مساعدات الجنوب: مهاجمة المليون دولار.. لإحباط المليارَين


بدت الحملة الاعلامية التي انطلقت مساء الثلاثاء، وتوسّعت الى حملة سياسية ضد الحكومة اللبنانية، على خلفية إقرار مليون دولار (93 مليار ليرة لبنانية) كتعويضات للضحايا المدنيين ومساعدات للنازحين، مفاجئة. ذلك أن المبلغ الحكومي المقدّم لكل مستحق، لا يساوي كلفة إنشاء منزل واحد مما دمرته القوات الإسرائيلية في الجنوب.

والحملة بدأت مساء الثلاثاء في مقدمة نارية لقناة "أم تي في"، سألت فيها: "من أعطى حكومة تصريف الأعمال، ناقصة التمثيل وفاقدة المشروعية، أن تنفق من جيوب اللبنانيين على حرب لم يقرروها؟" وتابعت: "هل كُتب على اللبنانيين أن يدفعوا دائماً ثمن المغامرات غير المحسوبة لحزب الله ولمحور الممانعة وأن يبقوا مستسلمين خاضعين؟"

ومع تطور الحملة اعلامية التي امتدت إلى صحف ومواقع الكترونية، توسعت الى الاطار السياسي عبر بيان أصدره رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، تلاه تصريح للنائب سامي الجميل، ثم النائب نديم الجميل، ونواب آخرين...

لكن التمعّن في الحملة المبكرة، رغم ضآلة المبلغ، يشير الى أن هناك محاولة استباقية لإحباط التعويضات الحكومية المتوقعة لإعادة إعمار ما خلفته الحرب، وهو أمر يستدعي نقاشاً هادئاً، بمعزل عن الشعبوية وعن اعتبارات سياسية، يُفهم منها، بالشكل، أن إعادة الإعمار من ميزانية الدولة، ستزيح عبئاً عن "حزب الله" الذي فتح باب التبرعات لتمويل ترسانته العسكرية، في ظل ارتباك إيراني في الوقت الراهن إثر مقتل رئيس البلاد ودخولها في انتخابات رئاسية..

كما يُفهم من الحملة، التوجّس من استخدام أموال الدولة عبر التعويضات، لشراء ولاءات سياسية، تُصرف في الانتخابات المقبلة، عبر تهدئة قاعدة انتخابية تضررت من الحرب، وخسرت إنتاجها وأصولها السكنية... ويُفهم أيضاً من الحملة، استدراج الدولة لدفع تعويضات مماثلة لآخرين من البيئة المتخاصمة مع الحزب، قُتلوا خلال الحرب الأهلية، وهو ما لم يُخفه النائب سامي الجميل في مقابلته التلفزيونية ليل الأربعاء، على قاعدة "المثل"، و"ستة وستة مكرر"، وهو النظام المعمول به في السيستم اللبناني بين المسلمين والمسيحيين.

غير أن هذه النظرة المجتزأة للأمور، لا تلتقي مع معطيات سياسية أخرى، تدفع الحكومة ومن خلفها إلى تقديم التعويضات. فالحزب الذي خاض الحرب، بمعزل عن الدولة، هو نفسه الحائز خلال السنوات الماضية على إجازة سياسية لامتلاك السلاح، وللقتال ضد اسرائيل، تحت بند المقاومة، في بلد "الثنائيات الفاقعة".

استفادت الدولة منه يوم ترسيم الحدود البحرية، حين استخدم الحزب مسيّراته للتحليق فوق منصة كاريش، لدفع المفاوض اللبناني قدماً، وهو ما أعلنه مسؤولون حكوميون في خريف 2022 إثر اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وألمح اليه رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وتحدث عنه "حزب الله". وبالتالي، تفرض تلك المعطيات السياسية تطبيق قاعدة "الإفادة المشتركة"، بمعنى أن تستخدم الدولة الأصول العسكرية لحزب الله عند الحاجة، وتغطيه سياسياً حين يدخل معركة، مثلما حصل في المعركة الاخيرة.

ما لا يلتفت إليه المنتقدون، أن إحجام الدولة عن دفع التعويضات، لن يضيق الخناق الشعبي على "حزب الله" الذي قال مراراً إنه يستعد لدفع التعويضات، بل سيرمي البيئة الجنوبية المتضررة من آثار الحرب وغير المحسوبة على الحزب، في أحضانه، على قاعدة "تخلي الدولة عنها"، مما سيضاعف قاعدته الانتخابية. وعليه، أي اقتراحات من هذا النوع، ستكون لها آثارها السياسية في المشهد السياسي والشعبي في الجنوب، بمختلف طوائفه، وستخلق شرخاً بين الدولة والطائفة الشيعية، تحديداً، والتي سترى أن الدولة تخلت عنها، ولم تعاملها بمثل ما عاملت طوائف أخرى، خصوصاً في بيروت وجبل لبنان، إثر التعويضات السابقة عبر صندوق المهجرين.

والإيضاحات تلك، تستدعي إيضاحاً أيضاً لشعار "دافعي الضرائب" الذي ورد في تصريحات وعبارات استخدمت عبر وسائل الاعلام، ليطرح سؤالاً أساسياً: هل يتخلّف أهالي الجنوب عن دفع الضرائب، المباشرة عبر المستوردين والمؤسسات التجارية والصناعية، أو غير المباشرة عبر المحروقات وفاتورة الاتصالات وغيرها؟ هل يتزودون بمحروقاتهم مثلاً من بلد آخر، أو تمر بضائعهم عبر مرافئ بلاد أخرى؟

بالتأكيد ليس هناك ما يثبت تلك المزاعم، وإذا كانت الرقابة الحكومية والجباية الضريبية تعاني قصوراً، فإن هذا القصور يشمل جميع المؤسسات العاملة على الأراضي اللبنانية، وهو نقاش آخر، يتطلب الدفع نحو حوكمة القطاع الجمركي والمؤسسات الضريبية، لا تصنيف المواطنين بين لبنانيين وغير لبنانيين.. فالحديث عن "مركز" و"أطراف"، عفا عليه الزمن، ولم يعد له أي سند.

والحال إن تصنيف اللبنانيين الذي يُراد منه التقسيم، ينطوي على خطورة بالغة، يعرفها معظم المسيحيين على المستوين القيادي والشعبي. لا لجهة الانقسام النفسي والعيش المشترك، كما يقول رافضو الفيدرالية، بل لأن القوة الانفاقية في البلد، القائمة على أكثرية عددية، تشتري من قوة مسيحية في غالبها تحتفظ بالوكالات الحصرية، وفي حال تخلي الدولة المركزية عن جزء من اللبنانيين، لن يرضوا بتلك الاحتكارات، فيخسر "دافع الضرائب" سوقاً أساسياً يبيعه النفط والأدوية والسيارات وغيرها، ليتغير المشهد نحو السوق المفتوح.

بالتأكيد يدرك المنتقدون كل تلك الاتجاهات المترتبة على خطاب شعبوي من هذا النوع، لكنه يُراد منه رفع الصوت قبل بلورة "التسوية الكبرى" التي ستُلزم الدولة، سواء من أموالها أو أموال مانحين آخرين مثل "البنك الدولي" ومجموعة دعم عربية، بدفع تعويضات الحرب التي ستصل الى مليارَي دولار، حتى الآن.. وهي تسوية دولية واقليمية باتت واقعاً، مرتبطة بحل مستدام لأزمة الحدود الجنوبية، وستتيح، لاحقاً، مشاركة شركات أميركية في التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، الى جانب شركات أوروبية وعربية، واستثمارات أجنبية في قطاعات لبنانية، في انتظار نهاية حرب غزة وترتيب الوضع اللبناني على الحدود.

تعليقات: