انحسرت ظاهرة تجارة الشيكات (اللولار) إلى أدنى مستوى (عباس سلمان)
وفقًا لآخر الأرقام التي نشرها مصرف لبنان، ما زالت حركة الشيكات الإجماليّة عند أدنى مستوياتها منذ بدء الأزمة عام 2019، نتيجة انحسار استعمال السيولة بالدولار المحلّي. غير أنّ الأرقام نفسها تُظهر توسّع استعمال الشيكات المقوّمة بالدولارات والليرات الجديدة، أي "الفريش"، إلى أعلى مستوياتها منذ أن أطلق مصرف لبنان المقاصّة المخصّصة لهذه الشيكات.
مع الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان استحدث المقاصّة الخاصّة بهذه الشيكات منذ نيسان 2023، بموجب قرار أساسي قضى بفتح حسابات جديدة للمصارف لديه، لتمكينها من إجراء هذه المقاصّة. إلا أنّ رواج هذه الشيكات في السوق لم يحصل إلّا بشكل متدرّج، خلال النصف الثاني من العام 2023.
انحسار الشيكات "القديمة"
أرقام المصرف المركزي تُظهر أن حركة الشيكات بالعملات الأجنبيّة انخفضت هذا العام إلى 9.4 ألف شيك فقط لغاية شهر أيّار، مقارنة بأكثر من 60.2 ألف شيك خلال الفترة المماثلة من العام السابق 2023، ونحو 427.1 ألف شيك من العام 2022، و845.6 ألف شيك خلال العام 2021. أمّا خلال العام 2020، فكان عدد هذه الشيكات يتجاوز 1.22 مليون شيك، خلال الفترة نفسها. وبهذا المعنى، يمكن القول أن حركة الشيكات المدولرة انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ بداية الأزمة الراهنة، في دلالة واضحة على انحسار التداول بما يُعرف بالدولارات المحليّة، أو "اللولار".
المُلفت للنظر هو أن حركة الشيكات بالليرة اللبنانيّة تجاوزت -لغاية شهر أيّار- حدود 83.3 ألف شيك، ما يعني أنّ نسبة دولرة حركة المقاصة باتت تقارب 10.1% فقط. وهذا ما يمثّل تحوّلًا كبيرًا في نشاط القطاع المالي اللبناني، إذ كانت حركة الشيكات المُدولرة تُقارب من حيث العدد حركة الشيكات المقوّمة بالعملة المحليّة، خلال العام 2020. ومن الواضح أن الاستقرار النسبي لسعر صرف الليرة اللبنانية، معطوفًا على صعوبة استعمال السيولة المقوّمة بالدولار المحلّي، ساهما بزيادة نسبة التداول بالعملة المحليّة، داخل النظام المصرفي اللبناني.
أمّا من حيث القيمة، فيمكن أن نلاحظ أن قيمة الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة تدنّت إلى 681 مليون دولار أميركي لغاية شهر أيّار من هذا العام، مقارنة بـ 1.94 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وهذا ما يشير إلى أنّ هذه القيمة تدنّت بنسبة قاربت 65% خلال فترة سنة.
في المقابل، ارتفعت قيمة الشيكات المتداولة بالليرة، لتناهز 32 ألف مليار ليرة لبنانيّة لغاية شهر أيّار الماضي، مقارنة بـ 2.66 ألف مليار خلال الفترة نفسها من العام 2023. وهذا ما يؤكّد مجددًا تزايد الاعتماد على التداولات التجاريّة بالليرة اللبنانيّة من حيث القيمة، داخل النظام المصرفي اللبناني.
ومن المهم الإشارة هنا إلى ارتباط هذه التحوّلات ببعض العوامل الناتجة عن قرارات المصارف نفسها، مثل: امتناع المصارف عن فتح حسابات جديدة بالدولار المحلّي، أو رفضها قبول إيداع الشيكات المقوّمة بالدولارات المحليّة، وهو ما يحد كثيرًا من قدرة المودعين على استعمال هذا النوع من السيولة.
وفي الوقت نفسه، انحسرت ظاهرة تجارة الشيكات إلى أدنى مستوى لها منذ بداية الأزمة، بعد تسديد أكثر من 77% من القروض المصرفيّة، التي كان يتم سدادها سابقًا باستعمال الشيكات. ولهذه الأسباب، كان من المتوقّع أن تتدنّى حركة الدولارات المحليّة داخل القطاع المصرفي، الناتجة عن بيع الشيكات من قبل المودعين، إذا ما قمنا بمقارنتها بسنوات الأزمة الماضية.
تزايد حركة الشيكات "الفريش"
على المقلب الآخر، كان هناك تطوّرات أخرى مثيرة للاهتمام، على مستوى حركة الشيكات "الفريش" التي أشرنا إليها سابقًا. إذ تجاوز عدد هذه الشيكات المتداولة لغاية أيّار الماضي 8.79 ألف شيك، منها 5.84 ألف شيك بالعملات الأجنبيّة، ونحو 2.95 ألف شيك بالليرة اللبنانيّة. أمّا قيمة هذه الشيكات، فقاربت 80 مليون دولار بالنسبة للشيكات بالعملات الأجنبيّة، و4.67 ألف مليار ليرة بالنسبة للشيكات بالعملة المحليّة.
قد تبدو هذه الأرقام للوهلة الأولى متواضعة، قياسًا بحركة الشيكات المعتادة في النظام المالي اللبناني. قيمة الدولارات "الفريش" المتداولة لغاية شهر أيّار، لم تتجاوز أكثر من 12% من إجمالي قيمة الدولارات التي مرّت عبر مقاصة المصارف، خلال هذه الفترة. أي بصورة أوضح، ما زالت قيمة الدولارات "الفريش" المتداولة محدودة مقارنة بتداولات "الدولارات المحليّة"، حتّى بعد انحسارها مؤخرًا.
لكن أهميّة هذا الرقم –قيمة الشيكات "الفريش" المتداولة- لا تنطلق من ثقله مقارنة بإجمالي حركة الشيكات. بل تكمن أهميّة هذه الأرقام في كونها تعكس تزايدًا في وتيرة الاعتماد على الشيكات "الفريش"، مقارنة بالأشهر الماضية، وهو ما يعكس تقبّلًا للفكرة في الأوساط التجاريّة. مع العلم أنّ بعض التقديرات المصرفيّة تشير إلى حجم السيولة المتداولة بالدولارات "الفريش" داخل النظام المصرفي بات يقارب 3 مليار دولار أميركي، وهو ما يؤكّد الفرضيّة نفسها.
للتدليل على زيادة الاعتماد على الشيكات "الفريش"، نشير إلى أنّ عدد هذه الشيكات المتداولة خلال شهر أيّار وحده بلغ 2,557 شيك، مقارنة بـ1,915 شيك خلال الشهر السابق نيسان، و1,690 شيك خلال شهر آذار الماضي، و1,382 شيك خلال شهر شباط.
باختصار، من الواضح أنّ عدد الشيكات "الفريش" المتداولة خلال كل شهر يتزايد على نحوٍ ملحوظ، وبوتيرة متسارعة، وهو ما يوحي بأن السوق تتجه بالفعل إلى الاعتماد على النظام المالي الجديد والموازي، ولو بخطوات حذرة ومتدرّجة. وخلال شهر أيّار، بلغت حركة "الشيكات الفريش" أعلى مستوياتها، منذ إطلاق المقاصّة المخصّصة لها. وفي هذا السياق، يمكن الاستنتاج بأن رهان مصرف لبنان على هذه المقاصّة لم يفشل، وإن تأخّرت المصارف والأسواق في الاعتماد على الشيكات المربوطة بالحسابات الجديدة.
في جميع الحالات، يبدو أنّ مصرف لبنان ما زال متجهًا لتعزيز دور "الحسابات الجديدة" كنظام مالي رديف وموازي، وهذا ما تعكسه تصريحات الحاكم بالإنابة المتكرّرة حول ضرورة عودة التسليف بالدولارات الطازجة. فبعد تنظيم مسألة الحسابات "الجديدة" بتعاميم المركزي، وإطلاق مقاصّة جديدة لهذه الحسابات، ومن ثم توسّع عمل هذه المقاصّة، لم يتبقّ سوى تأمين القروض بهذه السيولة الجديدة، كي يصبح لدينا نظام مالي جديد ومكتمل المعالم.
فكما هو معلوم، الأركان الأساسيّة لأي نظام مالي هي: تلقّي الودائع وتأمين التسليفات وتنظيم أدوات الدفع. ما تبقّى لتصبح "الحسابات الجديدة" نظامًا ماليًا، هو منح التسليفات.
تعليقات: