لم يكن يحتمل الابتعاد الطويل عن بلدته الخيام، فيتحيّن الفرص كي يصعد إليها متأبطًا قصائده الجديدة. وقتذاك في أواخر ستينيّات القرن الماضي، كان ينتظر زحف العتمة حتّى يصعد إلى السطح، ملوّحًا بقنديله، فيتنبّه قريبه علي العبدالله القاطن على مسافة عشرات الأمتار، فيأتي عارفًا أنّ محمّد كتب قصيدة، ويريد منه الإنصات إلى أبياتها، وعلي العبدالله شاعر من كتيبة شعراء آل العبدالله.
لم ينتبه محمّد أن تلويحه بذلك القنديل كان القصيدة المجسّدة.
الخياميّ السندباد
في الخيام الحدوديّة ولد محمّد العبدالله سنة 1946، فانجبل هناك بالتلال والوديان وبلّل ثيابه بـ”الدردارة”، وعرِف العصافير من أصواتها، والزيزان من أجنحتها، وألِف البعوض والعقارب صيفًا، وحشرجات القطط والفئران المرتجفة شتاءً. لذلك فتح عينيه على كامل وسعهما حينما هبط إلى بيروت، لا ليشاهد فحسب، بل ليحفظ حتّى يألَف ويأمن.
هكذا حتى صارت بيروت رفيقته، فينال من جامعتها العربيّة إجازة في الفلسفة سنة 1973، ويستتبعها بشهادة الكفاءة في الأدب العربيّ من كلّيّة التربية في الجامعة اللبنانيّة، وعلى دبلوم الدراسات المعمّقة في الأدب العربيّ، ثم يحوز على شهادة السوربون الثالثة سنة 1977.
بعد ذلك عاد محمّد العبدالله ليغمر بيروت من جديد، ويتّكئ على كتف الخيام. افتتن شاعرنا بمزايا السفر، فبدّد كثيرًا ممّا كان يتقاضاه من التعليم والصحافة في رحلاته الكثيرة، مستلذًّا بهوايته تلك، بينما بدّد القسم الآخر على طاولات القمار التي ألِفها من أصغر مقهى حتّى “كازينو لبنان”، وهو ما كتمه عن مواضيع قصائده ومقالاته، سامحًا لعلاقته بالكأس أن تتسلّل إلى دواوينه بانسيابيّة، مثله مثل سلسلة الشعراء ممّن أخرجوا الخمر من تمظهره الفيزيائيّ نحو فضاءات الشطح الصوفيّ.
جرأة القصيدة وغرائبيّتها
مثلما كانت حياته غرائبيّة وأفكاره مشاكسة، كانت قصيدته جريئة ولا مبالية، مزج فيها المحكيّ بالفصيح، ومثلما قارب التفعيلة والنثر في الديوان عينه، كذلك تفنّن بعناوين دواوينه مثل “بعد ظهر نبيذ أحمر… بعد ظهر خطأ كبير”، أو قصصه، مثل “البيجاما المقلّمة”.
“هو إنسان مختلف” توصيف يجمع عليه كلّ من رافق العبدالله أو تابع أعماله، فكان التفرّد سمة في أصل جبلته دون افتعال أو انتحال للنماذج السورياليّة التي عرفها جيّدًا، ولم يسقط في فخّ استلباسها، فبقي هو المغرّد المتفرّد.
شعره المغنَّى
كثيرة هي قصائد محمّد العبدالله التي غنّاها مارسيل خليفة ولم يعرف الناس اسم كاتبها، على عكس شهرة قصائد محمود درويش وشوقي بزيع وطلال حيدر التي عرف الناس أصحابها بأسمائهم وصورهم. حتّى حسن العبدالله عُرِف بقصيدة “أجمل الأمهات”، وعبّاس بيضون بـ”يا علي”، بينما شهرة محمّد كانت أقلّ، وهو الذي كتب “الجريدة”، و”من هنا تبدأ الخارطة”، و”من الموج للثلج نأتيك”، وصولًا إلى “للذي قلبي الآن تفّاحة في يديه/ للذي قلبي الآن كرة بين رجليه/ للذي لو نام/ روحي ترفرف مثل فراشة فوق سريره”.
أمّا أميمة الخليل فقد غنّت له واحدة من أرقّ الاغنيات الرومانسيّة: “وقلت بكتبلك /هيك كانوا يعملوا العشّاق/ هيك كانوا يولّعوا نارن على تلج الأوراق”.
“هو إنسان مختلف” توصيف يجمع عليه كلّ من رافق العبدالله أو تابع أعماله، فكان التفرّد سمة في أصل جبلته دون افتعال أو انتحال للنماذج السورياليّة التي عرفها جيّدًا، ولم يسقط في فخّ استلباسها، فبقي هو المغرّد المتفرّد
بينما غنّى أحمد قعبور من كلماته: “شو بعاد.. بعاد/ متل تنين متل كفّين ع مفرق/ بيلّوحوا متل السفينة قبل ما تغرق/ شو بعاد .. بعاد/ متل عينين ما بيلتقوا إلّا بالمراية/ وبيناتنا في قزاز/ وفي زمن هزّاز/ صورة ع صورة بتمحيها/ وورق الهوى عم يرميها”. كذلك كتب لقعبور “نحنا الناس” التي تمّ تصويرها كـ”فيديو كليب” من إنتاج تلفزيون المستقبل، وتقول كلماتها: “شوارع المدينة مش لحدا/ شوارع المدينة لكلّ الناس/ رصيف البحر مش لحدا/ رصيف البحر لكلّ الناس”.
لكنّه مع سامي حواط لم يكن رومانسيًّا البتّة، لتكون “أحد الأخوان” الأغنية الأكثر تهكّمًا ووجعًا وتعبًا، بكلمات مأخوذة من قاموس الشارع: ” أحد الإخوان/ وأنا أبتاع رغيف فلافل من ذاك الدكان/ لم يعجبه أمرٌ لا أعرفه فيّا/ أحد الاخوان لبطني/ وأنا إن قِيسَ الإنسانُ بهامَتِهِ سأساوي من هذا الأخ اثنين/ أو قيس الإنسان بفكرته سأساوي ألفين/ أو قيس الإنسان برقّته وشجاعته سأساوي مليونين/ قلت: سألقّن هذا الحيوان درسًا لا ينساه/ سأضربه كفّين/ ولكن، حين علمت بأنَّ الأخَ اللّابط أعلاه من زِلمِ السُّلطان أحجمت/ لأنّي تعبان/ قسمًا بعليٍّ والعبَّاس أنا تعبان/ قسمًا بصلاح الدِّينِ وحطِّينِ أنا تعبان/ وجميع الجبهات لتحرير فلسطين أنا تعبان”.
نصف مسرحيّ
“لديّ مسرحية وحيدة هي “مصرع دون كيشوت» من إخراج رضوان حمزة، هي أساسًا شعر ولكن في شكل مسرحيّ لأنّ بنية القصيدة بنية مسرحيّة. كتبت مسلسلًا إذاعيًّا ومسرحيّتين أخريين، واحدة نُشرت في مجلّة “الطريق” والأخرى لم تنشر بعد” يقول محمّد العبدالله في إحدى الحوارات التي أجريت معه، وكأنّه في عليائه الآن يردّد ساخرًا: “مصرع دون كيشوت، ومحمّد العبدالله، ورضوان حمزة”.
هي طريقته في مقاربة الأمور، خصوصًا تلك التي لم تُنجَز، ومعروف عن “أبي رضا” أنّه كثيرًا ما يوقّع قصائده قبيل أن يجري عليها التعديلات اللازمة، مسلّمًا الأمر للوقت. وبالحديث عن الوقت، كان محمّد يختصر عمليّة الاتّصال بأصدقائه، للتنسيق في إجراء مقابلات معهم للصحف التي يراسلها، فيدبّج حوارات معهم من عنديّاته، دون أن يطلعهم على الأمر، فهو يعرف كيف يفكّرون، وما هي آراؤهم من هذه الاشكاليّة أو تلك. حين يشاهدون حواراتهم تلك في الصحف، يضحكون، ويستمتعون بإجاباتهم العميقة التي لم يبذلوا جهدًا فيها.
وداعات مضمرة
قبيل بلوغه سنّ السبعين بوقت قصير، عرف صاحب “قصائد الوحشة” أنّه مصاب بالسرطان، وجرّب العلاج الكيميائيّ ولم يطقه، فامتنع عن إطالة عمره بهذا المقدار من الألم. هكذا توفّي الشاعر يوم الأربعاء في 23 آذار/ مارس العام 2016، عارفًا بدنوّ أجله، فكانت جلّ لقاءاته في الأشهر الأخيرة عبارة عن وداعات مضمرة.
الطاهي
لا، لم يلتفت محمّد العبدالله لتدوين سيرته، هو الذي عاش يوميّاته طولًا وعرضًا وعمقًا. لذلك لم نعرف كثيرًا عن تجربة باريس، ولم يمنهج تجربته بين الصحف والمجلّات، اليساري منها واليميني، اللبنانيّ والعربي. حكايات بدّدها بالسرد للأصدقاء على طاولات المقاهي، أو حين كان يدعوهم إلى بيته، ليولم لهم ما لذّ وطاب من صنع يديه، فالطهي موهبة من مواهبه التي أجمع عليها ندماء محمّد، وهو يعرف تمامًا أنّنا جميعنا وجبات بائتة على مائدة ملاك الموت.
مع والده وشقيقتيه
تعليقات: