حرب الشائعات تغزو الساحة اللبنانيّة.. تهويل أو وقائع؟

من الجولة داخل مستودعات مطار رفيق الحريري الدولي. (نبيل اسماعيل)
من الجولة داخل مستودعات مطار رفيق الحريري الدولي. (نبيل اسماعيل)


تواصل إسرائيل حربها العسكرية بالزخم نفسه الذي تواصل فيه حربها النفسية، وتزامناً يشهد "سلاح الشائعة" تفعيلاً وتهويلاً.

يقول الأديب الكبير سعيد تقي الدين "إذا أردت أن تقتل شخصاً ما، فلا تطلق عليه الرصاصة بل أطلق عليه إشاعة"، وفي القول بلاغة ودلالة على مدى قوّة حرب #الشائعات في الحروب العسكرية، ووظيفتها في إثارة الرعب وتزييف الحقائق وإثارة البلبلة والفوضى. فهل نجحت إسرائيل في تحقيق ذلك في لبنان؟

توالت الأخبار الكاذبة والمضلّلة في الساحة اللبنانية في الأيام الأخيرة، وتصدّرت أخبار إجلاء السفارة الكندية لنحو 45 ألفاً من رعاياها في لبنان تخوّفاً من اندلاع الحرب المشهد العامّ قبل أن تكرّ سبحة الأخبار حول مغادرة عدد من السفراء الأوروبيين الأراضي اللبنانية والتي تبيّن أنّها جميعها مجرّد إشاعات. 48 ساعة من حفلة جنون الأخبار الكاذبة في نهاية الأسبوع الفائت، تلقّفها اللبنانيون بوعي وإدراك، لم يتخلّلها موجة هلع عارمة للتموين أو لإلغاء الحجوزات إلى لبنان، وفق تقاطع مصادر مراقبة.

هذه الحقيقة أعرب عنها وزير السياحة وليد نصّار بالأمس من على أرض المطار عندما قال إنّنا "نتوقّع حرباً نفسية على #لبنان بسبب خسارة إسرائيل في قطاع السياحة بعد حرب غزّة".

حرب "الشائعات" غالباً ما توظَّف كشكل من أشكال الصراع بهدف إضعاف الخصم والتأثير عليه وإثارة الخوف والقلق عند الطرف الآخر، ولم يُخطئ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حين قال "كثيراً ما غيّرت #الحرب النفسية وجه التاريخ"، نعرف تماماً كيف نجحت حرب الشائعات في تغيير مسار أحداث كثيرة، ووصفت الحربان العالميتان الأولى والثانية بأنّهما كانتا حربَي شائعات بالدرجة الأولى.

في الحرب العالمية الثانية، أسّس هتلر وزارة الدعاية السياسية وتولّى إدارتها جوزيف غوبلز الذي اشتهر بعبارته " أكذب ثمّ أكذب حتّى يصدّق الآخرون". كان الهدف من الشائعات تضخيم حجم القوّة العسكرية الألمانية.

لا يختلف المشهد اليوم كثيراً، إذ تتقصّد إسرائيل اتّباع النهج نفسه "اكذب ثمّ اكذب حتّى يصدّق الآخرون" بغية رفع معنويات جيشها وشعبها والنيل من عزيمة خصومها سواء في لبنان أم في غزة. كما تعمل إسرائيل على حرب الشائعات وفق معادلة أنّ قوّة انتشار الشائعة تساوي أهمية موضوعها ومدى غموضه.

وبحسب معادلة عالمي النفس جوردون ألبورت وليو بوستمان، في كتابهما "سيكولوجية الشائعة " (Psychology of Rumor) إنّ "الغموض الذي يلفّ موضوع الشائعة يُمثّل عاملاً حاسماً في انتشارها، ما يعني أنّ الوسيلة الأولى والأهمّ في محاربتها هي الكشف عن أكبر قدر ممكن من الحقائق، وتأكيدها وتكرارها، بالطريقة نفسها التي تنتشر فيها الشائعات".

وفق كتابهما، تجد الشائعات بيئة مؤاتية للانتشار بشكل كبير وقت الأزمات وفترات الاضطراب السياسيّ أو الاجتماعيّ، أو عندما يكون هناك تعتيم إعلاميّ أو غموض أو تضليل متعمّد من وسائل الإعلام.

توضّح الأستاذة في العلوم السياسية والمديرة العامّة لمنظّمة المرأة العربية الدكتورة فاديا كيوان أنّ حرب الشائعات هي أداة مستخدمة في الحرب النفسيّة التي تسبق وتمهّد للحروب العسكريّة، وتُشكّل فرعاً من فروع الحرب النفسيّة التي تؤثّر على معنويات المجتمع وتنال من عزيمته. ويبدو واضحاً أنّ إسرائيل تتعمّد استخدام حرب الشائعات في حربها على لبنان، ومع ذلك علينا التمييز بينها وبين التوقّعات.

صحيح أنّه لا يمكن اتّباع سياسة النعامة، فكيف إذا كنّا في حالة حرب، وانطلاقاً من ذلك، تؤكّد كيوان أنّ بعض الشائعات مبنيٌّ على وقائع بما أنّنا في "جوّ الحرب"، وبالتالي لا يمكن تجاهله أو الاستخفاف به. "هناك تهديد حقيقيّ من إسرائيل، ولا نعرف إذا كان الجنون سيقودها إلى تنفيذ هذه التهديدات والانتحار بعد اتّخاذ خيار الحرب على لبنان، ولكن في المقابل لا يمكن التعامل مع هذه الشائعات باستسلام وخوف ورعب بل بتلقّفها بوعي وبالتعامل معها باتخاذ الاحتياطات اللازمة، كأن نكون حذرين وحاضرين لأيّ سيناريو".

ولا تخفي كيوان أنّه في الآونة الأخيرة، ارتفع منسوب التهديدات من خلال تنفيذ عمليّات عسكرية في موازاة حرب الاستنزاف التي بدأت منذ 7 تشرين الأول. فـ"هدف إسرائيل زعزعة الثقة والأمن، وتوقيت نشرها وبثّها خبيث لأنّ لبنان يعوّل على الموسم السياحيّ، وهو الشريان الحيويّ الوحيد الذي ما زال يضخّ مالاً وينعش البلد. وقد نجحت هذه الشائعات في إحداث ضرر لا يمكن إنكاره، حيث شهدنا إلغاء حجوزات لبعض الأجانب والعرب، ونعوّل على إرادة المغتربين اللبنانيين وثقتهم في البلد وعدم النيل من عزيمتهم في القدوم إلى لبنان".

وفي قراءة لهستيريا الـ48 ساعة في عطلة نهاية الأسبوع الفائتة، يرى المحلّل والكاتب السياسيّ نبيل بو منصف أنّ "حرب الشائعات لم تؤثّر على الشعب اللبنانيّ وتلعب عوامل عديدة دوراً في تكوين ردّة فعل محايدة لا تخشى الحرب، أوّلها مدّة الحرب التي تخطّت الـ8 أشهر والتي تقلّّل من الخوف والترهيب على عكس الأيام الأولى من اندلاع الحرب، وعدم تصديق التهويل الذي طال طوال الفترة الماضية. كذلك اكتسب اللبنانيّ مناعة ووعياً بحيث لم تعد التهديدات تُشكّل هاجساً مقلقاً، وأكبر دليل على ذلك أنّه يواصل حياته بشكل طبيعيّ، والحياة في أوج صورها في بيروت وباقي المناطق. وعليه، لا يبدو أنّ حرب الشائعات نجحت في زعزعة الأمن الاجتماعيّ، لكن في المقابل، لا يمكن الاستهانة بها في لغة الحرب".

برأي بومنصف إنّه لا يمكن "عزل حرب الشائعات عمّا يدور على أرض المعركة، فهي مؤشّر يدلّ على استعدادات إسرائيل ونيّتها في ارتكاب عمل خطير. وبالتالي لا يمكن التقليل من أهمية هذه المؤشّرات وخطورتها. ويبدو واضحاً أنّ الحرب في حال حدوثها في لبنان ستكون وطأتها شديدة وبدلالات كبيرة عند الطرفين".

ويعترف بو منصف أنّ حرب الشائعات أو الدعاية هي أشبه بسيف ذي حدّين، لا يمكن الاعتماد عليها كمؤشّر أساس، ولا يمكن التغاضي عنها لما قد تحمله من دلالات خطيرة. ونعرف جيّداً في تاريخ الحروب السابقة أنّ حرب الدعاية والشائعات كانت تسبق دائماً الحرب العسكرية، وهذا ما شهدناه في الحرب الأوكرانية – الروسية حيث سبقت الحرب الدعائيّة انفجار الحرب بأشهر".

ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك حرباً إعلامية ونفسية قاسية تُمارس على لبنان منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في غزة، وفي هذا الصدد تؤكّد أستاذة علم الاجتماع العائليّ والتربويّ في معهد العلوم الاجتماعية-الفرع الثالث_ الجامعة اللبنانية جانيت الخوري جبّور أنّه بشكل عامّ "خلال الأزمات والحروب تظهر حرب الشائعات عبر نشر أخبار غير صحيحة ونشرها بين الناس، وتعتبر أداة من أدوات التأثير على الرأي العامّ. وغالباً ما يكون هدفها بثّ الرعب والقلق والخوف والتضليل في نفوس الخصم بغية قلب الموازين".

وتتحدّث الخوري جبّور عن نوعين من المتلقّي: المصدّق للأخبار الشائعة وغير المصدّق. وهذا الانقسام يؤدّي إلى الفوضى واضطرابات في المجتمع الواحد نتيجة تشويه الحقائق وزعزعة الاستقرار والثقة بالدولة أو الحكومة أو الجيش. باختصار تكون حرب الشائعات أداة مؤثّرة وفعّالة لتغيير الرأي العام وتوجيهه في مسارات معيّنة تناسب العدوّ الذي أطلق هذه الشائعة.

وفي قراءة للشائعات التي اخترقت الساحة اللبنانية في اليومين الماضيين، لا تخفي الخوري جبور أنّ "توجيه هذه الشائعات بشكل خاصّ إلى الرأي العامّ هدفه إحداث خلل ويكون أثره كبيراً على المواطنين لتقويض الثقة وزعزعتها وإحداث فوضى حيث تتحكّم الأفكار السلبيّة بحياة المواطن سواء بالتهجير الداخليّ أو المجاعة أو الحرب. وما يزيد من هذا الشرخ هو الانقسام السياسيّ وتبعات هذه الشائعات على الصحّة النفسيّة وما ينتج عنها من قلق وعدم الشعور بالأمان.

وتغوص الخوري جبّور أكثر في نمطيّة الأخبار الكاذبة التي تستخدم لتحقيق هدفين، الأوّل: زعزعة وتضليل الشعب الخصم وتحجيم قدراته العسكرية. والهدف الثاني: نشر أخبار سلبية عن العدوّ للحفاظ على دعمه في مواصلة الحرب وتأييده بكلّ الخيارات. وهنا تكمن أهمية أن تضع كلّ دولة استراتيجية واضحة وخاصّة لمواجهة هذه الأخبار الكاذبة أثناء الحروب والأزمات للحفاظ على الاستقرار وثقة مواطنيها.

وتشير إلى أنّ تكرار الشائعة ونشرها في مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ وبأدوات مختلفة يجعلها أكثر قبولاً بين الناس الجمهور، وتتحكّم التوجّهات العاطفية التي تختلف بين شخص وآخر، بالإضافة إلى التأثيرات النفسيّة التي تشتدّ خلال الأزمات والحروب.

ويبقى السؤال، هل نجحت إسرائيل في زعزعة الاستقرار والثقة عند الشعب اللبنانيّ، أم أنّ لعبتها انكشفت وبات لدينا مناعة كافية ضدّ التهويل وسياسة التضخيم؟



تعليقات: