عيترون: مملكة التبغ وجارة المالكية وحكايات جنون أهلها

دمر أكثر من مئة منزل تدميراّ كاملاّ في عيترون (Getty)
دمر أكثر من مئة منزل تدميراّ كاملاّ في عيترون (Getty)


يغمر "جبل كحيل"، الذي تتقاسمه بلدة عيترون (أو "عثرون") مع جارتها مارون الرأس، بيوتَ ومنازل وحقول عيترون المترامية صوب بنت جبيل وعيناثا وبليدا.

لهذا الجبل المرتفع، ما يقارب 900 متر عن سطح البحر، حكايا تعود إلى الزمن العثماني، ومثلها قصص أخرى عن علاقة الجوار والدم مع بلدة المالكية، التي أصبحت ضمن الأراضي الفلسطينية بعد ترسيم الحدود العام 1923، إلى قوافل الشهداء، من يوسف عبد الحسين، الذي سقط أثناء معركة المالكية الشهيرة عام 1948، إلى محمد مصطفى، الذي استشهد قبل أيام بغارة للعدو الإسرائيلي على صفد البطيخ، وصولاّ إلى تصدرها الرقم الأول في زراعة وإنتاج التبغ على مستوى لبنان.


تنوع سياسي وطاقات علمية

تعيش بلدة عيترون، في قضاء بنت جبيل، التي يبلغ عدد سكانها المسجلين حوالى ثمانية عشرة ألفاّ، من بينهم آلاف المهاجرين والمغتربين إلى أستراليا وكندا وألمانيا وغيرها من دول العالم، حرباّ بكل عناصرها، فاستشهد 15 شخصاً، بينهم ثلاثة أطفال، ودمر أكثر من مئة منزل تدميراّ كاملاّ في أطرافها ووسطها، وتم تهجير أهلها وحرق وإتلاف زرعها وتلويث تربتها.

ليست هذه الحرب (حرب الإشغال والإسناد) التي أنهت شهرها العاشر، سوى واحدة من محطات الحروب والاعتداءات الإسرائيلية، التي شهدتها عيترون المزروعة مساكنها وأشجارها، على مساحة 13 مليون متر مربع، قسم كبير منها تزرع بالتبغ والقمح وسواهما من الخضار والفواكه.

التصقت عيترون، وهو إسم سرياني- آرامي، مؤلف من كلمتين Catia-Run، أي المنازل المرتفعة ، منذ نشأتها بفلسطين. فلها حدود جغرافية مباشرة مع المالكية، التي أقيمت على أنقاضها مستعمرة " ماليكاه"، وصلحا التي تجثم على أرضها مستعمرة "أفيفيم". وكان الكثير من شبابها وبناتها، قبل العام 1948، يعملون داخل فلسطين ومنها حيفا. وقد بقيت الحدود بين البلدة والأراضي الفلسطينية حتى أواخر الستينيات، من دون أسلاك وسياجات. فكان أولاد عيترون " يغزون" بساتين التفاح والإجاص والدراق، باعتبارها أراضٍ تاريخية، وللعديد من أجدادهم عقارات في المالكية، سلخت عن عيترون إبان ترسيم الحدود.

قدمت هذه البلدة، التي يوجد فيها تنوع سياسي وحزبي وطاقات علمية موزعة في لبنان وخارجه، إلى جانب إمكانات اقتصادية، خيرة من شبابها في مواجهة العدو الإسرائيلي من دون انقطاع، في محطات مختلفة بدأت 1948 وامتدت إلى الأعوام 1969 و1976 و1982، مروراّ بعدوان تموز 2006، حيث سقط نحو 25 شهيدة وشهيداّ.


المختار فقيه: خسائرنا كبيرة

خسر حسيب فقيه، وهو أحد مخاتير عيترون السبعة، موسم التبغ، كسائر مزارعي بلدته والجوار، لعدم تمكنه من زراعة أرضه بفعل العدوان الإسرائيلي .ويقول المختار فقيه، "أنا مزارع أباّ عن جد، وزراعة التبغ في بلدتنا، تشكل مصدر عيش أساسي لمئات العائلات، التي علمت أولادها من مردود هذه الزراعة، التي كانت إلى وقت قريب زراعة عائلية بإمتياز".

ويضيف فقيه لـ"المدن"، أن عيترون جريحة بفعل الدمار الهائل الذي حل ببيوتها وشوارعها وأرزاقها، ونزوح أهلها المنتشرين في كافة قرى الجنوب، واستشهاد ثلة من أبنائها. مؤكداّ بأنه يستغل حالات الهدوء أو مناسبة تشييع الشهداء لتفقد البلدة وشوارعها التي تفتقد دوس أبنائها.


جبران بعلبكي وتفاح المالكية

كانت ثمار الفاكهة التي زرعها المستوطنون الإسرائيليون في المالكية تستفز أولاد بلدة عيترون، الذين كانوا لا يعرفون سوى شتلات التبغ وسنابل القمح. وكان غياب الأسلاك الشائكة في تلك المرحلة، يسهل على الكثير من الفتية، الفوز بكميات من الإجاص أو التفاح الأحمر.

في إحدى المرات، وكان ذلك في العام 1965، وبعد غزوات عدة لبساتين التفاح في منطقة " الشقة"، كمن جنود الاحتلال الإسرائيلي، بعد وشاية من المستوطنين، لعدد من أولاد عيترون، الذين كانوا يرددون: "يا يهودي يا إبن الكلب مين قلك تنزل علحرب".

كان جبران بعلبكي، الذي تشرّب الثورية من والده أبو جبران، واحداّ من مجموعة من الأولاد، أعمارهم لا تتجاوز العاشرة، يحاولون قطف الإجاص والتفاح في المالكية، فأعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدداّ منهم.

يقول بعلبكي لـ"المدن"، كنا مجموعة من الأولاد، وهي ليست المرة الأولى التي كنا فيها نجتاز المنطقة، وفيما كنت على إحدى الشجرات فاجأني جندي إسرائيلي، وقال لي: إنزل خبيبي عن الشجرة، وحاول إجلاسي على جبّ من الأشواك، وعندما رفضت صفعني صفعة قوية، بعدها قادني مع زميلي إبراهيم عيد، إلى إحدى الغرف داخل المستوطنة وجاء الاولاد المستوطنون للتلصص علينا.

ويكمل بعلبكي، على ضوء ذلك بدات الاتصالات من الجانب اللبناني مع الأمم المتحدة (فريق مراقبي الهدنة) إلى أن أطلق سراحنا بعد 4 أيام، سبقها قيام خبير من الأمم المتحدة بتخمين الخسائر المتكررة في البستان، وتم تخمينها بـ500 ليرة لبنانية، ألزم والدي ووالد زميلي عيد بدفعها، عبر الأمم المتحدة. وأذكر بأن جدي قد باع ثوراّ من أجل تسديد هذا المبلغ الكبير حينها. مضيفاّ، أن الشرطة العسكرية اللبنانية، التي تسلمتنا من الأمم المتحدة، قد رفستنا داخل سيارة الجيب، أثناء نقلنا إلى البلدة.


الثروة الحيوانية

كانت عيترون تغتني بأكبر عدد من المواشي في الجنوب، لا سيما الأبقار، وكان فيها معملان كبيران للحليب، يؤمنان فرص عمل كبيرة، أحدهما تابع للبلدية، وتوقف كلياً عن العمل، وآخر يملكه أحد أبناء البلدة، الذي نقل العمل إلى منطقة البقاع.

ودفعت الاعتداءات الإسرائيلية على البلدة مربي الأبقار إلى إخراج أبقارهم، التي كان يقارب عددها 400 رأس، وقد عمد غالبيتهم إلى بيعها بعد خروجهم من عيترون إلى البلدات المجاورة بأسعار زهيدة جداّ لعدم توفر الزرائب .

أحد هؤلاء المزارعين، إبراهيم خريزات، الذي يواظب على زيارة بلدته لتفقد أحوالها، اضطر إلى بيع قطيع الأغنام الذي يملكه، وأبقى على عدد من الأبقار.

ويقول لـ"المدن"، إن رحلة النزوح بدأت إلى رميش، ثم إلى ميفدون وبيت ياحون والسلطانية وغيرها، ولا تزال مستمرة. مشيراّ إلى أن بعض مربي المواشي لا يزالون في عيترون، رغم كثرة الغارات الإسرائيلية.


حكايا عيترونية

بعد التحرير في العام ألفين، التقيت بالمرحوم الحاج أسعد عيد، الذي كان منزله مقابل بركة البلدة التاريخية، وأثناء محادثة معه لصالح جريدة السفير، حول برك جمع المياه، التي كانت تستخدم بشكل رئيسي لأغراض الزراعة، أخبرني حينها عن قصة طريفة حصلت في البلدة في أوائل القرن العشرين، ومضمونها أن شباناّ من البلدة وتهرباّ من سوقهم إلى الخدمة في قوات "الجندرمة" التركية، انتعلوا مداسات حمراء، وهو حذاء قديم كبير، وشبكوا أرجلهم بعضها ببعض في مياه بركة عيترون، وعند وصول جنود الجندرمة، قالوا لهم لا نستطيع فك أرجلنا، فانسحب الجنود ظناّ منهم أن هؤلاء الشبان غير صالحين للخدمة وغير عقلاء.

معظم الأهالي في البلدة ومن كافة الأجيال يتوارثون ذكر هذه الحادثة، التي حصلت مثيلاتها، عندما أمسك الأهالي الذين يتهربون من ضريبة "الوركة"، بخيطان من الصوف والاستعداد لإزاحة جبل كحيل المرتفع من أمامهم، الذي يحجب البلدة في تلك المنطقة عن مارون الراس وفلسطين، وتكرار عمل مشابه، حين أقدموا على تقسيم البركة بكميات كبيرة من "البلان" الشوكي، لا يمكنه فصل المياه عن بعضها البعض، للادعاء أنهم غير عقلاء.

تعليقات: