1059 بلدية على امتداد لبنان تعمل باللحم الحيّ اليوم. الأزمة الاقتصادية المُستفحلة والمُتواصلة أرخت بظلالها على أكثر القطاعات تماسًا مع الناس: الخدمات الإنمائية في جميع المناطق. الضغط كبير والإمكانات محدودة وحاجات البلدات تفرض نفسها كتحدٍ أساسي يعيق الدورة التنظيمية في كلّ القرى والمدن.
أهل "الكار" وأصحابه يتحدّثون عن أيّام سوداء يعيشونها بفضل غياب الخطط الإنقاذية للعمل البلدي في ظلّ اشتداد المحنة المالية. القدرات الميدانية تتضاءل شيئًا فشيئًا والموازنات تكاد تختفي، تنفيذ المهام متعذّر، والدولة في خبر كان.
العمل البلدي مُعطّل.. الى متى؟
قانون البلديات في لبنان صدر للمرة الأولى عام 1963 في عهد رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وحكومة الرئيس رشيد كرامي، وفي عام 1997، صدر قانون معدّل ينظّم الانتخابات البلدية في كلّ القرى. بحسب النصّ الرسمي، تدير البلديات الشؤون المتصلة بالصحة العامة والتمدن والبناء والخدمات العامة والأمن وتنظيم الطرقات وتخطيطها وتوسيعها وتنظيفها والتخلص من النفايات، وإنشاء الحدائق والساحات العامة، ووضع التصاميم العائدة للبلدة والمخطط التوجيهي العام (بالتعاون مع المديرية العامة للتنظيم المدني)، وإنشاء الأسواق والمتنزهات وأماكن السباق والملاعب والحمامات والمتاحف والمستشفيات والمستوصفات والملاجئ والمكتبات والمساكن الشعبية والمغاسل والمجارير ومصارف النفايات.
ولاية المجالس البلدية 6 سنوات، وفي هذه الأعوام تعتمد على موارد عدة لتمويل مشاريعها من الرسوم البلدية ورسوم الدولة والمساعدات والهبات والقروض، إضافة الى حاصلات الأملاك العامة البلدية وغيرها.
الانضمام الى السلك البلدي كان يعني الكثير سابقًا. تقديماتٌ عديدة تُغني عن العمل في قطاع آخر. قبل انهيار العملة الوطنية، كان موظّفو البلديات يتقاضون الى جانب رواتبهم مساعدات مرضية، منح تعليم وزواج وولادة وتعويضات عائلية، بحسب نظام التقديمات المالية في وزارة الداخلية والبلديات.
قيمة هذه التقديمات اليوم تلاشت تمامًا مع التدهور الكبير في سعر صرف الليرة مقابل الدولار. عملية حسابية صغيرة تُبيّن أن أساس راتب الموظّف البلدي ثابت عند حاجز الـ1500000 ليرة لبنانية، وعليه تُضاف زيادات بدل النقل التي بدأت فعليًا عام 2021 أي بعد سنتيْن على أزمة الدولار لتصبح اليوم 10500000 ليرة مع 450000 كبدل نقل يومي، وكلّ ذلك لا يعادل ربّما الـ200 دولار شهريًا.
هذه الأرقام إن وُجدت وصُرفت فعليًا على موظّفي البلديات فربّما يمكن القول إن الوضع قد يكون مُطمئنًا بعض الشيء ولا يدعو الى تشاؤم كبير، إلّا أن المعطيات والموازنات الغائبة عن البلديات الكبيرة والصغيرة تؤكد أن العمل البلدي في خطر ومعطّل.
المعنيون في هذا القطاع يُرجعون أصل المعاناة الى عدم تأمين مصادر تمويل لرواتب موظّفي البلديات وبدلات نقل يومية وحوافز مالية، وعدم صرف عائدات الصندوق البلدي المستقلّ وعائدات الخلوي (منذ 3 سنوات)، الأمر الذي أدّى على الأرض الى العجز التامّ عن تأمين الخدمات وتلبية حاجات المواطنين الإنمائية.
المشاريع الإنشائية والبنى التحتية متوقّفة بالكامل في بعلبك
في بعلبك حيثُ أكبر الاتحادات البلدية من حيث المساحة الجغرافية على صعيد لبنان الوضع محزن للغاية. هكذا يقول رئيس اتحاد بلديات بعلبك شفيق شحادة لـ"العهد"، ويؤكد أن "أزمة "كورونا" أرخت كلّ ثقلها على البلديات في حين لم يتوفر لها أيّ مبلغ مالي لمواجهة الجائحة ما استنزف صناديق البلديات التي تكبّدت مصاريف الورش التدريبية والمتابعة الميدانية وتقديم بعض المواد الصحية والتعقيمية".
ويُشير شحادة الى أن خطط وبرامج ومشاريع اتحاد البلديات التي كانت موضوعة توقّفت بشكل كلّي، ومنها إعادة تأهيل مدخل بعلبك - دورس وبناء جسر في المنطقة وإنشاء مكتبة عامة في مدينة بعلبك، ما يعني أن كلّ المشاريع الإنشائية والبنى التحتية متوقّفة تمامًا. ويلفت الى أن "كلّ الموظّفين في الإدارات العامة يتقاضون روابتهم بناءً على الزيادة التي لحقت بها بنسبة 7 أضعاف مع لحظ بدل النقل، باستثناء موظفي وعمال البلديات فهم منسيّون".
بحسب شحادة، منذ 5 أشهر لم يتقاضَ عمال البلديات رواتبهم. أمّا اتحاد بلديات بعلبك فموازنته كانت تبلغ نحو مليار و650 مليون ليرة قبل الأزمة أي ما يوازي مليون و100 ألف دولار، وهذه القيمة تحوّلت اليوم الى 11000 دولار، ما يزيد من الضائقة.
يُبيّن شحادة أن طموح بلديات بعلبك واتحادها اليوم بات تغطية المصاريف التشغيلية من إصلاحات وترميمات قدر المُستطاع.
وإذ يتحدّث شحادة عن أن البلديات لا تزال تستطيع تحصيل بعض الرسوم التي تستوفيها من المواطنين (مقابل رخصة - إفادة)، يجزم بأن الاتحادات ليس لديها هذا المورد وهي واقعة في عجز مالي كبير، ولا سيّما أن الصندوق البلدي المستقلّ يوزّع أمواله حسب أرقام السكان المسجّلين لديه، خلافًا للواقع، فعلى سبيل المثال مدينة بعلبك تضمّ 120 ألف نسمة والمسجلون في دوائر النفوس فقط 60 ألفًا، وعليه البلدية تتلقى نصف الحصة الحقيقية.
وكي يستمرّ النشاط البلدي ولا يُعطَّل، دخل حزب الله على الخطّ من بوابة تقديم العون. هنا يؤكد شحادة أن حزب الله يقوم بدور كبير جدًا ويتكبّد مبالغ ضخمة جدًا لأن تكاليف المحروقات الخاصة بالآليات تتجاوز موازنة أيّة بلدية، خاصة أن بلدية دورس موازنتها السنوية اليوم 500 مليون ليرة وهذا المبلغ لا يؤمّن تكلفة المحروقات لآليتيْن تابعتيْن للبلدية.
ووفق شحادة، تفوق تقديمات حزب الله للبلديات موازناتها ومُخصّصاتها من قبل الدولة اللبنانية. لذلك حزب الله عمل على سدّ الثغرات على صعيد العمل البلدي، وخاصة ما هو متعلّق برفع النفايات. لهذا، يرى أن بعض المساعدات المقدمة من حزب الله تفي بالغرض لقاء محروقات للآليات ومساعدات للعمال لا ترتقي الى حدّ الراتب.
صور: العمل البلدي مشلول والاتكال على المبادرات
مسؤول العمل البلدي في منطقة جبل عامل الأولى (صور - بنت جبيل - مرجعيون) علي الزين يُعدّ التمويل الغائب السبب الوحيد الذي أدّى الى شلل النشاط البلدي، ويُفصّل "الصندوق البلدي المستقلّ لا يدفع، وزارة الاتصالات لا تدفع، المؤسسات الرسمية من مياه وكهرباء لا تدفع.. كلّ هذا يضرب العمل البلدي".
الزين يقول لـ"العهد": "أمام هذا الواقع، زادت الطلبات والشكاوى والخدمات بما يتجاوز قدرة البلديات، فيما الأموال المخصصة لها بالعملة الوطنية فقدت قيمتها، وكلّ ما تحتاجه البلديات من حاجات بالدولار أصبحت صعبة المنال"، ويتابع "أعباء البلديات تفوق طاقتها، وهذه المشكلة تنسحب على الاتحادات التي تفتقر الى مصادر تمويل لها وهذا يعيق عملها ودورها".
وجراء استفحال الأزمة، لم يعد أمام البلديات سوى اللجوء الى من يستطيع تأمين حاجاتها. هنا، يُشير الزين الى أن البلديات اليوم لجأت الى الخيّرين والى حزب الله الذي يقف الى جانبها في هذه المِحنة نتيجة ثقتها به.
يُعدّد الزين تقديمات حزب الله للبلديات جنوبًا وتحديدًا في نطاق صور وبنت جبيل ومرجعيون وهي التالية:
1- عمليات صيانة.
2- ما بين 300 الى 400 ألف ليتر مازوت شهريًا لتشغيل الآبار.
3- كميات من المازوت لبعض المراكزالعامة كي تعمل على تأمين شؤون الناس.
4- تأمين طاقة شمسية للآبار.
المشكلة الطارئة اليوم والتي بدأت تتسّع ارتداداتها السلبية في قرى الجنوب هي إزالة النفايات من الطرقات. الزين يتحدّث لـ"العهد" عن أن عبئًا كبيرًا تُسبّبه النفايات ونقلها يحتاج الى المحروقات، ويُشير الى أنه عندما لا تستطيع البلديات تقديم خدمة جمع النفايات في نطاقها فهذا يعني أنها لم تعد قادرة على فعل شيء.
بناءً عليه، يسأل الزين عبر "العهد" لماذا لا تُصرف أموال البلديات من قطاع الخلوي الموجودة في الخزينة اللبنانية؟ لماذا الصندوق البلدي المستقل لا يدفع ما عليه؟"، ويردف "هذه الأموال اذا وصلت الى البلديات ستُشعرها باهتمام الدولة بها، على الرغم من أن قيمة الأموال لا تعدّ كبيرة إلّا أنها تُخفّف من المشكلة".
اتحاد الضاحية وبلدياتها شراكة لسدّ الثغرات
لا يختلف كلام رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية محمد درغام عن كلام سلفيْه. الأزمة تضرب البلديات واتحاداتها في كلّ الأراضي اللبنانية. يعتبر درغام أن تشغيل البلديات بحدّ ذاته تحدٍ كبير، خاصة أن الموازنات شبه معدومة.
ويلفت درغام عبر "العهد" الى أننا في الاتحاد نتعامل والبلديات كفريق واحد، ويتابع "نُكمّل بعضنا بعضًا على مستوى الضاحية الجنوبية. حيث تقصّر البلديات، يحضر الاتحاد".
ويُبيّن أن "الاتحاد يعمل اليوم لحلحلة المشاكل في الشوارع الداخلية والمناطق العشوائية وعلى صعيد جمع النفايات وترميم الحُفر في الطرقات الرئيسية وصيانة الكهرباء وتأمين المازوت"، ويؤكد أن "هذا الجُهد يُبذل بالشراكة بين الاتحاد وبلديات الضاحية".
درغام يسأل "من يتكفّل بصيانة المؤسسات الرسمية والحكومية أو الطرقات الرئيسية وخطوط الصرف الصحي الأساسية وشبكات المياه والمدارس الرسمية والقوى الأمنية"، ثمّ يجيب "أليست البلديات واتحاداتها؟".
ويوضح أن "أزمة كورونا وإحصاءات النازحين السوريين والتعديات على الشواطئ وُضعت على كاهل البلديات"، ويشدّد على أن البلديات تُستنزف الى أعلى مستوى ولا تُعطى حقّها اليوم لا عبر القوانين، فأزمة رواتب عمّالها وموظّفيها لا تزال ولم تصل الى نتيجة إيجابية".
وإذ يُشير الى أن مبادرات الفعاليات السياسية في نطاق الضاحية الجنوبية تعمل على دعم البلديات ومساندتها، يقول إننا نبحث عن مصادر تمويل لمشاريعنا ضمن الضاحية عبر جهات دولية مانحة، فنحن لا نستطيع أن نُنفّذ أية مُخططات بلا هبات خارجية.
ومن خلال منبر "العهد"، يُناشد وزير الداخلية كونه يمثّل سلطة الوصاية على البلديات لأن يحمل همومها، ويرفع صوتها في مجلسي الوزراء والنواب للوقوف الى جانبها بشكل فعّال.
تعليقات: