ذكرى الانتصار في زمن العدوان: الحمد لله «تحررني»... إلى الأبد
للمرة الأولى منذ 24 عاماً، يفتقد الجنوب احتفالات عيد التحرير. البلدات المحررة فرغت من معظم أهلها جراء العدوان الإسرائيلي المستمر منذ حوالى ثمانية أشهر. غير أن الفراغ الذي يذكّر البعض بزمن الاحتلال، تبدده مواكب العائدين إلى تلك البلدات كلما سنحت الفرصة. عودة لا تنتظر تحريراً أو نصراً.أمام دكانها عند مدخل بلدة دير سريان (قضاء مرجعيون)، تجلس سهيلة إبراهيم (61 عاماً) مع زوجها عقيل إبراهيم وبعض جيرانها على الطريق العام. من هنا، في بلدتها التي تشكل معبراً من جسر الليطاني، اعتادت منذ التحرير، في نهاية كل أسبوع وفي المناسبات، مراقبة السيارات المارة في طريقها إلى الطيبة ومركبا ورب ثلاثين والعديسة وكفركلا وسائر البلدات الحدودية... تشعر بفرحة بالغة كلما ازدحمت حركة المرور في المنطقة التي عانت من الاعتداءات الإسرائيلية منذ عام 1948، لأن «إسرائيل أرادت دائماً إفراغ الحدود الجنوبية وتهجير أهلها». الثمن الذي دفعته مقابل صمودها في دير سريان طوال حياتها كان باهظاً. عام 1988 اقتحم العملاء منزلها واقتادوها إلى سجن الخيام بتهمة دعم المقاومة. «جرّوني إلى السيارة فيما طفلي الصغيرين يشدان بي إلى الخلف ويصرخان». كل صور الاعتقال والتعذيب محاها أول احتفال بتحرير الجنوب قبل 24 عاماً في الساحة، أمام دكانتها. هناك، وثّقت وسائل الإعلام زغاريد النسوة و«حوربة» الرجال استقبالاً للفاتحين الذين اقتحموا معبر الشومرية بعد فرار العملاء منه. تدور إبراهيم في الساحة مستعيدة طيف حماتها فاطمة عساف التي لا يزال صدى كلامها يتردد: «ذلينا إسرائيل إلى الأبد»، والعبارة الشهيرة لجارتها فاطمة قاسم بلكنتها الجنوبية: «الحمدلله تحررني».
تقر بأنها، للمرة الأولى، تستعيد ذلك العرس بشيء من الحسرة بسبب نزوح أهل البلدات الحدودية المجاورة. «لن نستمتع هذا العام بتعداد مئات السيارات من الزوار وأبناء المنطقة الحدودية المقيمين خارجها، الذين يزورون الجنوب المحرر كجزء من طقوس العيد». لكن ما يخفف من غصتها، صمود غالبية أهل دير سريان خلال الأشهر الماضية رغم الغارات والقصف الذي يستهدف أطرافها، وأن «السيارات المتوجهة نحو البلدات الحدودية لم تنعدم رغم أنها تراجعت كثيراً».
منذ أشهر، يفتقد أحمد لوباني زبائنه خلال الأشهر الماضية الذين كانوا يقصدونه لشراء الألبان والأجبان من ديرسريان والبلدات المجاورة. لكن، رغم الحرب «هناك من لا يزال يأتي من بلدات خطرة». ويقول إن الصامدين في رب ثلاثين وكفركلا والعديسة والطيبة ومركبا يذكرونه بصموده طوال سنواته الـ77 في وجه «إسرائيل التي ستظل معتدية وسنبقى صامدين». فصول كثيرة مرت على «أبو علي» مع إسرائيل: «خلال العدوان الثلاثي عام 1956، كانت الطائرات الإسرائيلية تمر من فوقنا. وفي حرب 1967، شهدنا كيف احتل العدو الجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا المقابلة لنا وكيف سقطت طائرة إسرائيلية في سهل الخيام... ثم تتالت الاعتداءات قبل اجتياح 1978، من قصف مشروع الطيبة إلى قصف كفركلا... وبعدها هجرنا من دير سريان عام 1977 لأكثر من عام». وخلال كل هذه المدة «برمت على مراكز الاعتقال من الخيام إلى مركبا والشومرية والطيبة. لكن لم تنفع معي القتلة». إلا أن الأصعب كان فراغ بيته خلال الاحتلال إلا منه ومن زوجته. فقد «أنجبت تسعة أولاد، أجبرت على تهريبهم إلى المنطقة المحررة خوفاً من التجنيد الإجباري في جيش العملاء أو المضايقات». رغم ذلك لم يسلموا. اعتقل عدد منهم في الخيام من بينهم ابنته غنوة التي «دفعنا رشوة لأحد العملاء ليصدر لها تصريحاً للخروج إلى المنطقة المحررة بحجة المرض. مع ذلك، اعتقلوها على معبر الشومرية واقتادوها إلى الخيام حيث قضت أكثر من عام». قبلها تعرضت بنات من عائلته والجيران لإطلاق نار. «كان العملاء يمرون بآلياتهم ويتسلون بالتصويب ببواريدهم على البنات على جانبي الطريق، كمن يصطادون العصافير». قصص لوباني كثيرة، ولكنه يخلص في نهاية كل منها إلى أن «هيديك الأيام لن تعود».
من دير سريان إلى الطيبة، كان خط السير نشطاً الأربعاء الماضي، لمناسبة تشييع محمد أبو طعام الذي استشهد بغارة على العديسة. بين الغارات والقصف المدفعي على كفركلا والعديسة ومركبا ورب ثلاثين... شقت المواكب طريقها نحو الساحة، كما شقت طريقها قبل 24 عاماً في يوم التحرير. في 21 أيار 2000، شاهد أهالي الطيبة حشود الفاتحين تصعد من الغندورية نحو القصير وديرسريان. تعلقوا بالسيارات القليلة المتوافرة ونزلوا إلى ساحة دير سريان، لدعوة الحشود لإكمال طريقها نحو ساحة الطيبة وفرض تحريرها بقوة الأهالي. كان جنود العدو لا يزالون متحصنين في موقع «مشروع الطيبة»، يطلقون النيران والقذائف على طريق المواكب. عرس التحرير الثاني كان في ساحة الطيبة، بعد دير سريان، و«سنحييه من جديد لأن المقاومة التي فرضت التحرير وعودة الناس إلى قراهم عام 2000 وبعد عدوان تموز 2006، ستعيدهم بعد انتهاء هذا العدوان» قال مختار الطيبة محمد نحلة.
من منزله في الغندورية، يرصد حسن قدوح منذ 24 عاماً مواكب العائدين إلى الجنوب المحرر. «العودة حتمية بعد كل عدوان كما الانتصارات». أبو رضا كان واحداً من منظمي مسيرة التحرير في 21 أيار 2000، انطلاقاً من حسينية الغندورية باتجاه القنطرة والقصير ودير سريان مروراً بوادي الحجير. «بفضل الردع الذي فرضته المقاومة منذ عام 2006 وإيمان الجنوبيين بقضيتهم، لم تعد مسيرات العودة بحاجة إلى دعوة أو تنظيم. صارت حركة تلقائية فردية يبادر إليها الأهالي في مناسبة أو من دون مناسبة، لتفقّد بلداتهم رغم تربص إسرائيل بأي حركة في الشريط الحدودي الذي تسعى إلى إفراغه مجدداً». من شرفته، يلقي نظرة على سهول التبغ والقمح التي زرعت في عيترون وميس الجبل والقنطرة ويقول: «تحررنا من إسرائيل إلى الأبد».
تعليقات: