لاجئات سوريّات يصارعن من أجل البقاء والاستمرار


دأبت أدبيّات النسويّة العربيّة على الكلام عن القهر المزدوج، الذي تعانيه المرأة الشرقيّة داخل جدران المنزل وخارجه. يزداد هذا القهر في الأحوال الطبيعيّة داخل ما يسمّى المجتمعات المحافظة، ويأخذ هذا الكلام بعدًا آخر مع الأزمات والحروب.

ما أن أطلّت الأزمة أو الثورة أو الحرب السوريّة برأسها، حتّى كانت المآسي وعمليّات اللجوء إلى البلدان المجاورة، فاضطر 2,8 مليون شخص إلى الفرار من مناطقهم، ويشكّل النساء والأطفال أربعة من كلّ خمسة أشخاص من بينهم تقريبًا، وذلك وفق المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين.

لقد بدّلت الحرب حياة الناس من جميع النواحي، ما اضطّر النساء لاستلام زمام الأمور، بعد أن فقدن كثيرًا من الرجال أو تركنهم في البلد، وكان عليهن اتّخاذ جميع القرارات، وجني المال وتأمين كامل الرعاية للأسرة. ووفق المفوّضيّة يدير أكثر من 145,000 لاجئة سوريّة البيوت بمفردهنّ، أيّ أكثر من ربع العدد الإجماليّ البالغ نصف مليون امرأة. هذه التجربة كانت صعبة على معظم النساء، إذ تعرّضن لضغوط مادّيّة زادت من مسؤوليتهنّ داخل المنزل وخارجه، وضغوط نفسيّة ناجمة من تغيير الأدوار، وزاد لديهنّ الشعور بالاكتئاب ولا سيّما عند اللواتي يدرن أسرًا.

وفق المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين يدير أكثر من 145,000 لاجئة سوريّة البيوت بمفردهنّ، أيّ أكثر من ربع العدد الإجماليّ البالغ نصف مليون امرأة

وقد خلص مسحٌ لأماكن اللجوء في لبنان، أجرته المفوّضيّة في شهر آذار/ مارس 2014، إلى أنّ 40 في المئة من اللاجئين يعيشون في ملاجئ دون المستوى المطلوب. ويتقاسم ما نسبته 42 في المئة منهم المسكن. ويقول فينسنت دوبين، كبير المسؤولين عن شؤون أماكن اللجوء في المفوّضيّة في لبنان: “في مثل هذه الظروف الحياتيّة القاسية، حيث تنخفض درجة الخصوصيّة والحماية من عوامل الطبيعة، تتعرّض النساء وعائلاتهنّ لمخاطر صحّيّة وجسديّة، تزيد طبعًا من عبئهنّ العاطفي. كان على النسوة السوريّات اللاجئات أن يخضن صراعًا مريرًا من أجل البقاء”.


متكيّفات قانعات

متكيّفات، صبورات، مدبّرات، قانعات، راضيات.. مصطلحات عكست صورة حقيقيّة عن النساء السوريّات اللواتي نزحن إلى لبنان على اختلاف أوضاعهنّ الاجتماعيّة، مطلّقات، أرامل، طالبات، سيّدات منازل، فتيات في مقتبل العمر. جميعهنّ انخرطن في أعمال متنوّعة لمواجهة أعباء المعيشة، مقابل أجور زهيدة. هكذا بات قبول نساء كثيرات بأجور متدنّية مقابل عملهنّ، سببًا في وقوعهنّ فريسة الطمع والاستغلال من قبل أرباب العمل.

تعمل “آية” في متجر لبيع الملبوسات الجاهرة، من الساعة التاسعة صباحًا حتّى التاسعة ليلًا، مقابل مبلغ مئة دولار شهريًّا، ولا تفرّط آية بشيء من راتبها، إذ عليها أن تساهم مع والدها في سداد إيجار الغرفتين المستأجرتين، اللتين تضمّانها إلى أخوتها الخمسة، وكذلك تفعل كلّ من آلاء، وشادن وسلوى، وكثيرات ممّن ارتضين العمل في محال ومؤسّسات متفرّقة في لبنان.

أمّا النساء اللواتي لم يفلحن في إيجاد عمل في شركات ومحال خارج المنزل، فقد اتّجهن إلى مهن أخرى مثل إعداد المؤن والمكدوس، فيما عملت نساء في تحضير الأطعمة (كبب، لفّ ورق عريش، فرم خضار) بأسعار يعتبرها اللبنانيّون زهيدة وأقّل بكثير من الجاهز.

لم يشفع للنساء السوريّات اللواتي يعملن في تنظيف المنازل صيتهنّ بأنّهنّ “نظايفيّات ومتل التلج”، في رفع بدل أجرة الساعة، إذ بقيت ثلاثة دولارات لكثيرات منهنّ، فيما نجحت بعضهنّ في أن يحصلن على أجر خمسة دولارات مقابل الساعة، أسوة بالعاملات من جنسيّات أخرى.


مدبّرات منازل

لا تعمل كلّ النساء السوريّات خارج منازلهن، إلّا أنّ ذلك لا يعفيهن من مسؤوليّات كبيرة عليهنّ تحمّلها، في ظلّ وضع اقتصاديّ صعب، فمعظم الرجال ليس لديهم أعمال ثابتة، وكلّ ما يتقاضونه بالكاد يسدّ رمق عائلاتهم وأخوتهم الباقين في سوريّا، كما قالت خديجة (اسم مستعار) لـ”مناطق نت”: “زوجي مُجبر أن يرسل كلّ شهر مبلغًا من المال إلى أهله في سوريّا حتّى يستطيعوا مواجهة الأزمة هناك”.

في حالٍ كهذا، يتوجّب على النساء أن يتكيّفن مع ما ينتجه أزواجهنّ، تتابع خديجة: “لا أجادل، وأرضى بما يخصّصه لي، وأفهم أنّه عليّ تدبّر أمري بما هو متاح”. النساء عليهنّ أيضًا أن يقنعن الأولاد بما هو موجود من دون تأفّف. تقول رحمة (اسم مستعار) لـ”مناطق نت”: أطبخ ليومين، بعض الطعام بلحم وبعضه الآخر من دونه، وذلك بحسب ما يتيسّر معي من مصروف”. وتشير إلى أنّ “التأفّف من الأولاد ممنوع، والقول إنّ الطعام لا يعجبهم ممنوع أيضًا”.

لا تعمل كلّ النساء السوريّات خارج منازلهن، إلّا أنّ ذلك لا يعفيهن من مسؤوليّات كبيرة عليهنّ تحمّلها، في ظلّ وضع اقتصاديّ صعب، فمعظم الرجال ليس لديهم أعمال ثابتة وكلّ ما يتقاضونه بالكاد يسدّ رمق عائلاتهم

لا يختلف وضع سناء التي التقتها “مناطق نت” عما تعيشانه خديجة ورحمة، فتقول: “في حال لم يعجب ابني طبخة معيّنة، أحضر له صحن بطاطا ليس أكثر”. تتابع: “نذهب إلى السوق لنشتري الضروريّ واللازم ونختار ما يتناسب مع حالتنا”. أمّا بالنسبة لشراء الثياب فتقول: “من العيد إلى العيد، لكن ليس في كلّ الأحيان، فالثياب تنتقل من الأكبر إلى الأصغر منه وهكذا نعمل على تيسير أمورنا”.


عاملات في القطاع الزراعيّ

تختلف معاناة النساء العاملات في القطاع الزراعيّ (في سهلي عكّار والبقاع) عن سواهن من النساء، إذ إنّ طبيعة العمل نفسه تتطلّب جهدًا أكبر، مقابل بدل زهيد جدًّا يبلغ ثلث ما يتقاضاه العامل اللبنانيّ، وذلك وفق ما يقتضيه نوع العمل والذي يتنوّع ما بين زرع وقطاف وتسميد ونكش.

ولا تنتهي مشقّة النساء ومعاناتهنّ بانتهاء دوام عملهنّ الذي يتجاوز في معظم الأيّام عشر ساعات، بل إنّ عليهنّ أن يؤمّنّ متطلّبات أولادهنّ الذين تركنهم طوال النهار.

تترك نسيمة 25 عامًا، أطفالها الأربعة: سنتان، ثلاث سنوات، أربع وستّ سنوات في عهدة ابنتها نغم البالغة من العمر تسع سنوات. وتساهم طبيعة سكن العاملات في القطاع الزراعيّ في ازدياد معاناتهنّ، إذ إنّ معظمه مؤلّف من خيم وغرف غير مسقوفة بالأسمنت، ومن دون مرافق صحّيّة داخليّة، تتحّول في الصيف إلى كتلة نار، وفي الشتاء تتسرّب من جوانبها وأسقفها مياه الأمطار، وتموج أرضها بالوحول.


عنف واغتصاب

لم يرتبط العنف القائم على النوع الاجتماعيّ ضدّ النساء يومًا بالحرب، بل بما أفرزته من مشكلات متشعّبة من نزوح، تغيير سكن، أزمات مادّيّة، موت أحد أفراد الأسرة. هذه الأسباب زادت من حدّة وتيرة هذا العنف. فقد وجدت نساء وفتيات سوريّات صغيرات أنفسهنّ فجأة في مواجهة حياة جديدة، عليهنّ أن يتحمّلنَ أعباءها بعد أن خضعنَ في السابق لتقاليد اجتماعّية حرمتهنّ من العمل والتعليم والخروج من المنزل، فتعرّضت كثيرات منهنّ في إبّان نزوحهنّ إلى الاستغلال الجنسيّ والمادّيّ. سواء في مجتمعاتهنّ أو في المجتمعات المضيفة.

وقد عمد أهالي إلى تزويج بناتهنّ القاصرات واللواتي تراوح أعمارهنّ ما بين 14 و15عامًا لقاء مهر، بحجّة أنّ الزواج ستر، ومنهنّ من أجبرن على الزواج من رجل متزوّج ولديه عائلة، وخصوصًا الأرامل والمطلّقات، وكثيرات تعرّضن للتحرّش الجنسيّ والاغتصاب.

تقول دلال 24 عامًا (اسم مستعار) وهي أرملة ولها طفلة (سوزان عمرها ثماني سنوات) لـ”مناطق نت”: “تزوّجت من محمّد 34 عامًا وهو لديه زوجة وأولاد. أنجبت منه طفلين (أميرة ثلاث سنوات ونصف السنة وعُمر ويبلغ 11 شهرًا”. تعيش دلال من عملها في تنظيف المنازل في البناية التي تسكن فيها مع محمّد، الذي لا يكفّ يومًا عن تعنيفها وضربها، والطلب إليها أن تعمل أكثر قائلًا لها: “المرا مش لازم تتستّت وتقعد، بتعفِّن”.

لا يساهم محمّد في مصاريف المنزل، حتّى أنّه لا يكلّف نفسه الجلوس مع الأولاد في أثناء عمل زوجته التي عليها أن تتدبّر أمورها بنفسها.

تتحايل دلال على وضعها الصعب وتشير إلى أنّها تضع لابنها عمر ألعابًا على جهاز الهاتف، وتتركه وحيدًا مع اخته أميرة، “أغلقُ الباب بإحكام، وأتفقّدهم كلّ نصف ساعة. ماذا أفعل؟ ليس في اليد حيلة” تختم دلال.

لاجئات سوريات في مخيمات لبنان (الصورة من موقع مهارات)
لاجئات سوريات في مخيمات لبنان (الصورة من موقع مهارات)


تعليقات: