“لقد بلغت عقود التزاوج اللبنانيّ السوريّ بعد اللجوء القسريّ34 ألف عقد سواء كان للبنانيّ من سوريّة أو لبنانيّة من سوريّ”. هذا ما أكّده الباحث في الدوليّة للمعلومات محمّد شمس الدين لـ”مناطق نت”. لكن ماذا يعني هذا الرقم في ظلّ احتدام الحملة ضدّ الوجود السوريّ في لبنان وتعاظمه في المدّة الأخيرة، وسط حروب وأزمات تتداخل وتثقل هذا الملف وتجعله شائكًا ومعقّدًا؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الأرقام تلعب دورًا أساسًا في الحملة المتصاعدة ضدّ اللجوء السوريّ، وهذا الرقم بالتأكيد هو من ضمن تلك الأرقام التي غالبًا ما تستعمل في شحن القلق الهويّاتي وتزخيمه، ولها مفاعيل سحريّة في ذلك، في ظلّ غياب أيّ مقاربة موضوعيّة رسميّة تتناول هذا اللجوء وتسعى إلى تنظيمه.
في العودة إلى التاريخ، لا يُعدّ التزاوج اللبنانيّ السوريّ طارئًا، ولم يبدأ مع اللجوء الناتج عن الحرب الدامية التي شهدتها سوريّا منذ 13 عامًا، بل هو قائم منذ عقود، وناجم من العلاقات الاجتماعيّة والتجاريّة النشطة التي كانت سائدة ما بين لبنان وسوريّا قبل استقلال البلدين، وتحديدًا ما بين مدن بيروت وطرابلس والشام وحلب وحمص، وهو ما يظهر واضحًا من خلال التبحُّر في جذور العائلات اللبنانيّة وأصولها، والتي هي في النهاية خليط كبير من الجنسيّات والقوميّات والإثنيّات والأعراق.
هذا التزاوج لم يقتصر على المدن، بل تعداه إلى الأطراف بفعل القرب الجغرافيّ من جهة، وبفعل العمالة السوريّة المتجذّرة بقاعًا وشمالًا من جهة أخرى، وهي سابقة للأحداث في سوريّا بعقود من الزمن. لكن ذلك التزاوج يتفاوت بين منطقة وأخرى، حيث الدين والمذهب يلعبان إمّا أدوارًا مساعدة في ذلك، وإمّا مانعة له.
بين الحقيقة والارقام
بسبب عدم وجود أرقام رسميّة من جهة، وصعوبة الوصول إليها من جهة ثانية، تصبح الأرقام “وجهة نظر” في ما يخصّ اللجوء السوريّ أو الفلسطينيّ تحديدًا، فتخضع للتضخيم والمزايدات الشعبويّة السياسيّة، من الولادات غير المسجّلة، إلى الاستشفاء على نفقة الأمم المتّحدة، إلى الأفعال المخالفة للقانون، وصولًا إلى نَواحٍ كثيرة.
لا يُعدّ التزاوج اللبنانيّ السوريّ طارئًا، ولم يبدأ مع اللجوء الناتج عن الحرب الدامية التي شهدتها سوريّا منذ 13 عامًا، بل هو قائم منذ عقود، وناجم من العلاقات الاجتماعيّة والتجاريّة النشطة بين السوريين واللبنانيين
يقول رئيس قلم محكمة عرسال السنّيّة الشرعيّة الشيخ محمد كرنبي لـ”مناطق نت”: “التزاوج اللبنانيّ السوريّ ليس جديدًا، بل هو قائم قبل قيام دولة لبنان الكبير، وهذا التزاوج والمصاهرات ناتج عن الجوار والتداخل الاجتماعيّ والجغرافيّ في القرى الحدوديّة”. يتابع: “ارتفعت حالات الزواج بعد العام2011 بسبب توافد ما يزيد على 100 ألف سوريّ إلى بلدتنا، لكن ما يشاع عن أرقام كبيرة لا علاقة لها بالواقع، فنسبة الزواج اللبنانيّ السوريّ في بلدتنا لا تصل إلى نسبة خمسة بالمئة من عقود الزواج المعقودة في المحكمة، أمّا الزواج بدون تسجيل “برّانيّ” فقليل جدًّا جدًّا بسبب المعاملات الرسميّة للأوراق والكلف الماليّة”.
قلبان والحبّ ثالثهما
التجوال بقاعًا في القرى والبلدات الكبيرة والصغيرة، سواء تلك التي تضمّ مخيّمات لجوء، أو تلك التي تشهد على وجود للسوريّين في داخلها، والوقوف على أحوالها، لا بدّ من أن يدلّك على حالات تزاوج كثيرة في حال السؤال عن ذلك.
لم يكن يعرف محمود الطويل الشاب السوريّ ابن الـ26 عامًا، والذي تهجّر من مدينته حمص رفقة أهله في العام 2013 أنّ مستقبله سيكون في لبنان، وتحديدًا في عرسال، حيث تعرّف إلى ابنة البلدة فاطمة الجباوي. لم يكن محمود يفقه شيئًا من تلك الحرب حيث كان عمره أحد عشر عامًا يوم اندلعت، ولم يكن يعلم أنّها ستطول، وأنّه سيكبر في خارج بلده ومدينته وملعب طفولته، وأن الهوى سيجمعه بفاطمة، حيث أقاما خطوبتهما صيف العام 2022 وها هما اليوم على مسافة أسابيع قليلة من زفافهما.
لا يميّز الحب بين جنسيّة وأخرى، أو بين طائفة ومذهب. يقول محمود الطويل في حديث لـ”مناطق نت”: “عندما رأيت فاطمة لأوّل مرّة، توقّف قلبي وعقلي معًا، أدركت أنّني أحببتها، وأنّها أميرة أحلامي، لكنّ عشرات الأسئلة دارت في رأسي مباشرة: هل يحقّ لي الحبّ وأنا غريب؟ هل ستقبل فتاة لبنانيّة الارتباط بي؟ أين سنقيم؟ كيف أفاتحها بحبّي لها؟ أسئلة أرّقتني كثيرًا لكن الحمد لله كانت الإجابات كما تمنّيت واشتهيت”.
أرض ومنزل
يتابع محمود: “عندما ذهبت لمقابلة عمّي تيسير الجباوي والد العروس أعطاني درسًا في الإنسانيّة والمحبّة والأخلاق، قال لي: لا يهمّني إذا كنت سوريًّا أو لبنانيًّا، الذي يهمّني أن تكون “آدميّ”، سوف نتعرف عليك والله يقدّم اللّي فيه الخير”. يردف محمود: “بعد فترة تعارف على فاطمة وأهلها، تمّ النصيب، عقدنا خطوبتنا، وأخبرني عمّي أنه سيعطينا قطعة أرض نبني عليها منزلًا صغيرًا لنا”.
ويشير إلى أنّ حماه أخبره أنّه “حتّى لو عدتم إلى سوريّا يبقى لكم بيتكم هنا، تبيتون فيه عندما تقرّرون زيارتنا. لقد ربحت عروسًا أحببتها، لكنّني ربحت كذلك أسرة ثانية تعاملني معاملة الأب والأم لابنهما، وبإذن الله هكذا سأكون”.
أمّا فاطمة ابنة الـ20 عامًا، تقول في دردشة مع “مناطق نت”: “عندما فاتحني محمود بحبّه لي لم أكن أملك جوابًا، لم أعرف ماذا أقول له، فهو شاب مهذّب لطيف، تحدّث معي بكلِّ احترام وتقدير، هذا زادني إعجابًا به، لكن ماذا سأقول لأهلي؟ هل يقبلون تزويجي من شابّ غريب؟ المفاجأة السارّة كانت الدعم الكامل من أهلي، وشرطهم الوحيد أن يكون “آدميًّا ومحترمًا” والحمد لله هو هكذا علاقتنا مميّزة وعرسنا بات قريبًا”.
بسؤالنا لفاطمة حول ردّة فعل صديقاتها ومعارفها قالت بثقة: “نعم كثيرون حاولوا الغمز واللمز، قالوا لي “ييّ بدّك تخطبي سوريّ؟” جوابي كان بسيطًا جدًّا، يهمّني رأي قلبي وموافقة أهلي، أمّا غيرهم فلست مجبرة على التبرير لأحد، حياتي ملك لي وحدي، أعيشها مع إنسان يحبّني وأحبّه، يحترمني وأحترمه، الزواج بحاجة للحبّ والاحترام والثقة، وهذه الأمور في القلوب والسلوك وليست في بطاقات الهويّة وجوازات السفر”.
نماذج “باب الحارة”
غالبًا ما تلعب الشاشات (مسلسلات وأفلام) أدوارًا مسيئة للآخر من خلال “التنميط” الذي يكون في معظم الأحيان مغايرًا للواقع، وهو ما نراه في بعض المسلسلات التي تسعى إلى تكريس صورة نمطيّة عن الفتاة السوريّة تشبه بيئة الحارات الشاميّة القديمة، حيث السوريّات مطيعات، يفتّشن عن الاستقرار، الأمان، يهتممن بالرجل وفق نظريّة “أمرك ابن عمّي”، لكنّ الواقع غير ذلك تمامًا.
عبد العزيز الحجيري الرجل الأربعينيّ، أب لفتاة وطفل صغيرين، وقد فقد زوجته الأولى أمّ أولاده، يقول في دردشة مع “مناطق نت”: “بعد فقدان زوجتي الأولى كان همّي إيجاد زوجة تتقبّل ولدَيّ ونعيش معًا كعائلة واحدة، وهذا ما حصل حيث تعرّفت إلى سيدة سوريّة وتزوجتها، منذ سنتين ونصف السنة، أنجبت لي طفلًا، تتعامل مع أخويه كأنّها أمّهما، لا أخاف تركهما معها، بل علاقتهما معها أفضل من علاقتهما معي. دائما تقول لي: “غير محبّتهما لي بيلحقني فيهن ثواب”، الحمدلله نعيش بهدوء وراحة بدون مشاكل، وهذا ما يهمّني، فالزواج هدفه الاستقرار والأمان وبناء عائلة متفاهمة يحترم أفرادها بعضهم”.
لا شرعيّة لا قانون لا دولة
لا يغيب عن المتابع أنّ أصعب مشاكل الزواج في لبنان، هو زواج اللبنانيّة من أجنبيّ، فهي وبذريعة محاربة التوطين، لا تستطيع منح الجنسيّة لزوجها وأطفالها، تعاني لأجل تأمين الإقامة لهم، خصوصًا إذا كان الزوج سوريًّا أو فلسطينيًّا.
ميساء ف. سيّدة لبنانيّة اقترنت بشابّ فلسطينيّ مقيم في سوريّا، بعد مشاكل الحرب هناك لجأت إلى لبنان، طمعًا بالحفاظ على حياة زوجها وأطفالها، لكن المعاناة لم تتركها.
تقول في حديث لـ”مناطق نت”: “نعيش في ظلّ دولة تتباهى بالحرّيّة والديموقراطيّة المزيّفة، نفقد أهمّ حقوقنا كنساء لبنانيّات مقابل ما يُسمّى حرّيّة التعبير، بحيث أصبحت الجنسيّة أحد الموضوعات المعقّدة في دائرة الحقوق المدنيّة، فهي التي تُعطي المرأة الصفة القانونيّة في الحقوق والواجبات، وفي اكتساب المواطنة الكاملة”.
لا أريد مواطنتي بلا جنسية لأولادي
وعدّدت ميساء التمييز ضدّ المرأة اللبنانيّة بنقاط ثلاث: الأولى، عدم إمكانيّة منح الأمّ اللبنانيّة جنسيّتها لأولادها، بما أنّ القانون اللبنانيّ يمنح الجنسيّة بحصر قرابة الدم بالأب، وبذلك تكون المرأة محرومة من حقّها كمواطنة. والثانية، عدم إمكانيّة منح الزوجة اللبنانيّة جنسيّتها لزوجها الأجنبيّ. أمّا الثالثة، فالتمييز بين الأمّ اللبنانيّة الأصل والأم الأجنبيّة التي اكتسبت الجنسيّة اللبنانيّة بالزواج من لبنانيّ.
تتابع ميساء: “هذا التمييز هو أحد أوجه الخلل في قانون الأحوال الشخصيّة اللبنانيّة، أمّا ردود فعل السياسيّين المتعلّقة بقانون الجنسيّة فهي عنصريّة بغيضة. أنا كإمرأة لديّ مخاوف كثيرة، صراع اجتماعيّ نفسيّ حول هويّتي ومواطَنتي، الحيرة تقتلني، لكنّني في النهاية مجبرة على الاختيار، فهل أختار هويّتي اللبنانيّة أو مستقبل عائلتي؟ بالتأكيد كأمّ أجدني ملزمة بالتخلّي عن صفتي وهويّتي كمواطنة لبنانيّة لصالح عائلتي، في ظلّ قانون جائر غير منصف، بل عنصريّ بامتياز. دائما أقولها: لا أريد مواطَنتي بلا جنسيّة لأولادي”
صورة تعبيريّة (من موقع صور)
مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال
تعليقات: