احتمالات العودة إلى القرى الحدودية تتضاءل (Getty)
فاقت الفترة الزمنية للحرب الإسرائيلية على الجنوب توقّعات أغلب اللبنانيين، سيّما أبناء القرى الحدودية. وإذا كان النقاش في السياسة والأمن يحتمل تَرَفَ إطالة الوقت، إلاّ أن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لمن تَرَكَ بيته في القرى الحدودية، لا يسمح بإضاعة الوقت في محاولة استشراف ما ستؤول إليه الأمور في الجنوب، بل يستدعي الاستجابة السريعة لمتطلّبات الواقع الجديد الذي فُرِضَ على المهجَّرين.
ولصعوبة ذلك الواقع، بات لزاماً على أغلب المهجَّرين الاندماج حيث هُم والعمل لتأمين الأكل والشرب وإيجار المنزل وكلفة مولّدات الكهرباء.. وما إلى ذلك. إلاّ أن ما يوفِّره الواقع الجديد، غير كافٍ، لكنه ضروري.
الاندماج وفقدان الأمل
مع دخول الحرب في الجنوب شهرها التاسع، وفي ظل عدم وضوح خيار التهدئة أو وقف الحرب، لم يجد المهجَّرون خياراً سوى الاندماج في أسواق المناطق التي استقرّوا فيها، ومنها مدينة صور وضواحيها. إذ أن "احتمالات العودة إلى القرى الحدودية تتضاءل والمساعدات المادية والعينية التي تقدّمها بعض الجمعيات الأهلية وحزب الله وحركة أمل، لا تستطيع تغطية كافة احتياجات العائلات"، وفق ما يُجمِع عليه عدد كبير من المهَجَّرين، خلال حديث لـ"المدن". والحال واحدٌ بالنسبة للشبّان أو الأكبر سنّاً. فرغم اختلاف الأعمار والمسؤوليات بين الشبّان وأرباب العائلات، إلاّ أن الحاجة للعمل تبقى واحدة.
بغرض الاندماج وتأمين المردود المالي، انخرط الكثير من المهجَّرين في الأعمال المتوفِّرة، وبشكل أساسي في العمل الزراعي. وعدد آخر حاول الاستفادة من موسم الصيف والعمل في المطاعم والمقاهي "لكن المردود المالي غير كافٍ، والفرص غير متاحة باعداد مطلوبة لتلبية حجم الطلب على العمل. فالمؤسسات تعاني في الأصل من عدم قدرتها على التوظيف الكبير وإعطاء رواتب مرتفعة، وزادت الحرب من توفير يد عاملة إضافية لا يمكن للسوق استيعابها بهذه الظروف الصعبة".
وتختلف الأجور بتعدّد الوظائف وتنوّعها "والثابت أن ما كان يُنتجه الشبّان في قراهم قبل الحرب، يفوق بأضعاف ما يُنتجونه اليوم. لكن لا خيار آخر سوى العمل". والبعض حاولَ "التمرّد" على الواقع ورفض فرص العمل المتاحة بعد مقارنة نتائجها بما كان عليه الوضع قبل الحرب، لكن الرضوخ والقبول بما هو متوفِّر كان الخيار الأخير.
بعض الشبّان "فضَّلوا المغامرة في الأشهر الاولى للحرب، والانتقال اليومي من منطقة صور إلى القرى الحدودية، ومنها عيترون وحولا على سبيل المثال لا الحصر، لمواصلة ما يُتاح من أعمال هناك، سيّما الزراعية. فبعض أصحاب الأملاك فضَّلَ دفع أموال إضافية للعمّال للاهتمام بالمنازل والأراضي بغية عدم إهمالها وتركها. لكن اشتداد القصف والخطر، أوقفَ هذا التوجّه، سواء للعمّال او أصحاب الأملاك". وهنا، يبرِّر الشبّان خيار الذهاب إلى القرى الحدودية بالتأكيد على "الانتماء للقرى أولاً، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من موسم زراعي ثانياً، ومحاولة معنوية لحراسة المنازل والممتلكات".
محاولات الانخراط في سوق العمل في المناطق المضيفة يشكِّل "وسيلة اندماج لا بدّ منها"، في حين أن انقطاع سبل التواصل مع القرى الأم واتساع حجم الدمار فيها وعدم حسم مسألة الهدنة أو التهدئة أو وقف الحرب، يعني بشكل من الأشكال فقدان الأمل بالعودة سريعاً إلى فترة ما قبل الحرب، وهذا يعني رفع قيمة الأكلاف المادية التي سيدفعها أبناء القرى".
دفع فواتير كثيرة
لم تعد مسألة العودة بحدّ ذاتها هي الهاجس الأوحد للمهجّرين. فالسؤال الأبرز هو "العودة إلى ماذا؟ إلى منزل مدمَّر لا مال متوفِّر لإعادة بنائه، أم لمصالح ومؤسسات ومحال تجارية سوِّيَت أرضاً، أم إلى احتمالات تكرار هذه المأساة بعد سنوات، أو غير ذلك من الأسئلة التي باتت مطروحة بشكل جدّي، وإن كانت الأصوات لا تزال خارج الحديث العلني العام انطلاقاً من ضرورة تحدّي العدوّ ورفض الحرب والتأكيد على حقّنا بالأرض وبالعودة إليها؟".
الإجابة عن التساؤلات الكثيرة ليست متوفِّرة بشكل حاسم لدى أحد من المهجَّرين أو الدولة أو حتى حزب الله "الذي يحاول دفع جزء ممّا يعتبره مساهمة منه تجاه المتضرّرين. لكن مبلغ 200 دولار وصندوق مواد غذائية شهرياً، لا يكفي. علماً أن هذه المساعدات، على ضآلتها، لا تصل إلى جميع المهجّرين، الأمر الذي يخلق تفاوتاً بينهم لناحية الحصول على جزء وإن يسير من التعويض أو جانب من الحماية الاجتماعية لتأمين كلفة إيجار منزل أو جزء من الغذاء". وبما أن التمييز حاصل في هذه المرحلة "هناك خوف مستمر من التمييز لاحقاً في مسألة التعويضات بعد الحرب، وهو ما حصل بعد حرب تموز 2006".
مع ذلك، لا يقف الكثير من المهجّرين عند هذا التمييز واحتمالات توسّعه بعد الحرب. فالأولوية "لإيجاد عمل والاستمرار بالحياة رغم الفواتير الكبيرة التي تواجهنا في القرى. مع أن بعض أصحاب المؤسسات يراعون المهجّرين في الأسعار، سيّما محال الخضار واللحوم والدجاج وبعض أصحاب مولّدات الكهرباء الخاصة، وفي المقلب الآخر هناك مَن لا يعير للحرب أهمية، فتأتي الفاتورة ثقيلة جداً".
مَن يعيش اختبار الحرب ونتائجها مع احتمالات مفتوحة على فترات زمنية غير محدَّدة "لن يغامر بسهولة في ترك ما حصل عليه من مكتسبات وإن ضئيلة. من فرصة عمل أو منزل أو خدمات بأسعار خاصة وشكل معيَّن من الاندماج الذي يساعد في ترسية استقرار ما للعائلة ككلّ وللأطفال بشكل خاص، وهذا جانب قد لا يلحظه البعض، ولذلك من المهم تسليط الضوء عليه من خارج مسار التغطية التقليدية لحياة المهجّرين في المناطق. لأن الفواتير المالية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لا يمكن دفعها مراراً والرهان على تكرارها وكأنها أمراً عابراً وعادياً يمكن احتماله".
لكل شخص قصة
وسط الهواجس التي يطرحها البعض، هناك مَن حَسَمَ أمره بالعودة إلى قريته عند أول وقف لإطلاق النار "فلا خيار أفضل من العودة وسط ما نعيشه من مذلّة في المدارس أو منازل أصدقاء وأقرباء نعرف أن استمرار وجودنا في حياتهم كل هذا الوقت، أمر ثقيل، وإن لم يعبِّروا عن ذلك صراحة. فضلاً عن عدم القدرة على توفير فرص عمل لائقة. وبعض أصحاب المنازل اضطروا إلى الطلب من المهجّرين إخلاؤها في أقرب وقت لأن أصحابها من المغتربين سيعودون إليها لقضاء عطلة الصيف، أو ربما أحد أفراد العائلة يريد الزواج والسكن في المنزل الإضافي. وهذه ضغوط كبيرة سنسارع إلى تجاوزها فور إتاحة فرصة العودة إلى القرى الحدودية".
مشهد الحرب ونتائجها وانعكاسها على أبناء القرى، يكاد يكون فردياً لدرجة أن لكل شخص قصّته وأولوياته وقراراته. فهناك مَن لم يجد مسكناً، وهناك مَن وجدَ واحداً لكنه غير مناسب، وآخر يدفع أجرة مرتفعة، وأحدهم لا يعمل، ومَن يعمل قد لا يكفيه مدخوله. وللأطفال قصة يجب تخصيص مساحة كافية للإحاطة بيومياتهم واحتياجاتهم المادية والنفسية. لكن الجامع بينهم الاضطرار إلى اعتياد نمط حياة جديد "لكنه مخيف، لما يحمله من نقلة نوعية مقارنة مع ما كانت تعيشه العائلات في قراها قبل الحرب، ومع ما قد تعيشه لفترة طويلة في محيط جديد، وإن كان يشبه محيط القرى الأم لناحية الثقافة والدين، لكن هناك نمط حياة خاص بكل عائلة وفرد لا يمكن حمله من مكان لآخر".
تعليقات: