الناظر من الخيام إلى جهة الشرق، ترتفع أمام عينيه على نحو قريب جدا ، لوحة طبيعية خلابة لثلاث بلدات، من الأعلى إلى الأسفل ، هي: كفرشوبا - كفر حمام - راشيا الفخار . فوقها مباشرة تلمع عمامة جبل الشيخ البيضاء ، وفي أسفل الجبل تقع بلدة الماري على كتف نهر الحاصباني إلى الشمال من شلال "القرشة" .
لست أدري لماذا سميت هذه المنطقة ، التي ما زالت بكرا ، "بالعرقوب" !
لطالما حلمت باستكشاف تضاريس هذه المنطقة ، شجرة شجرة وحجرا حجرا .
لكن مياه الحاصباني كانت تغويني ، فلا تترك لي وقتا للعبور إلى الضفة الأخرى .
ومع ذلك ، عبرت النهر مرات عديدة ، دون أن أشفي غليلي .
على الصعيد الشخصي لي اصدقاء في كل هذه البلدات .
وأذكر أنني عشت أول سنوات طفولتي في البلدة الواقعة في واد محاط بالقمم الشاهقة : بلدة شبعا .
هناك عمل والدي مدرسا ثم مديرا للمدرسة الرسمية بين سنوات 1954 و 1961 . هي بلدة الثلج والتفاح والجوز .
هناك الكثير مما أستطيع أن أرويه عن صداقاتي مع القاطنين في جبل الشيخ .
لكني الآن أود أن أستذكر ، العلاقة التي ربطتني بإبن راشيا الفخار الأستاذ صبحي العدس ، مدرس الأدب الفرنسي في ثانوية مرجعيون عام 1971 .
كانت الثانوية قد أنشئت حديثا وأسندت إدارتها للأستاذ فايز غلمية ، المعروف بأفكاره التنويرية والتقدمية .
وقد ضمت الهيئة التعليمية الأولى، مجموعة من الأساتذة الأكفاء من أبناء المنطقة ، المعروفين بالإخلاص والجدية ، ومنهم الاستاذ صبحي .
وإذا أردت أن أصفه بلغة قصصية أستطيع القول :
متوسط القامة ، نحيف ، رشيق الحركة ، متأنق ، عيناه عسليتان تلمعان وراء نظارتين شفافتين ، أما وجهه فيتميز بالإحمرار الدائم من شدة التهذيب واللطف .
وكان في ذلك الوقت شابا في الثلاثينيات من عمره .
وبقدر ما أحبه طلابه ورأوا فيه مدرسا كفوءا ، بقدر ما كانوا على خصام مع المادة التي كان يدرسها ويجهد في شرحها .
على عكسي والصديق غازي زلزلة . فقد أعجبتنا أفكار الأديب والمفكر الفرنسي جان جاك روسو ، صديق الطبيعة وممثل المدرسة الرومنطيقية ، كما أفادنا الاستاذ صبحي وأسهب في شرح ذلك .
من هذا الباب دخلنا في ساعات الأدب الفرنسي ، في نقاشات طويلة وممتعة حول ما تعنيه الطبيعة للإنسان ، وحول دور الأدب الفرنسي في التأسيس لعصر التنوير .
ثم مع الوقت ، إنضم إلينا عدد من الطلاب المحبين للطبيعة من أبناء منطقة مرجعيون وحاصبيا .
غمرنا شعور بالإعتزاز والفخر عندما ترجمنا حبنا للطبيعة إلى أفكار عابرة للزمن والهويات .
إلى درجة أن الاستاذ صبحي نصحنا بالذهاب إلى فرنسا ، ضمن برنامج فرنكوفوني يهدف إلى تمكيننا من اللغة الفرنسية ، عن طريق العمل في قطاف العنب في الريف الفرنسي .
لكن الظروف لم تسمح لنا بالإلتحاق بهذا البرنامج .
سنة واحدة ، تلك التي أمضيتها بصحبة صديقي وأستاذي صبحي العدس ، لكنها سنة من الصعب نسيانها .
انتقلت بعدها إلى ثانوية حسن كامل الصباح في النبطية بسبب عدم وجود صف بكالوريا قسم ثاني في مرجعيون .
أعيش الآن في بيروت ، وأشتاق إلى المنطقة الغنية بالمناظر الطبيعية ، ذات الموقع الإستراتيجي بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة .
تعليقات: