الكابل البحري الجديد
لبنان المكشوف أمنيا وماليا ليس دوما ضحية حروب الآخرين وصراعاتهم عليه وفيه، بل هو في كثير من الأحيان نتيجة لانعدام الرؤية والإحساس بالمسؤولية اللذين يتحكمان في أداء الطبقة الحاكمة وامتداداتها داخل الإدارة والمؤسسات. فالاستهتار الجماعي الذي مارسه من تعاقب على قطاع الاتصالات خير دليل، خصوصا حيال الإصرار على استجرار الإنترنت والاتصالات من مصادر غير آمنة، وكان آخرها عرض إنشاء كابل بحري تموله هيئة الاتصالات الوطنية القبرصية CYTA بقيمة 10 ملايين دولار.
هدية بملايين الدولارات لم يدقق أحد في خلفياتها وأهدافها، وما إذا كانت جدواها الاقتصادية تتخطى كرم الشركة القبرصية وتعود بالمنفعة على البلدين المتجاورين، أو تكشف الأمن القومي اللبناني على أخطار تزيد الإرباكات الأمنية فيه. هذه الهدية غير المبررة، في حال قبولها، تشكل جرما جنائيا في دولة ذات مؤسسات وعدالة وقضاء.
قبل عامين، وافقت الحكومة الحالية على إنشاء كابل بحري Cadmos 2 يربط لبنان بقبرص، مع تسويق وزارة الاتصالات أن الشركة القبرصية ستتحمل وحدها الأكلاف كاملة، إضافة إلى تقديم حصة مجانية للبنان تبلغ 50% من الكابل، شرط أن تحتفظ CYTA لنفسها باتخاذ جميع القرارت المتعلقة بالتشغيل والاستثمار والصيانة.
تم ذلك من دون اعتراض أي من الجهات الرسمية والأمنية المعنية. وحده النائب قبلان قبلان أثار الموضوع ضمن أعمال اللجنة النيابية للاتصالات ووجه سؤالا إلى الحكومة عن خلفية المبادرة القبرصية (السخية)، ودرجة الخطورة في هذا الكابل على الأمن القومي اللبناني، ولكن بقي سؤاله بلا جواب.
أين تكمن خطورة هذا الكابل؟ وما الهدف منه؟
في عصر "المعطيات العملاقة" (big data)، ثمة وسائل تنصت تعتمدها وكالات الاستخبارات على المعطيات وحركة التخابر والإنترنت تعرف بـ"التنصت من المصدر" (Source Interception)، وتعتبر كوابل الاتصالات البحرية في مقدم هذه المصادر.
تقنيات التنصت على الكوابل البحرية معقدة ومتطورة للغاية، ويصعب اكتشافها، وعدد قليل فقط من خبراء الاتصالات في العالم يعرف تفاصيل عمليات التنصت على هذه الكوابل. إذ كشفت "وثائق سنودن" التي نشرت عام 2013 أن الوسيلة الأكثر فاعلية التي تستخدمها وكالات الاستخبارات العالمية مثل الـ NSA الأميركية والوحدة Unit 8200 الإسرائيلية في مجال التنصت على الكوابل البحرية، هي التنصت من خلال "محطات الإنزال" لهذه الكوابل.
وبهدف رفع المسؤولية، يعمد مسؤولون لبنانيون إلى تسخيف خطورة التنصت على الكوابل البحرية، وحجتهم أنه قائم من الجهات الاستخباراتية الدولية، ولا مفاضلة بين كابل وآخر في هذا المضمار. ولكن ثمة أسئلة يطرحها النائب قبلان عبر "النهار"، أبرزها عن الجدوى الاقتصادية من كابل Cadmos 2 لتبادر الشركة القبرصية إلى تحمل كلفة إنشائه كاملة، فيما حركة التخابر والداتا المتبادلة بين البلدين لا تبرر إنشاء كابل جديد، وكذلك عن وجود كوابل أخرى تملكها إسرائيل في نقطة إنزال الكابل Cadmos 2 وتربطها بالجزيرة القبرصية.
للإجابة عن هذين السؤالين يعرض النائب قبلان، وكذلك مصادر متابعة، الوقائع الآتية:
- عام 1995 أنشئ كابل قدموس الذي ينطلق من محطة إنزال "بنتاسخينوس" ويصل لبنان بمحطتي "الجديدة" و"رأس بيروت".
- في 2009 نفذت "أوجيرو" خطة تقضي بإنشاء كابل بحري جديد عابر للقارات وتشغيله، يدعى IMEWE لا يمر عبر قبرص، ينطلق من الهند إلى فرنسا ثم لبنان عند "محطة إنزال" طرابلس، ومحطة إنزال أخرى في الإسكندرية.
يملك لبنان في هذا الكابل نسبة 12%، علما أن لا وجود لكابل إسرائيلي في محطة إنزال الإسكندرية.
- في 2012 أنشأت اسرائيل كابلARIEL/JONAH يربط حيفا وتل أبيب بقبرص، عند محطة إنزال كابل قدموس "محطة بنتاسخينوس". هذا الكابل تتفرد إسرائيل بملكيته بما يمنحها الوجود الدائم في محطة الإنزال القبرصية، علما أنه ليس تجاريا بل مخصص لتأمين خدمات الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها، ولا يمكن أحدا معرفة وجهة استخدامه.
- في 2013 حاول الوزير نقولا صحناوي ربط لبنان مجددا بمحطة "بنتاسخينوس" عبر كابل جديد هو "الكساندريوس". إلا أن المشروع فشل بسبب معارضة المدير العام يومذاك عبد المنعم يوسف، لكون كابل IMEWE يغطي حاجة لبنان لعشرات السنوات المقبلة.
- في 2022 وافقت الحكومة على إنشاء CADMOS 2 الذي يربط لبنان بمحطة إنزال "بنتاسخينوس" التي تحوي الكوابل الإسرائيلية JONAH وARIEL.
- لم تبرز الشركة القبرصية خلال مناقشة مشروع الكابل دراسة الجدوى التي تبرر إنفاقها الاستثماري ومدى مردوديته الزمنية، ما يشي بأن الغاية منه ليست اقتصادية/تجارية.
- في 2022، أعلن وزير الاتصالات جوني القرم إبرام اتفاقية مع قبرص لشراء سعات دولية من كابل Alexandros والذي يهبط أيضا في محطة إنزال Pentaskhinos.
- عبر ربط الكابل الجديد CADMOS 2 بكابل الـ IMEWE يتاح لأجهزة التنصت بواسطة الكابلات الوصول الى بيانات الإنترنت للبنانيين والمؤسسات الحكومية والشركات الخاصة كافة، ويشمل ذلك كل ما يجري عبر الأجهزة الخليوية والشبكة الثابتة.
يظهر تسلسل الأحداث أن الحكومات المتعاقبة ولجنة الاتصالات النيابية التي كان يرأسها النائب حسن فضل الله ثم النائب إبرهيم الموسوي، والأجهزة الأمنية، وافقت على مشاريع ربط لبنان بمحطة إنزال "بيتناسخينوس"، باستثناء فترة ولاية عبد المنعم يوسف الذي وضع خطة عام 2007 هدفت إلى استقلال شبكات الاتصالات الدولية اللبنانية نهائيا عن جزيرة قبرص بغية حمايتها من أي تنصت إسرائيلي. فكان إنشاء كابل IMEWE عام 2009. إلا أن الربط تجدد عام 2022 بواسطة كابل Cadmos 2 (سيوضع في الخدمة نهاية 2024)، من دون سبب موجب بمحطة إنزال "بنتاسخينوس" الموجودة فيها إسرائيل.
وفق مصادر متابعة، ينقسم المسؤولون اللبنانيون منذ إنشاء الكابل الإسرائيلي في 2012 إلى ثلاث فئات، الأولى وافقت عن جهل مع ادعائها المعرفة والخبرة في الاتصالات، وأخرى تشمل فريق المقاومة الذي وافق، وإن على مضض، على خلفية اطمئنانه إلى عدم استخدامها لـ "شبكات الدولة"، فيما أدركت اليوم أن الأمور انقلبت عليها عبر التنصت الإسرائيلي على بيئتها الحاضنة. أما الفئة الأخيرة فربما خضعت لترغيب مقنع، إذ لا يستبعد أن يكون عرض الشركة القبرصية لم يقتصر على تغطية أكلاف الكابل البحري، بل تعداه لتحفيز بعض المسؤولين للموافقة والتسويق للمشروع.
وتختم المصادر بأن "المفاجأة ستكون كبيرة جدا حين تُعرف الجهة الحقيقية التي مولت إنشاء كابل CADMOS 2"، علما أن قبلان يحسم لـ"النهار" أن التمويل إسرائيلي.
ويختم: "لا يقتصر الأمر على هذا الكابل بل ينسحب على اختراق كامل لكل خصوصية وحماية أمنية إلكترونية للبنانيين من خلال إعطاء عقود الإنشاء والتجهيز والتشغيل والتطوير لشبكات الاتصال، إن على مستوى شركتي الخليوي أو على مستوى "أوجيرو"، بما جعل كل تفاصيل اللبنانيين في أيدي شركات مجهولة تولت نقلها إلى جهات خارجية وجعل كل لبناني وكل مؤسسة لبنانية صغيرة أو كبيرة في دائرة الخطر الشديد. وما جرى في المطار وغيره من المواقع الحساسة، وما يجري اليوم على جبهة المواجهة مع العدو خير دليل على ذالك. ويطالب قبلان بـ"محاسبة كل من تولى أي موقع في وزارة الاتصالات، وسمح عن قصد أو عن جهل باستباحة داتا المعلومات المرتبطة باللبنانيين وشركاتهم ومؤسساتهم".
تعليقات: