تصوير زينب فرج
بعد نحو تسعة أشهر على العدوان الإسرائيلي، يشعر بعض الصامدين من أهالي بنت جبيل بأن الحرب لم تصل بعد إليها. صحيح أن قسماً كبيراً من سكانها غادروها، إلا أن المقارنة بينها وبين جاراتها تجعلهم يدركون معنى الردع الذي فرضته المقاومة، وأن العدو الـ«أوهن من بيت العنكبوت»، كما أُطلق عليه من بنت جبيل تحديداً، لن يجرؤ على المسّ بها. منذ الصباح الباكر، ينغل عامل النظافة في البلدية أحمد حمادي في شوارع البلدة: من حيّ البركة إلى الدورة، فالسوق الفوقاني والتحتاني فساحة النبيّة... يكنس الشوارع ويجمع النفايات، و«أشعر بالراحة كلما كان هناك منزل يسكنه أهله». من ناتج نفايات المنازل والمحال، يمكن لحمادي أن يرسم مؤشراً لحركة النزوح والعودة التي سجلت خلال العدوان: «عندما بدأت الحرب، نزح معظم السكان، ولا سيما من ذاقوا مرارة عدوان تموز 2006 عندما حوصرت بنت جبيل ودمرت. مع مرور الوقت، عاد البعض. وكلما نفذت غارة داخل المدينة، يغادر البعض مؤقتاً حتى يستقر الوضع، ثم يعودون مجدداً».
الحركة في السوق توحي بأن عاصمة المقاومة والتحرير «عمرانة»، رغم أن قسماً كبيراً من سكانها لا يزالون خارجها، وهو ما يعزوه مختار بنت جبيل السابق توفيق سعد إلى أن كثيرين من أبنائها وأبناء البلدات المجاورة يزورونها يومياً للتبضع وتفقّد منازلهم، ويغادرون قبل حلول المساء خوفاً من غارات الليل. تتركز الحركة في محال السوق التحتاني والفوقاني. محال أحذية وألبسة وحلويات تجاور محال السمانة وبيع اللحوم والخضر والصيدليات. يجمع أصحاب المحال على أن الحركة التي يبثونها بفتح محالهم تشجع النازحين على العودة ولو النهارية. حوّل أحمد السيد حسن باحة أمام دكانه في السوق إلى «كافيه» تجمع زملاءه من أصحاب المحال وأصدقاءه الصامدين. يشير إلى أن «هذه الجلسة تأسست مع بداية العدوان. تنادى من بقوا منا لنتسلّى مع بعضنا البعض. جهّزت في البداية عدداً قليلاً من الكراسي. لاحقاً، صار عدد الرواد يزداد، بعدما التمس البعض الأمان بتجمّعنا اليومي». وهو ما حصل مع كامل الحوراني الذي نزح إلى بيروت مع عائلته عند بداية العدوان، لكنه عندما زار المدينة قبل نحو ثلاثة أشهر، «فوجئت بحركة السوق. وعندما رأيت جلسة الرجال هذه، قررت أن أعود».
لم ينقطع الزبائن من عين إبل ورميش عن سوق اللحم الشهير في البلدة والذي يعدّ مقصداً لكل المنطقة الحدودية، إذا لا يزال عدد كبير من الملاحم يفتح أبوابه مع تعديلات فرضها العدوان، مثل تغيير مواعيد الذبح في المسلخ إلى ساعات العصر بسبب خطورة العمل ليلاً. يجهز يوسف بزي صينية كبيرة من أصابع الكفتة ويزيّنها قبل أن يرسلها إلى الفرن. «الزبائن من المنطقة الحدودية يقصدوننا أحياناً من الأماكن التي نزحوا إليها، إضافة إلى الصامدين من أبناء البلدات الواقعة في الخطوط الخلفية. كثر لم يسمحوا لإسرائيل بأن تلغي الطقوس المرتبطة بلحمة بنت جبيل من صينية قطع اللحم والكفتة المشوية في الفرن في الفطور الصباحي إلى اللحم المشوي عند الغداء».
الحركة في السوق توحي بأن المدينة «عمرانة» رغم أن قسماً كبيراً من سكانها لا يزالون خارجها
لم يغير عماد بزي عادته بتناول النرجيلة أمام محله لبيع الأحذية في السوق: «سواء كان هناك زبائن أو لا، أكتفي بالجلوس هنا رغم العدوان. في عدوان تموز، هُجّرت مع عائلتي ودُمّر محلي. اليوم أنا وعائلتي لا نزال هنا». في زقاق متفرع من السوق، ينهمك عمال في معمل أحذية بإنجاز «طلبية» مستعجلة. وفي السوق الفوقاني الذي كان يعرف بسوق اللحم، أعاد حسين داغر افتتاح محل الحلويات بعد إقفال لنحو ثلاثة أشهر. مع بدء العدوان ورغم نزوح الزبائن، رفض محمد داغر (85 عاماً) الإقفال، إلى أن أجبره أولاده على المغادرة عقب غارة استهدفت منزلاً في رأس السنة. غادر بنت جبيل قسراً في 1 كانون الثاني الماضي. وبعد ثلاثة أيام، توفي بسكتة قلبية. مع اقتراب شهر رمضان الماضي، قرر حفيده حسين (23 عاماً) ووالده العودة إلى بنت جبيل. «رغم أن الحلويات قد تكون من الكماليات في الظروف الراهنة، لكنّ كثراً طالبونا بالمرشوشة (حلوى مشهورة في بنت جبيل)». كان موعد عرس حسين في نهاية تشرين الأول الماضي، لكن العدوان أجبره على التأجيل حتى إشعار آخر: «أنفقت ما ادخرته لزواجي وبتّ بحاجة إلى العمل مجدداً».
تتوسط ساحة النبية المشرفة على جبل مارون الرأس آلية إسرائيلية من غنائم تحرير الجنوب عام 2000. في إحدى زوايا الساحة، تقع محطة بزي التي تضررت بفعل غارة إسرائيلية، لكنها لا تزال تستقبل الزبائن. صاحبها نبيل بزي (74 عاماً) استبدل واجهات الزجاج بألواح خشبية ألصق عليها صور شهداء بنت جبيل في المواجهة الحالية: «يملأ الزبائن البنزين بكميات قليلة. ولّى زمن تفويل السيارات. المشاوير صارت محصورة داخل بنت جبيل، فيما انقطعت الطريق إلى جاراتها مارون ويارون وعيترون ...».
في محله الصغير في السوق التحتاني، لا يزال أحمد سعد يبيع أوراق «اللوتو»، مشيراً الى أن «الشركة التي أتعامل معها في بيروت فوجئت بأن نسبة البيع لم تنخفض كثيراً خلال الأشهر الماضية». ويقول: «السر يكمن في الأمل ورفض الانهزام»، مؤكداً أن «المقاومة المدنية التي تتجسّد في سوق بنت جبيل لا تقلّ أهمية عن المقاومة العسكرية». وهو جرّب «النوعين». عام 1984، اعتقل عشر سنوات بسبب مشاركته في المقاومة واقتيد شقيقاه وشقيقته إلى الاعتقال تباعاً. المقاومة على أنواعها «أرست معادلة حصّنت بنت جبيل أمام تهوّر إسرائيل التي تعرف أن المسّ بمدينتنا لن يمرّ بسهولة».
تصوير زينب فرج
تصوير زينب فرج
تعليقات: