاج محمد ، لأن المشهور أيضاً عن صالح عبود ، أنه كان يحب مصادقة الشباب ، أصحاب العقول المتنورة ، فكان محمود في موسم قطاف الزيتون ، يدعو صالح عبود لمرافقته إلى كرم الزيتون ، ويأتي له بكرسي مريح يجلسه عليها ، ويظل يبادله أطراف الحديث ، ويبدو عليه الإرتياح والسرور ، لتعليقات محمد عبود ، وللأمثال الشعبية التي يذكرها كشواهد على الحكايات والتحليلات التي تمر في سياق الحديث ، وكان صالح عبود ، خبيراً بتاريخ الخيام ، وأهم الأحداث التي مرت بها ، وأهم الصفات التي تمتاز بها العائلات الخيامية .

من أصدقاء الحاج محمد خليل عطوي أيضاً ، خليل حميد (تاجر مواشي) ويوسف سويد (تاجر حبوب) .

إنتخب الحاج محمد خليل عطوي عضواً في المجلس البلدي ، أيام رئاسة الحاج خليل حيدر ، وكان من زملائه في عضوية المجلس ،حسن إبراهيم عواضة والحاج عبدوعيسى .

وقد وضع الحاج محمد بقرتين عند بدوي من أهالي عرب الجسر ، من آل حميد ، كما كان عدد من الخياميين ، يقتنون مواشي عند عرب الجسر ، ومن جملتهم والدي إبراهيم سمور (أبو عاطف) ، الذي إقتنى عدداً من الأغنام عند أحمد عنيزان ، وكانا يتشاركان في إنتاجهم من الحليب والمواليد .


الحاجَّين أبوعلي وأم علي عطوي يفوزان بوسام الشهادة الخالد

عاد الحاج محمد والحاجة زكية إلى منزلهما في الخيام ، وكان يعيش في الخيام في تلك المرحلة ، عدد محدود من الخياميين والخياميات المتعلقين بارضهم ، والرافضين للخروج منها ، إلا إلى الجنة ، وكانوا يتزاورون ويتعاونون ، في تحمل معاناة العيش في بلد خلت من أهلها الذين عمروها ، وملؤوا بيوتها وشوارعها ومدارسها وكنائسها ومساجدها وساحاتها حباً وحياة وعطاءً وتضحيات ومواقف مشرفة ، فكانت تلك المرحلة من عمر الخيام باهتة وكئيبة ، لكن بعض الخياميين ، رغم ذلك أصروا على البقاء والصمود مهما بلغت التضحيات ، حتى يئس المحتل من تهجيرهم ، فقرر كعادته ، أن يخرج من مأزقه بإفتعال مجزرة ، ستبقى وصمة عارٍ على جبينه ما بقي الليل والنهار ، وستبقى وسام شرفٍ وكبرياءٍ وعزةٍ وكرامة ، في صحيفة الشهداء الخالدة ، عند مليك مقتدر ، وستبقى عنوان وأيقونة فخر وعنفوان لذويهم ، ولوطنهم الذي جبلوا ترابه بدمهم بكل رضى وبكل وعي وعن سابق إصرار وتصميم.

وتجدر الإشارة هنا أن الشهيدين العزيزين أبو علي وأم علي عطوي ، بقي جثمانهما مفقودا الأثر ، رغم محاولات البحث الجادة من أبنائهم واحفادهم ، الذين يحتسبون مظلومية هذين العظيمين عند من لا تضيع ودائعه ، رحم الله الشهيدين العزيزين وكل شهداء مجزرة الخيام الخالدة ، ونسأل الله أن يمكِّننا من تدوين كل ما يخلد ذكراهم العطرة ، في الآتي من الأيام.

إستعرضنا قصة حياة هذه الاسرة المضحية ، الغنية بالعِبَر والمعاناة والتضحية والإنجازات العظيمة ، لنوصل فكرة مفادها أن شهداءنا ليسوا ، أرقاماً خالية من أي عمقٍ أو معنى ، وليسوا كمية هامشية مرَّت في الحياة ولم تترك أي بصمة تذكر أو أثر ، لا بل إن كل واحد من شهدائنا سواءً في المجزرة المروعة التي إرتكبها أعداء الإنسانية على أرض الخيام في 17 آذار من العام 1978 وراح ضحيتها 43 شهيد وشهيدة أو في غيرها ، فإن كل واحدٍ من هؤلاء كان يعيش حياةً نابضة بالأمل والشوق إلى المستقبل وحب الحياة ، وكان طامحاً لتغيير واقعه نحو الأفضل ، وكان يعمل على بناء أسرة عامرة بالخير والعطاء والكرامة الإنسانية ، وكان متعلقاً بأرضه وبمنزله وبأسرته ، ومستعداً للتضحية من أجل كل ذلك بالغالي والنفيس .


المربي يوسف محمد خليل عطوي


ولد يوسف عام 1933 في أسرة محبة للعلم والتعلم ، وقد درس في بداية الأربعينات عند أبو عبدو (إبراهيم عواضة) لمدة أسبوع فقط ، وكان يهرب من الصف مع بعض رفاقه ، عندما يبدأ الأستاذ بإستعمال عصيِّه تعبيراً عن غضبه من سلوك التلاميذ وشيطنتهم وعدم إنضباطهم ، وكانوا يختبؤون في الحواكير المجاورة ، وقد وجد والده مصلحةً في نقله إلى مدرسة البروتتستنت قرب الكنيسة ، سعياً لتحصيل علم أكثر تنوعاً ، وقد درس فيها يوسف مدة سنة كاملة ، ويذكر أنها كانت تضم أربعين تلميذاً ، كما يذكر أنَّ والدته خاطت له حقيبة مدرسية من القماش ، وضع فيها كتبه ودفاتره والقرطاسية المتواضعة التي يحتاجها ، من قلم رصاص وممحاة ومبراة ، ويذكر من مٌدرِّسيها الأستاذ رجا من بلدة راشيا الفخار ، وقد إنتقل بعدها إلى المدرسة الرسمية التي كان يديرها معلم الخيام الرسمي الأول ، الأستاذ أحمد بلبل ، وكان يُعلِّم معه أستاذ آخر لا غير ، وكان الأستاذ أحمد بلبل ، رجلاً شديد الإنضباط ، ويتعامل مع التلاميذ كأنهم جنود ، عليهم التحلي بروح المسؤولية ، وعليهم أن يكون لباسهم وكلامهم وسلوكهم خاضعين لأنظمة وقوانين محددة ومتفق عليها ، وأي تجاوز يعرض صاحبه للعقوبة ، ومن زملاء يوسف في الدراسة (محمد أسعد مهنا – حسين إبراهيم مهنا – حسين عواضة – أحمد مهنا وأخوه علي عطوي .

عام 1949 نجح يوسف في صف السرتفيكا ، ومن الزملاء الذين نجحوا معه (فضل الله نصار – حسين مهنا – فضيل ونا – واكيم شاهين – منير القاصوف).

عام 1950 تم فتح صف أول متوسط للمرة الأولى في مدرسة الخيام الرسمية ، درس فيه يوسف مع زملائه الذين حازوا على الشهادة الإبتدائية ، وكان يدرِّسهم ، الأستاذ علي حسين عبدالله ، والأستاذ علي مقلد من جرجوع ، والأستاذ حسين مهنا ، وبعد إنتهاء العام الدراسي ، لم يعد هناك فصول دراسية ، تستوعب الطلاب الوافدين ، ولم يعد هناك أيضاً ، أساتذة تكفي لتغطية فصول دراسية إضافية ، الأمر الذي دفع الحاج محمد عطوي إلى أن ينقل ولده يوسف إلى مدرسة العاملية ، في منطقة رأس النبع في بيروت ، فذهب برفقة أحد زملائه من الخيام ، وخضعا لإمتحان دخول ، سُمِح بموجبه ليوسف ، بأن يسجَّل في الصف الثاني المتوسط ، وطلب من زميله ، أن يعيد الصف الأول المتوسط ، الأمر الذي لم يناسبه ، فعاد أدراجه إلى الخيام ، ودرس يوسف عامه الدراسي في العام 1951 وأنهاه بنجاح ، ولما كانت المدرسة العاملية تتطلب دفع قسطٍ مدرسي ، فقد بحث الحاج محمد عن طريقة لنقل يوسف إلى مدرسة رسمية في بيروت ، فاستعان بصديق له ، أخبره أن أخاه أبا فيصل موظف شرطي بلدي ، ومسؤوله الأعلى هو وزير الداخلية عبدالله اليافي ، حيث يمكن لأبو فيصل ، أن يتوسط لدى الوزير ، لقبول تسجيل يوسف في مدرسة البر والإحسان ، في منطقة طريق الجديدة ، وهذا ما حصل بالفعل .

كان محي الدين البواب ، مدير مدرسة البر والإحسان ، حيث درس يوسف فيها حتى أنهى صف البكالوريا ، وكان يدرس معه من مجايليه من الخيام ، محمد باشا وحسين جمعة ، وكان محمد أسعد مهنا وأخوه أحمد ، أكبر سناً من يوسف .

بتاريخ 11/11/1955 ، تم تعيين يوسف أستاذاً رسمياً ، وبدأ عمله عندما إلتحق بناءً على قرار وزارة التربية ، بمدرسة بلدة الكواخ التي تقع شمال شرق مدينة الهرمل ، قرب وادي فيسان ، وكان عمله في تلك المدرسة تأسيسياً ، حيث درس فيها لمدة سنتين ، وكانت تربطه علاقات طيبة بالطلاب وذويهم ، المتعطشين للعلم والمحبين لمن يحمل إليهم المعرفة ، وفي السنة الثانية ، في شهر نيسان ، زار الأستاذ يوسف ، أحد مفتشي وزارة التربية ، للإطلاع على سير العملية التربوية في مدرسة الكواخ ، وعندما علم المفتش أن الأستاذ يوسف من بلدة الخيام ، عرض عليه الإنتقال إلى مدرسة مجدل عنجر ، ليكون أقرب إلى بلدته الحبيبة الخيام ، لكن الأستاذ يوسف طلب منه أن تكون المدرسة التي سينتقل إليها أقرب إلى الخيام ، فكانت مدرسة الهبارية هي الخيار الأنسب ، وهكذا حصل .

يذكر الأستاذ يوسف أن مدرسة الكواخ في منطقة الهرمل كانت فقيرة وبسيطة ولم يكن فيها مقاعد مدرسية وطاولات وكراسي ، فقام مع زملائه المدرسين بطلب تجهيزات للمدرسة ، وقد إستجابت وزارة التربية لطلبهم ، وتحسَّن وضع المدرسة نسبياً ، وقد تعلَّق أهالي الكواخ بالأستاذ الشاب ، المتحمس للتربية والتعليم ، والحامل لروحية غنية بالمعارف ، وحبٍّ شديدٍ للإنضباط والمتابعة وتنظيم الوقت ، لذلك عندما صدر قرار وزارة التربية بنقله إلى مدرسة الهِبَّارية خرج مع الأستاذ يوسف وفد مودِّع من أهالي بلدة الكواخ ، شيَّعه إلى منطقة بيادر الكواخ عند مدخل البلدة ، وأعرب له بعض المودِّعين عن تمسكهم ببقائه عندهم ، ورَجَوه أن يعود عن قراره ويبقى يدَرِّس أبناءهم ، لكن العقلاء من المودعين ، قالوا لرفاقهم " علينا أن لا نتسبب للأستاذ يوسف بأي أذى أو ضرر ، لأن مخالفة تطبيق مرسوم نقل الأستاذ يوسف الصادر عن وزارة التربية الوطنية ستتسبب بقطع راتب الأستاذ ورزقه ، وهذا أمر لا يليق أن نرضى به ، فقبل الجميع برحيل الأستاذ وودعوه بطريقة عاطفية جميلة ، كما هو حال البقاعيين عادة في تعاملهم مع الضيوف ، وبقيت هذه الذكرى ممتعة للأستاذ يوسف ومدعاةً له للإعتزاز والفخر بحب الناس وتقديرهم لجهوده وإخلاصه في عمله.

يذكر الأستاذ يوسف عطوي ، أنه كان يوجد في الكواخ عائلتان أساسيتان ، منها عائلة الهق ، ويذكر من تلاميذه يومها حسن الهق الذي صار لاحقاً أستاذاً في ثانوية الهرمل ، وعبدالله الهق الذي صار لاحقاً مديراً لمعمل بلاط وسيراميك في منطقة القاع .

عام 1958 وبناءً على رغبته ، ونتيجة إنتقاله للتدريس في مدرسة الهبارية إقترب خطوة من الخيام ، فتزوَّج من شريكة حياته زينب علي ضاوي ، وأخذ معه زوجته إلى الهبارية حيث إستأجر لها بيتاً مؤلفاً من غرفة واحدة ، وكانت هذه الأمور مقبولة ومستساغة يومها ، ولا يعتبر فيها أي نقص ، ودرَّس مع زميله الوحيد في مدرسة الهبارية يوسف شعبان ، فصاروا يوسفين ، وكانت هذه هي المرة الأولى في بلدة الهبارية ، التي يفتح فيها صف سرتفيكا (الخامس إبتدائي) وكان يضم إثنا عشر تلميذاً ، وفي نهاية العام الدراسي تقدم جميع التلاميذ على الإمتحان الرسمي ، فنجح منهم تسعة طلاب ، وقد إعتٌبِر هذا الأمر يومها إنجازاً علمياً نوعياً على مستوى الهبارية ، ونتيجة إنبهار ذوي الطلاب وفعاليات البلدة بهذا الحدث الإستثنائي الغير متوقع ، فقد قدَّموا للأستاذين الكفوءاين إثنا عشر خروفاً ، فاحتار الأستاذان ماذا يصنعان بهذه الشَّلْعَةِ (القطيع) من الخراف ، فصاروا يذبحون كلَّ أسبوع ، واحداً منها ، على شرف المدرسة وبعض فعاليات البلدة مثل المختار وبعض الوجهاء ، وكانت تسود هذه الولائم أجواءً جميلةً ولطيفةً ، مفعمةً بالإلفة والمحبة ، بين الطلاب وذويهم وبين المعلمين .

درَّس الأستاذ يوسف عطوي في الهبارية ست سنوات ، ويذكر من تلاميذه محمد أبو همين الذي صار لاحقاً ضابطاً في الجيش اللبناني ، وكم تفاجأ وفرح الأستاذ يوسف بلقاء تلميذه ، عندما إلتقاه عام 1974 في منطقة النويري في بيروت فتقدم الضابط بمشية عسكرية نحو أستاذه ، وقدَّم له التحية العسكرية ، بكل جدية ووقار ، لكن الأستاذ يوسف لم يعرف تلميذه ، نتيجة تغير ملامحه ، فعرَّفه التلميذ بنفسه وعانقه عناقاً حاراً ، ومن تلامذته أيضاً في مدرسة الهبارية ، الدكتور علي أبو همين ، الذي صار لاحقاً طبيب قضاء حاصبيا،وكذلك كان أحد تلامذته أيضاً الدكتور يونس الزين .

عام 1963 تم نقل الأستاذ يوسف عطوي إلى الخيام ، فعاد إلى أهله وجيرانه ورفاق دربه ، حاملاً تجاربه التأسيسية ، وإنجازاته الرائعة في مجال التربية والتعليم ، فاستقبله المربي الأستاذ علي عبدالله ، الذي كان يعاني من ضغط كبير ، أدَّى إلى حصول بعض التشتت في مدارس الخيام ، نتيجة ضيق مساحات المدرسة الأولى في حارة البركة ، التي أضيف إليها عدد من البيوت المستأجرة ، التي تحولت إلى مدارس متباعدة ، ويصعب ضبطها إدارياً ، وكانت قد باشرت وزارة التربية ، في بناء مدرسة البركة المتوسطة على عقار البركة التي حمل الحي إسمها منذ نشوء بلدة الخيام إلى يومنا هذا ، فَعَلَّم الأستاذ يوسف عطوي اللغة العربية لطلاب السرتفيكا مدة سنتين ، وباشر بدراسة المحاماة في الجامعة في نفس الوقت ، وبعد مرور السنتين ، قرَّرت وزارة التربية والتعليم ، تأسيس مدرستين إبتدائيتين في الخيام ، إستلم الأستاذ نايف مرعي إدارة إحداها ، وإستلم الأستاذ يوسف عطوي إدارة المدرسة الثانية التي هي المدرسة القديمة في حارة البركة ، وبقي الأستاذ علي حسين عبدالله مشرفاً على إدارة المدارس الثلاث الإبتدائيتين والمتوسطة ، بسبب خبرته وحيويته ، وثقة الأهالي والمعلمين فيه ، وقد إشتهرت مدارس الخيام في تلك المرحلة بكفاءتها ومستواها الجيد ، ونسبة النجاح المرتفعة فيها.

عام 1971 حصل الأستاذ يوسف عطوي على إجازة في الحقوق ، وفي العام 1975 صدر قرار بنقله من إدارة المدرسة الإبتدائية في الخيام ، إلى دائرة التربية في صيدا ، التي كانت يومها بإدارة الأستاذ عبد المنعم نظام ، فما كان من ذوي الطلاب ، نتيجة قناعتهم بالأداء المميزللأستاذ يوسف ، إلا أن إعترضوا على هذا القرار واجتمعوا أمام المدرسة ، واعلنوا أنهم لن يسمحوا بفتحها بعد اليوم ، إلا إذا تراجعت وزارة التربية عن قرارها ، وأبقت الأستاذ يوسف عطوي مديراً للمدرسة ، وهكذا كان ، حيث بقي الأستاذ يوسف في خدمة أهله في الخيام ، ملبياً رغبتهم ومقدِّماً تجربة رائعة في التربية والتعليم .

وظل الوضع على هذا الحال ، إلى أن وقعت الحرب الأهلية في لبنان ، وصار الوضع يزداد سوءاً ، وبدأت الأوضاع الأمنية في الخيام تتأثر وتضطرب ، إلى أن تم تهجير الجزء الأكبر من الخياميين من بلدتهم ، بعد دخول الصهاينة إليها بواسطة الميليشيات العميلة ، التي عاثت في الخيام خراباً ودماراً وقتلاً ، فقامت بإغتيال طبيب الفقراء وأيقونة الخيام في العطاء والتضحية الدكتور شكرالله كرم ، وثُلَّة من الشباب الخياميين الأبرياء ، ظلماً وعدواناً ، وأتبعوا هذه الجرائم بإفتعال مجزرة مروعة ، راح ضحيتها 43 من الخياميين الأبرياء العزل ، معظمهم من المسنين المتمسكين بأرضهم وأرزاقهم وموطن ذكرياتهم الجميلة .

كانت أسرة الأستاذ يوسف عطوي ، من جملة الأسر الخيامية التي تهجرت إلى ضاحية بيروت الجنوبية ، وعندما قصد مدرسة مار أنطونيوس الواقعة في أطراف منطقة الصفير ليسجل أبناءه فيها ، علمت إدارة المدرسة أن الأستاذ يوسف لديه تجربة غنية بالتعليم ، فطلبت منه التدريس فيها ، فقبل وباشر تدريس مادتي اللغة العربية والإجتماعيات ، والتحق في نفس الوقت بمدرسة بئر العبد الأولى التي كانت مكتظة بالمعلمين بسبب إلتحاق معلمي الجنوب النازحين من منطقة الشريط الذي إحتله العدو الصهيوني ، وإلتحق بعد ذلك بالمدرسة الرسمية المحاذية لمعمل غندور القديم الذي شُيِّد على أرضه مبنى "بيروت مول" في منطقة الشياح ، وظل يُدرِّس حتى وجد ، أنه بسبب التفلت الأمني والأخلاقي الناتج عن أجواء الحرب ، باتت علاقة الطلاب بالمعلمين في المدارس الرسمية ، تفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة والأصول ، ففضل الأستاذ يوسف عطوي تقديم إستقالته من مهنة التعليم ، تفادياً للمشاكل وإحتراما لتاريخه وسمعته .

صادف في العام 1979 ، أن الأستاذ كامل حسين عواضة ، باشر إنشاء مبنى في منطقة الرويس ، في ضاحية بيروت الجنوبية ، وكان ينوي تأسيس مدرسة في هذا المبنى ، فطلب من الأستاذ يوسف عطوي إستلام إدارة المدرسة ، الذي وافق على طلبه ، وبدأ في العام التالي ، بالإشراف على تأسيس مدرسة الليسة دو لا فينس ، حيث أشرف على برامجها ومناهجها ، وتنظيم إدارتها ، مدة عشر سنوات ، وكان له مساهمة جوهرية في تأسيسها ، بالتعاون مع الأستاذ كامل عواضة ومجموعة من الأساتذة والمعلمات ، الذين كان معظمهم من الخياميين والخياميات ، حتى أصبحت مدرسة لها إسمها وسمعتها في محيطها ، ولم يكن الأستاذ يوسف يُعتَبرُ مديراً بشكل رسمي في مدرسة الليسة دو لا فينس طوال هذه الفترة ، لأنه كان لا يزال مسجَّلاً أستاذاً في ملاك التعليم الرسمي في وزارة التربية .

عام 1989 سافر الأستاذ يوسف عطوي لزيارة أبنائه في البرازيل ، والتقى بإخوته وأقاربه ومن جملتهم ، إبن أخته طلال كامل ضاوي ، الذي وجد لديه طموح بإنشاء مدرسة في لبنان ، وهو يعلم أن خاله يوسف صاحب خبرة ، في تاسيس المشاريع التربوية ، فاستعان به لوضع خطة متكاملة لإنشاء مدرسة في ضاحية بيروت الجنوبية ، منطلقاً من تحديد مساحات الأرض التي تحتاجها المدرسة ، مع لحظ التوسع المستقبلي ، مع تحديد كلفة المباني المدرسية والملاعب ، إضافة للموازنة التشغيلية للمدرسة ، خاصة في مرحلة التأسيس الأولى ، مع ضرورة التركيز على عدم التسبب بأي ضرر لمدرسة الليسة دو لا فينس ، لناحية إستقطاب الطلاب أو المعلمين منها ، وعندما إطمأن الأستاذ طلال وخاله يوسف لسلامة الخطة ، توكلا على الله وبدأّ بتنفيذها على وجه السرعة ، حيث حضر الأستاذ طلال إلى بيروت مباشرة ، وشرع بشراء الأرض ، والتحضير لترخيص البناء ، وإعداد الفريق الذي سينفذ المشروع ، ويذكر الأستاذ يوسف أنه عندما كان في كندا التي بقي فيها ثلاثة أشهر ، ناقش ولده عصام بمشروع المدرسة ، وسأله عن رأيه بالإسم الممكن إعتماده لها ، فصفن عصام قليلاً ، وقال لأبيه ، ما رأيك بأن تسموها "كلاس دي زار" ، فقام الأستاذ يوسف بإستبدال كلمة كلاس بكلمة ليسة ، وتم إعتماد إسم "ليسة دي زار" ، الذي لا زال معتمداً لتاريخه ، ولشدة حماس الأستاذ يوسف لفكرة المدرسة الجديدة ، قام بتصميم شعار لها ورسَمَهُ بيديه ، ومن جميل الصدف أنه كان قد قدَّم ، إلى وزارة التربية اللبنانية ، قبل سفره إلى كندا بعدة أشهر ، طَلَبَ إنشاءِ مدرسة ، وعَلِمَ أثناء وجوده في كندا بموافقة الوزارة على طلبه ، كما عَلِمَ أيضاً أن الوزارة تطلب منه الإسم والشعار الَّذَيْنِ يريد إعتمادهما للمدرسة ، فأرسلهما من كندا بواسطة الفاكس .

بعد عودة الأستاذ يوسف إلى لبنان ، كانت ورشة العمل في بناء المدرسة قد بدأت ، وتم الإعلان عن قرار فتح المدرسة في العام الدراسي القادم ، وكان هذا القرار جريئاً لدرجة قريبة من التهور ، لكن الإرادة الصلبة المبنية على الخبرة المحترفة ، وعلى السمعة الطيبة وعلى ثقة الناس بالأستاذ يوسف ، جعلت الإقبال على تسجيل الطلاب يفوق التوقع ، الأمر الذي جعل الأستاذ يوسف ، يبدأ بتسجيل الطلاب ، على ورق أكياس إسمنت ورشة البناء ، الأمر الذي كان مثيراً للإستهجان ، وكانت التقديرات الأولية للطلاب الذين يمكن أن تستقطبهم المدرسة ، هو 150 تلميذ ، وعلى هذا الأساس تم الطلب من الخياطين تفصيل المراييل اللازمة ، لكن العدد الذي تم تسجيله بلغ 450 تلميذ ، الأمر الذي تسبب بالكثير من الإرباك ، في تجهيز الفريق التعليمي اللازم ، وباصات النقل ، والقرطاسية ، والمراييل ، وكل المستلزمات الأخرى ، لكن الذي حصل أنَّ هذا التحدي بعون الله وتوفيقه مرَّ بنجاح ، وإستمر النجاح والتقدم إلى أن اصبحت المدرسة عام 2023 ، تضم 2038 طالباً ، و115 معلماً ومعلمة ، وفيها 25 باص مدرسي ، و35 عاملة خدمة ، وأهم ما تنتجه المدرسة ، هو المستوى الدراسي الممتاز .

وهكذا نرى أن الأستاذ يوسف محمد عطوي يستحق بجدارة ، أن نُطلق عليه إسم " المربي المتخصص بتأسيس المشاريع التربوية الناجحة " التي بدأت بمدرسة الكواخ في الهرمل ، وانتقلت إلى مدرسة الهبارية ، وبعدها إلى مدرسة الخيام ، ومن ثم إلى مدرسة الليسة دو لا فينس وأخيراً مدرسة الليسة دي زار .

وهكذا يقدِّم أحد أبناء الخيام النموذجيين ، الأستاذ يوسف محمد عطوي ، تجربة رائدة ، في مجال التربية والتعليم ، تُمَثِّل محطة متألقة ، ومدعاة للفخر والإعتزاز للخيام والخياميين ، تضاف إلى العديد من المحطات المضيئة الأخرى ، التي تختزنها ذاكرة الخيام الشفهية ، وعلينا السعي الدؤوب ، لجمعها وحفظها وتقديمها ناصعة متلألئة ، لأجيالنا القادمة.


"إنَّ علاقتي بالتدريس ، هي علاقة حياة ، لأن القعود في البيت ، مملّْ ، وأنا أفضل أن أُعطي ، ما دمت قادراً على العطاء ، خاصة أن الحاجة أم عصام تٌوفِّيت ، وحيثما إنتقلت في زوايا البيت ، أستشعر الفراغ الذي تركه غيابها ، وأتذكر مراحل العمر الجميلة"

(يوسف محمد خليل عطوي).


عدنان إبراهيم سمور.

باحث عن الحقيقة.

23/05/2024

الحاجَّين أبوعلي وأم علي عطوي يفوزان بوسام الشهادة الخالد
الحاجَّين أبوعلي وأم علي عطوي يفوزان بوسام الشهادة الخالد














تعليقات: