يبدو أن النمسا اتخمت باللاجئين السوريين واكتفت بما لديها، مما دفع وزير الداخلية النمساوي غيرهارد كارنر، في مقابلة مع صحيفة دي فيلت De Welt الألمانية للقول "إن اللاذقية آمنة ويمكن إعادة اللاجئين السوريين إليها". كارنر يرى أنه يجب إعادة "المهاجرين والمجرمين" إلى بلادهم، قائلًا خلال المقابلة إنه في نيسان/ أبريل العام الماضي، تم القبض على 4450 من طالبي اللجوء من المهاجرين غير الشرعيين مقارنة بـ 190 فقط في هذا العام حتى آذار/ مارس الماضي. هؤلاء اللاجئين يتزاحم معظمهم عند الحدود مع هنغاريا/ المجر، وبلغت طلبات اللجوء إلى النمسا هذ العام أقل بما نسبته 33% من الطلبات التي قدمت في الوقت نفسه من العام الماضي.
ارتفعت وتيرة المطالبة بإعادة لاجئي سورية وأفغانستان إلى بلادهم، وإلى المناطق الآمنة تحديدًا، ولكن كما يقول كارنر "العودة الطوعية"، هذا مع العلم أن أوروبا لها تاريخ طويل من وضع المهاجرين تحت الإقامة الجبرية أو في السجون قبل ترحيلهم، كما حدث مع 10 آلاف مهاجر غير شرعي لبناني في ألمانيا خلال الأعوام 2002- 2004. ولكن من هم المهاجرون الذين ترغب النمسا بإعادتهم؟ هم، كما قال كارنر أولًا، المجرمون، وثانيًا الذين تجرى لهم فحوصات الحمض الريبي النووي، DNA، ثم يتضح أن قانون لم الشمل لا يتضمنهم، أو ثالثًا الذين لا يستطيعون إعانة أهاليهم، خاصة وأن طلبات لم الشمل يقدمها اليوم أشخاص لم يبلغوا سن الرشد، والذين يطالبون بجمعهم بوالدهم أو والدتهم.
لم شمل أسر اللاجئين هي المشكلة الأساسية في سياسة الهجرة واللجوء في النمسا، بحسب كارنر، باعتبار أن "لم الشمل بات يثقل كاهل المدارس ودور الحضانة، وكذلك السلطات المحلية من حيث تأمين أماكن السكن والإقامات". وهذا الكلام يذكرنا بما يرفض الأوروبيون أخذه بعين الاعتبار في حالة لبنان وغيره من الدول التي استقبلت اللاجئين بسبب حرب الغرب بالوكالة على سورية وليبيا وأفغانستان والعراق. ومن هنا يمكننا فهم أن أوروبا قد ضاقت بالمهاجرين الجدد الذين يأتونها والذين يكلف وجودهم مصاريف ضاغطة مع احتدام الضائقة الاقتصادية الأوروبية التي اشتدت بعد انتشار كوفيد 19 في العام 2019، ومن ثم بعد تدفق اللاجئين الأوكرانيين بعد الحرب الروسية – الأميركية الأوروبية في أوكرانيا، هذه الحرب التي ستقضي قريبًا على ما تبقى من طاقة الاقتصاد الأوروبي. ببساطة يمكننا القول، لقد بدأت سلسلة الحروب التي أشعلت خارج الأراضي الأوروبية بأمر أميركي تلتهم اقتصاد القارة العجوز.
يحاول الوزير كارنر التحدث بما يظهر أن الأوضاع الإنسانية ضاغطة، ولكن النمسا كما ألمانيا تعد من الدول التي استقبلت أكبر عدد من الأطباء والمهندسين والصيادلة السورييين وباقي خريجي الجامعات السورية، والتي كتبت عنهم "روسيا اليوم" في العام 2015 بعدما فتحت ألمانيا الباب أمام دخول اللاجئين السوريين، بأن ألمانيا قد كسبت من دخول اللاجئين السوريين 4 مليار دورلار، فقد دفعت مبلغًا وقدره 4 مليار ولكنها كسبت أربعة آخرين هم فرق تكلفة تعليم هؤلاء والتي تصل قيمتها إلى 8 مليارات دولار تكلفتها الدولة السورية مقابل نظام التعليم المجاني لطلابها. هذا مع العلم، وعلى سبيل المثال، تكلف السنة الدراسية في كلية العلوم الطبية في الجامعات الأميركية ما تصل قيمته إلى 25 ألف دولار سنويًا، ونحن هنا لا نتحدث عن الجامعات الأميركية الكبرى.
التقرير لم يشمل باقي الدول الأوروبية ومنها النمسا التي استفادت من هذه الكوادر العلمية التي وصلتها، إضافة إلى المهنيين المتخصصين في المعاهد المتوسطة وخريجي الجامعات والدراسات العليا في مختلف العلوم الإنسانية. بعد كل هذا يأتي وزير الداخلية الذي اكتفت بلاده بالخبرات التي بين يديه، ثم يبدي رأيه بصلافة في تقرير مصير هؤلاء وأين يريد أن يسكنهم في الدولة السورية.
يبدو أن نقاش إعادة السوريين إلى بلادهم بات يأخذ منحى جديًا، خاصة وأن المقابلة جاءت متزامنة مع عقد مؤتمر بروكسل الثامن حول "دعم سورية والمنطقة". هذه المرة عقد المؤتمر على مرحلتين متباعدتين: الأولى، كانت في 30 نيسان/أبريل في مقر البرلمان الأوروبي في بروكسل، والثانية، بتاريخ 27 أيار/ مايو في نفس المكان ولكن ضم عددًا من الفعاليات الإضافية من المجتمع المدني، والتي يعتمد عليها داعمو الحرب على سورية في استدامة مشكلة النزوح في البلدان المستضيفة والمقصود بها لبنان والأردن وتركيا. واعتبر جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أن "الوضع في سورية اليوم أكثر خطورة مما كان عليه قبل عام". بوريل يقصد بذلك الاحتياجات الإنسانية، وإذا ما تم تفقد صفحة الاتحاد الأوروبي حول مؤتمر بروكسل الثامن، فإن توصيف القرار السياسي الأوروبي يأتي مع الرابط الإلكتروني الذي ينقل القارئ إلى قرارات العام الفائت، والتي تفيد بمعارضة الأوروبيين عودة اللاجئين من البلدان المجاورة المستضيفة.
وفي حين أنه رصد في العام 2023 مبلغ 9.6 مليار يورو، فقد رصد مبلغ 7.5 مليار يورو من أجل دعم النازحين في الدول المستضيفة خلال هذا العام، هذا المبلغ مخصص لعامين، والذي سيعطى لهم بشكل مباشر، وهناك تفاصيل إجرائية تتعلق بالموضوع، ولكن أهم ما في الأمر أن هذه المبالغ، والتي تشح في كل عام، يرى فيها المانحون إغراءات لتمكين اللاجئين في البلاد التي هم فيها. كما أنها تعد نقودًا سهلة وحاجة ملحة مع شح الموارد المالية وخاصة بالنسبة للفئات التي تعيش في مخيمات اللجوء أو في الأحياء الشعبية الفقيرة. وأما بالنسبة للأوروبي فكما قال كارنر، بات هؤلاء يشكلون عبئاً على مؤسساتهم الطبية كما التعليمية وخاصة في المراحل التحضيرية والابتدائية، فيما دفع مبلغ صغير، مثل 300 دولار أميركي لكل عائلة يمكنه أن يجعل هؤلاء يتمسكون بالبلاد المستضيفة دون الرغبة بالعودة إلى بلادهم. هذا بالضبط ما يريده من تآمر على سورية وهو تعويد اللاجئين على نمط اقتصادي اتكالي يعتقدون من خلاله أنه يمكن خلق حالة معادية للدولة السورية في بلاد اللجوء، دون أن تتحمل أوروبا عبء الطبابة والتعليم والإسكان. كما أن هذا يحول اللاجئين السوريين كما حدث في التجربة الأفغانية، وهو ما يتأملون إعادة تطبيقه في مخيمات اللجوء، إلى مجموعات عاطلة قد تلجأ إلى حمل السلاح مقابل المال ويحدث ذلك فعليًا في إدلب اليوم خاصة مع ارتفاع نسبة الأمية وفقدان المهارات المهنية بين هؤلاء، وبحسب مصدر "العهد" الذي قال: "أن الأطفال في إدلب يستطيعون اليوم اقتناء المسدسات مقابل مبالغ زهيدة".
وأما الفكرة المريضة التي ما زالت تتحكم بالعقلية الاستعمارية الغربية لأكثر من خمسة قرون من ممارساته في إخضاع شعوب العالم ومقدراتها، والتي تفهم من خلال تصريح كارنر وأمثاله، ممن يريدون التخلص من عبء اللاجئين، أو هؤلاء الذين يقيمون في كل عام سلسلة بروكسل من أجل إعادة التأكيد على تطبيق القرار 2254، والذي هدفه الأولي قطع رأس سورية وتحويلها إلى عراق آخر أو لبنان آخر ضمن نظام طائفي متصارع، والتي تكشف محاولات تستجد في كل عام من أجل فرض القرارات على دولة ذات سيادة أو في اقتراح إسكان مهجري ريفي إدلب وحلب والجزيرة السورية، حيث يسيطر الاحتلالان التركي والأميركي، وإعادة توزيع ديموغرافي بالقوة وخلق صراع اجتماعي عميق بين السوريين في المناطق التي بقيت آمنة، تقريباً، في سورية، بدلاً من المطالبة بانسحاب الاحتلالين من سورية وعدم التدخل في شؤونها.
صحيح أن المدن الرئيسية في سورية، وخاصة الأحياء الجديدة، هي مناطق سكانية مختلطة من مختلف المحافظات، ولكن عند فرض إسكان مجموعات في مناطق ذات نمط اجتماعي وثقافي مختلف فالصراعات ستجد الطريق سالكًا نحوها، خاصة في مثل الحالة التي تعيشها سورية، وضع اقتصادي صعب، وتقنين في الكهرباء والماء، وأماكن سكنية سترتفع إيجاراتها بحيث يصبح سكان المدينة غير قادرين على دفعها. ما يطلبه باركر: طلب ثعلب بلباس نعجة، وهو ما لا يمكن تحقيقه. لقد كان الأولى بباركر إذا ما أراد مصلحة بلاده حقًا، أن يتحلّى بشجاعة الأسود ويطالب بإنهاء الاحتلالات في سورية، ولكن أوروبا بمجموعها باتت قطيع نعاج عند الراعي الأميركي.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
تعليقات: