تكرّرت حوادث التحرّش الجنسي الجماعية أخيراً في إجازات الأعياد ومناسبات أخرى متنوّعة، وأعادت طرح القضية للمناقشة في المجتمع، وخاصة أن بعض الضحايا أصبحن أكثر جرأة في المواجهة والتصدي والمطالبة بحقهنّ. كانت حوادث التحرش الجنسي الجماعي التي وقعت في إجازة عيد الفطر في عام 2006 صدمة حقيقية للمجتمع المصري: تجمّعات من المراهقين بالمئات تختتم نزهة العيد في أكبر ميادين العاصمة وشوارعها بالهجوم على أيّ فتاة عابرة بالشارع وتمزق ملابسها وتعتدي عليها في مشاهد لم يعتد المجتمع رؤيتها من قبل.
الردود الرسمية جاءت أكثر غرابة من الحدث نفسه. فوزارة الداخلية في بيانها أكدت أنها لم تتلقّ أيّ بلاغ بخصوص هذه الأحداث رغم أنه تمّ تصويرها بكاميرات هواة وبثّها على الإنترنت ونشرها في الصحف، ولم يعد من الممكن تكذيبها أو التقليل من شأنها. وسائل الإعلام شبه الرسمية حمّلت الراقصة دينا مسؤولية الأحداث، بزعم أن رقصتها أثناء افتتاح أحد أفلامها في القاهرة قد أدّت إلى إثارة الشباب، إضافة إلى الكثير من الأحاديث التي رأت في السفور، وتراجع القيم الدينية والأخلاقية، وما تبثّه الفضائيات من برامج إثارة، محرّكاً لهذه الظواهر الغريبة على المجتمع. الحوادث التي وقعت في إجازة عيد الفطر أعادت إلى الأذهان حوادث الاعتداء الجنسي على المتظاهرات ضد التمديد لمبارك في أيار/ مايو 2005 التي قام بها «مسجّلون خطر» (من أصحاب السوابق الجنائية الخطرة) تحت إشراف قيادات الداخلية، والتي جرى تسجيل وقائعها ونشرها على نطاق واسع.
ومع ذلك، قرّرت النيابة حفظ التحقيق في الواقعة التي ظهرت فيها بوضوح وجوه الجناة في المشاهد المصورة، والتي طالب الضحايا بالتحقيق فيها دون جدوى.
تفجر قضية التحرش الجنسي، سواء الجماعي أو الفردي، وطرحها للنقاش على نطاق واسع في المجتمع جلب معه عدة صدمات أخرى. حجم الظاهرة كان الصدمة الأولى والأكبر التي أظهرتها بعض استطلاعات الرأي. فقد وصلت نسبة النساء اللاتي يتعرّضن للتحرش الجنسي بصور مختلفة في بعض استطلاعات الرأي إلى أكثر من 80%، نصفهن يتعرضن للتحرش يومياً حسب دراسة المركز المصري لحقوق المرأة. بينما وصلت نسبة الرجال الذين أقرّوا بارتكاب التحرّش الجنسي إلى أكثر من 60%، وهو ما يعني أن النسبة الحقيقية قد تكون أكثر من ذلك.
هذا الاتساع للظاهرة جرى التعامل معه رسمياً بطريقة قد تكون أسوأ من الظاهرة نفسها. فالنقد الأعلى صوتاً رسمياً جاء مرتبطاً بتهديده لتدفّق السياحة على مصر نتيجة التحرش بالسائحات! هكذا اختصرت تأثيرات ظاهرة بهذا الحجم في جانبها الاقتصادي، وبشكل غاية في النفعية، في تجاهل جارح للتأثيرات النفسية والاجتماعية لتفشّي ظاهرة من هذا القبيل على هذا النحو.
والتفسيرات التي قدمتها الصحف القومية هي الأخرى بدت غاية في السطحية، فقد أناحت في أغلبها باللائمة على العري في الفضائيات والإنترنت ووسائل الإعلام، وتراجع القيم الأخلاقية والدينية طبعاً، مع تزايد معدلات البطالة والفقر وارتفاع سن الزواج وتزايد معدلات العنوسة.
هذه التفسيرات تتجاهل بصورة مريبة تزايد التدين في المجتمع على نحو غير مسبوق. فأكبر التيارات السياسية وأكثرها تأثيراً على الإطلاق هو التيار الإسلامي بأطيافه، ونسبة الحجاب بين النساء في مصر وصلت، حسب تقرير لصحيفة «واشنطن بوست»، إلى 80%، والفضائيات الأكثر شعبية هي الفضائيات الدينية، والرموز الأوسع صيتاً في الإعلام هم الدعاة الدينيون في الفضائيات.
وفي فترات أخرى، كانت مظاهر التدين أقل انتشاراً ولم يشهد المجتمع تفشّي تلك الظاهرة على هذا النحو.
اللافت للنظر أن تلك التفسيرات التي قدّمتها الصحافة الرسمية جاءت بعد استبسالها في تجاهل الظاهرة لفترة طويلة وكأنها غير موجودة. الأكثر غرابة هي تلك التفسيرات الشعبية التي تحمّل الضحايا المسؤولية، معتبرة أن المرأة هي السبب في التحرش بسبب الخلاعة وتشجيع الرجال على ذلك. وهكذا لا يعدو التحرش سوى نوع من أنواع العقاب على سوء الخلق. وهو ما تعرضت له مجلة «اليوم السابع» الأسبوعية في أول أعدادها في ملف حمل عنوان «إذا آلمك الحديث عن التحرش، فتذكر الإغواء».
إذا كانت ظاهرة التحرش الجنسي الجماعي والفردي جريمة بالأساس في حق المرأة، فإن التعامل معها على هذا النحو أمر لا يقل إجراماً. فمن تجاهل الظاهرة وإنكارها، إلى الانتباه لتهديدها السياحة دون اكتراث لتهديد أمن وآدمية أكثر من 50% من المجتمع، إلى التناول السطحي المخلّ للظاهرة، والأسوأ على الإطلاق هو تحميل الضحايا المسؤولية. الواقع أنه لا يمكن فهم ظاهرة التحرش الجنسي في المجتمع المصري إلا إذا وضعنا أمرين في اعتبارنا: الأول هو وضع المرأة في المجتمع، والثاني هو تزايد العنف والعدائية.
تكشف ظاهرة التحرش الجنسي وانتشارها السرطاني حسب ما ورد في بعض الإحصاءات والتفسيرات المقدمة على المستوى الرسمي والشعبي، عن رسوخ المفاهيم والقيم الذكورية في المجتمع، وهي التي تعتبر المرأة أداة أو وسيلة للمتعة. فالذين تحدثوا عن الكبت وزيادة البطالة والعنوسة وحتى الإغراء، يتجاهلون أن المرأة أيضاً تخضع لهذه العوامل نفسها، ومع ذلك لا نشهد جماعات من النساء يتحرشن بشكل جماعي وعنيف بالرجال. سيقول البعض إن قيم المجتمع لا تسمح بذلك، وهذا بالضبط المقصود من أن قيم المجتمع الذكورية لا تضع اعتباراً كبيراً لرغبات النساء واحتياجاتهن.
والتحرش هو إذاً فعل من طرف واحد. هكذا تظهر مشاهد التحرش الجماعي عندما ينقضّ عدد كبير من الشباب والمراهقين على فريسة تعبر في الشارع كمشهد اصطياد تقليدي لا يتحقق بين طرفين لهما الطبيعة نفسها.
هذه المفاهيم الراسخة في المجتمع كانت موجودة طوال الوقت، وربما تزايدت بتزايد القيم المحافظة، ولكن لا يمكن اعتبارها حديثة بحال من الأحوال. والتحرش الجنسي سواء بالكلمة أو بالفعل أيضاً، كان موجوداً في المجتمع بدرجاته المختلفة، ولكن كأداء فردي، وبالعادة حذر وخجول. وانفجار الظاهرة على هذا الشكل يحتاج إلى أكثر من القيم الذكورية.
لا يمكن فهم التحوّل العنيف للظاهرة وظهور ما يشبه جماعات التحرش في المناسبات التي تشهد تزاحماً، بمعزل عن تزايد معدلات العنف في المجتمع عموماً. ربما كانت بعض الظواهر التي طفت على السطح في الفترة الأخيرة مؤشراً على تزايد حالة العنف تلك، مثل عصابة أطفال الشوارع التي اصطلح على تسميتها بقضية التوربيني، وقتل عشرة من عائلة واحدة في الصعيد التي عرفت إعلامياً بقضية مختل بني مزار، والعديد من أحداث العنف في طوابير الخبز والبنزين والمواصلات التي أصبحت شبه يومية. ولكن حتى هذه الحوادث لا تعدو كونها إشارات لميزان العنف والعدائية، فيما الحجم الحقيقي للعنف الكامن في المجتمع يمكن أن يتجاوز ذلك بكثير.
وحتى أحداث السادس من نيسان/ أبريل الماضي في مدينة المحلة، والتي تحولت إلى انتفاضة، لم تكن سوى نموذج مصغر لانطلاق ذلك العنف الهائل الكامن.
ربما كانت البطالة والفقر والكبت والعنوسة بمعدلاتها المرتفعة وغير المسبوقة في المجتمع تعدّ محفزات قوية لتصاعد هذه الظواهر، ولكن فقط عندما تغيب آليات استيعاب الغضب وتنظيمه في حركات مناضلة. فنفس هذه العوامل هي التي تحفز الحركات الاحتجاجية والنضال الجماهيري. ولكن عند غياب أو ضعف الأحزاب والقوى السياسية والنقابات والمؤسسات المنوط بها تنظيم حركة الجماهير وقيادتها، فإن الغضب والعداء والعنف يمكن أن تعبّر عن نفسها تجاه الحلقات الأضعف في المجتمع، مثل المرأة والأقليات الدينية والعرقية. ساعتها يستخدم من قيم المجتمع ومفاهيمه أسوأها وأكثرها رجعيةً.
* صحافي مصري
تعليقات: