من أهم ما يميز مدينة النبطية في أذهاننا منذ الصغر، وهو تمثيل مشهدية واقعة كربلاء من ضمن فعاليات الاحتفالات الدينية والشعبية لهذه الفاجعة الإنسانية الأليمة التي لطخت بالدم الأحمر القاني وجه التاريخ الإسلامي قبل أن يكتمل قرنه الأول.
ومن ضمن فعاليات ذكرى عاشوراء (٢٠٢٤)، فقد حَلْلُتُ ضيفاً بالنبطية على قريبنا الفاضل (أبو حسن - علي الشيخ حسن عبدالحسين صادق)، حيث تابعنا سوياً من على شرفة منزله المُطل على مسرح بيدر النبطية، أداء مشهدية فاجعة الطف لهذا العام.
يكاد يقترب عمر تمثيل مشهدية عاشوراء في النبطية إلى قرنٍ وربع من الزمان، فقبل استقدام المقدس الشيخ "عبدالحسين إبراهيم صادق" (١٨٦٢ - ١٩٤٢م) للنبطية قادماً من الخيام في عام (١٩٠٦م)، كان في النبطية عائلات إيرانيّة يحيون مجالس العزاء بالفارسيّة، (على ما يذكره "د. عباس حسن رضا" في كتابه "حسينية النبطية - مؤسسة دينية وقوة ضغط") وكانت تلك العائلات يعرضون مشهدية عاشوراء بالفارسيّة أيضًا. وأبطالها شخصان فقط، الأوّل يُشخّص دور الإمام الحسين (ع)، والثاني يُشخّص دور الشمر قاتل الامام الحسين (ع). وبعد أن أنشأ بالنبطية المقدس الشيخ "عبد الحسين صادق" أول حسينية في لبنان كافة في سنة (١٩٠٩)، تفرغ لتنظيم مجالس العزاء في الحسينية، واقامة المواكب والمسيرات العاشورائية وما يصاحبها من مظاهر حزن وتفجع أليم، حيث ما زالت الرداديات التي كتبها حينذاك يتردد صدها إلى عصرنا الحالي في كل موسم عاشورائي بمختلف الربوع العاملية، ثم التفت المقدس الشيخ "عبدالحسين صادق" إلى المشهدية العاشورائية فوضع نصّها الموثق تاريخياً والمطابق شرعياً وهو ما يعرف بلغة المسرح اليوم (السيناريو والحوار) والذي بقي يُعمل به إلى يومنا هذا التزاماً من القائمين عليها، كون هذا النص وثيقة ذات دمغة شرعية أصيلة، وكان المقدس الشيخ "عبدالحسين صادق" يختار الممثلين بنفسه ويلقنهم الحوار ويهتم بالديكورات رغم بساطتها في تلك الأيام ويشرف على عمل البروفات ويدقق طويلاً في إجادة التمثيل وإتقانه قبل أن يُعطي موافقته النهائية على العرض في اليوم الموعود، كما قام المقدس الشيخ "عبدالحسين صادق" بشراء أرض بيدر النبطية من مالكه وكان رجل نصراني، وخصصه لعمل المشهدية، واستمر من بعده نجله المقدس الشيخ "محمد تقي صادق" (١٨٩٦ - ١٩٦٥م) الذي حافظ بجهدٍ جهيد على إتقان المشهدية كما تركه المقدس والده، وفي عهد المقدس الشيخ (جعفر محمد تقي صادق) (١٩١٨ - ١٩٧٧م) تمّ تعديل تشخيص عاشوراء لأن تكون مسرحاً متطوّرًا وعصريًّا بممثّلين محترفين ومخرجين معروفين. وأخيراً، استلم زمام الأمور سماحة مفتي النبطية الشيخ "عبدالحسين جعفر صادق" (مواليد ١٩٤٧م)، فحدثت القفزة المذهلة في مختلف جنبات المشهدية العاشورائية، وأصبحت نموذجاً يُحتذى به في الأعمال المسرحية المشابهة ذات الدلالة الدينية والتاريخية، فنراه حفظه الله يشرف على أدق تفاصيل المشهدية ويواكبها منذ لحظة وضع الملامح الابتدائية للعمل الملحمي الضخم، ويُيسر لهم كل متطلبات النجاح والتفوق. وأخيراً، كان حاضراً بالأمس تحت أشعة الشمس اللاهبة برفقة فضيلة الشيخ (أحمد صادق)، جالساً بين أحبائه الجمهور العريض القادم من مختلف قرى وبلدات جبل عامل الأشم، فكان سماحته مُصغياً بأهتمام بالغ لكل شاردة وواردة في عمل المشهدية العظيمة، فجزاه الله عنا خير الجزاء وأطال الله وبارك في عمره المديد.
المشهدية في هذه السنة (٢٠٢٤م)، كانت بإدارة المخرج القدير (علي بيطار) الذي سخر أحدث ابتكارات تكنولوجيا الفن المسرحي المعاصر، بما فيها صقل الصوت الملائم سواء للممثلين أو للراوي، مع الموسيقى المصاحبة والمعبرة لوقع الحدث، وإظهار المهارة الفائقة بإختيار الملابس والاكسسورات الخاصة بعصر الاحداث الطبيعية للفاجعة، مع إجادة اختيار الممثلين الكفوئين الذين ظهروا بإبداع قل نظيره في التجسيد الفذ للشخصيات التاريخية الفريدة من حيث الالقاء بلغة عربية فصحى وتقمص الدور المطلوب منهم مع ظهور التعابير والحركات الجسدية في أروع صورها وتجلياتها وخاصة أثناء تداعيات المعركة وفن النزال بالسيف، مع ملائمة اعداد الممثلين الثانويين والكومبارس بالحد الادنى لإخراج المشهدية بالشكل المرضي المقبول، ناهيك عن الديكورات التي كان وقّعها معبراً للزمان والمكان وناسبت بشكل جيد البيئة الصحراوية حيث مسرح الأحداث، من وجود الخيام، وحرق احداها كتعبير رمزي عن حرق الخيام، وتكوين جدول مياه كناية عن شط الفرات، حيث احداث احد المشاهد المُعبر عن التضحية والإيثار، ووجود شجر النخيل رمز الصحراء وبلاد العراق، وخلفية قصر الامارة في الكوفة، ولكن سمعت همسات بها بعض التذمر من المشاهدين الذين كان موقعهم على يمين المسرح، حيث كان قصر الامارة مختفي تماماً عنهم، فيا حبذا لو يصار إلى اعتماد الشكل الأفقي للمسرح بدلاً من الشكل (U)، كي يتمكن جميع الحضور ومن مختلف الجهات من مشاهدة احداث المشهدية دون خلل يذكر.
والكلمة الفيصل بالمشهدية كلها، كانت للعمل الجبار المحترف بالإدارة والسيطرة على الخيول في المشهدية، فمن المعروف أن الخيول لها جموحها المفاجئ والذي يخرج عن السيطرة في بعض الأحيان، وخاصة في الأعمال التي يكون عرضها مباشرة عالجمهور، وليس الأعمال التصويرية التي يمكن التحكم بها من خلال المونتاج أو اعادة التصوير مرات عدة للحصول على النتيجة المطلوبة، ولكن في عرض المشهديات والمسرحيات الأمر مختلف جداً، فهو بلا شك عمل جبار يتطلب الجهد والمثابرة والصبر، ليرتقي هكذا عمل إلى المستوى الملائم لفعاليات المشهدية، والذي ظهر بتظافر الجهود المثمرة بين الخيالة الممثلين المهرة والقائمين المحترفين على إدارة وإخراج المشهدية لهذا العام، مع ملاحظتين بسيطتين أن أحد الأحصنة جمح قليلا ولكن شجاعة وخبرة الفارس ألجمته وعاد لرشده، وهناك حصان أُفلت من عنانه، فعاد لوحده فوراً إلى خلف الكواليس، وعموماً هكذا أشياء متوقع حصولها بل تعتبر مقبولةً جداً، وخاصة أن مدة عرض المشهدية ساعتين متتاليتين بدون فاصل أو استراحة.
ولا يسعنا في هذه المناسبة، إلا أن نتذكر بالرحمة والدعاء للمربي الكبير والفارس الماهر للمشهديات العاشورائية في النبطية منذ عام (١٩٦٩) إلى عام (٢٠٢٣)، الاستاذ الموقر الحاج (علي احمد طقش) (استاذنا النبيل لمادة التربية الرياضية في كلية مرجعيون الوطنية خلال مطلع سبعينات القرن الماضي) والذي ارتحل عن عالمنا الفاني قبيل بضعة أشهر، حيث جسد خلال مسيرته الحسينية أغلب الشخصيات الرئيسية في فاجعة كربلاء، ولم يتوانى أبداً عن القيام بكل ما يُطلب منه في سبيل إنجاح هذا العمل الملحمي الفذ، فقد أمضى ٥٤ عاماً مشاركاً في تمثيل مشهدية عاشوراء في النبطية:
* ١٩٦٩ - ١٩٧١: في دور علي الأكبر (ع)
* ١٩٧٢ - ١٩٨٥: في دور عبيد الله ابن زياد
* ١٩٨٦ - ١٩٨٨: في دور الإمام الحسين (ع)
*١٩٨٩ - ٢٠٢٠: في دور عبيد الله ابن زياد
*٢٠٢١ - ٢٠٢٣: في دور حبيب ابن مظاهر (رض) .
وفي الختام نتقدم بالشكر الوفير إلى قريبنا "الشيخ أبو حسن" على حُسن ضيافته لنا، حيث غصت دارته العامرة بالعشرات من الضيوف الأحباب من أهلٍ وأقاربٍ وأصدقاءٍ، وفي مقدمتهم المهندس الاستشاري (صادق الشيخ محمد تقي عبدالحسين صادق) فقد قام أهل الدار برفادتهم جميعاً على أكمل وجه وأتم تكريم، فجزاهم الله عنا كل خير وفي ميزان حسناتهم بإذنه تعالى.
أحمد مالك عبدالله
النبطية في (١٨ تموز ٢٠٢٤)
تعليقات: