هل تُعادل التعويضات حجم الضرّر الذي لحق بالمتضررين من هذا التفجير كما تفترض القوانين؟ (Getty)
منذ ساعاتٍ قليلة، أعلنت رئاسة مجلس الوزارء، الحداد الوطنيّ اليوم الأحد 4 آب في "ذكرى فاجعة انفجار مرفأ بيروت، وخلالها تُنكّس الأعلام على الإدارات والمؤسسات العامّة والبلديات، كما تُعدل البرامج العادية في محطات الإذاعة والتلفزيون بما يتناسب مع ذكرى الفاجعة الأليمة، وتضامنًا مع عائلات الشهداء الأبرار والجرحى وعائلاتهم"، كما جاء في مذكرة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
ولعلّ هذا الإعلان، هو الحدّ الأقصى مما يمكن توقعه من هذه الحكومة، المُصرفة للأعمال في زمن العجز العميم إزاء الانهيار وإزاء الحرب، وفي زمن الإفلاس والفقر المُدقع بالسّياسة وبالمال وبالعدالة. بل ولعلّه من الطوباويّة والمثاليّة توقع أكثر من ذلك، بعد أربع سنوات مرت على وقوع أكبر الجرائم المفتعلة في تاريخ لبنان، بعد أربع سنوات على النكبة العبثيّة الّتي ألمت بالجمهوريّة الميتة هذه، بعد أربع سنوات على تسويف العدالة وتأجيل الإجابة، أو حتّى الكشف المجهريّ عن ملابسات التفجير الذي جعل بيروت العاصمة، أنقاضًا.
وقد يكون من السّورياليّة أن العصبة الحاكمة التّي تُعرقل التحقيقات باستغلال نفوذها القضائيّ منذ انطلاقتها وحتى اليوم، هي نفسها التي وافقت على تعويضات شبه رمزيّة لذوي الضحايا والجرحى والمتضررين، وسهلت وصول المساعدات لهم، لكن وبالتقادم، تحولت هذه التعويضات الرمزيّة أساسًا، إلى شكلٍ من أشكال العدالة المؤجلة للضحايا. فما هي هذه التعويضات؟ كيف تُصرف؟ وهل تُعادل حجم الضرّر الذي لحق بالمتضررين من هذا التفجير، من أهالي ضحايا وجرحى ومشردين؟ وهل يتساوى هؤلاء بغض النظر عن جنسيتهم أو مستواهم المعيشي؟
التعويضات المقرّرة
قانونًا فإن التعويض عن الأضرار الماديّة والمعنويّة هو حقُّ أساسيّ وضروريّ لحماية المصالح الّتي يكفلها القانون، مثل الحقّ في الحياة الكريمة، والكرامة الإنسانيّة، والسّلامة الجسديّة، وهي حقوقٌ أساسيّة للأفراد محمية بموجب القانون والدستور اللّبنانيّ والاتفاقيات الدوليّة. وقد أكدّ قانون الموجبات والعقود اللّبنانيّ على هذا الحقّ بشكلٍ صريح، حيث نصّت المادة 134 على أن التعويض يجب أن يكون معادلًا للضرّر الواقع. وقد أصدرت السّلطات اللّبنانيّة عدّة قرارات وقوانين تهدف إلى المساعدة والتعويض لذوي الحقوق وورثة ضحايا تفجير المرفأ في 4 آب. ويمكن تقسيم هذه التعويضات والمساعدات إلى نوعين:
- الأول: وهو مبلغ ماليّ مقطوع يُصرف لورثة المتوفين عن طريق الهيئة العليا للإغاثة، ويُعرف بـ"المساعدة الماليّة".
- الثاني: فهو تعويض مدى الحياة يتمّ منحه من خلال إدراج المستحقين في نظام خاص بالجيش اللّبنانيّ، حيث يُعامل الضحايا كجنود شهداء الواجب. بالإضافة إلى ذلك، أقرّ المشرع اللّبنانيّ إعفاءاتٍ ضريبية تتعلق بتركات ضحايا التفجير، حيث تعامل جميع الورثة المتضررين بنفس الأحكام القانونيّة بغض النظر عن وضعهم الماليّ.
المساعدات الأولى صدرت بعد حوالي أسبوع من وقوع تفجير المرفأ، بحيث أصدرت الهيئة العليا للإغاثة برئاسة رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 98-2020 بتاريخ 12-8-2020، والذي قضى بمنح "مساعدات مالية" بقيمة 30 مليون ليرة لورثة كل ضحية سقطت نتيجة التفجير. واستندت الهيئة في صرف هذه المساعدات على مبدأي تأمين السّلامة العامة للمواطنين وتلبية احتياجاتهم الملّحة، بهدف التخفيف من آثار الكارثة على هذه العائلات. ومع ذلك، بعد حوالي عشرة أيام من صدور هذا القرار، أصدرت الهيئة قرارًا آخر حمل الرقم 103-2020 بتاريخ 21-8-2020، ميزت فيه بين فئتين عمريتين من ضحايا التفجير، حيث منحت مساعدة ماليّة بقيمة 30 مليون ليرة لورثة كل ضحية تزيد أعمارها عن عشر سنوات، و15 مليون ليرة لورثة كل ضحية تقل أعمارها عن عشر سنوات. وأوضح القرار أن هذه المساعدة تشمل جميع الضحايا، سواءً كانوا لبنانيين أو غير لبنانيين، وتمنح بغض النظر عن انتماء الضحية لأي مؤسسة حكوميّة أو جهازٍ أمنيّ.
أما الثانية فمنحت على أساس قانون الدفاع الوطنيّ، والذي يعطي لأصحاب الحقوق من عائلة الجنديّ المتوفي أثناء الخدمة عدة أنواع من التعويضات. وتشمل هذه التعويضات معاشًا تقاعديًا شهريًا يعادل 75% من الراتب الأساسيّ للجندي الخاضع للمحسومات التقاعديّة، وذلك وفقًا للرتبة والمخصص للدرجة العليا من الرتبة التي تلي رتبته مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، يحصلون على إعانةٍ ماليّة تعادل راتب سنة، بما في ذلك التعويضات المكملة لراتب المتطوع المتوفي. كما يستفيدون من تقديمات أخرى منصوص عليها في قوانين وقرارات مختلفة، أبرزها الطبابة والمعالجة المجانيّة، وتسجيل الأولاد في المدارس على نفقة الدولة في حدود الاعتمادات المخصصة لذلك في الموازنة.
وقد برز عدد من الملاحظات على التقديمات الرسميّة، الّتي لم توفر نظام قانونيّ واضح ومتخصص لتعويض ضحايا التفجير، فضلًا عن فقدان قيمة التعويضات تدريجيًّا مع انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركيّ والّتي تتراوح اليوم بين 100 و300 دولار أميركيّ في الشهر الواحد. وقد أفاد العديد من الأهالي المتضرّرين في حديثهم إلى "المدن" أن هذه التعويضات، لا قيمة فعليّة لها في حياتهم، خصوصًا أنها لا توفر أمانًا معيشيًّا ولا تعوض على الضرّر الذي لحقهم جراء التفجير. ويشعرون بصورةٍ دوريّة بصعوبة للحصول على هذه التعويضات وعلى رمزيتها. وتجدر الإشارة لكون التعويضات التّي استحصل عليها أهالي الضحايا من اللبنانيين، ليست سخاءً من قبل السّلطة بل جاءت على متن سلسلة من التظاهرات والاعتصامات واللقاءات المستمرة التّي خاضها الأهالي للاستحصال على حقّهم المادي وحقّ ذويهم بالتعويض المعنويّ والعدالة.
العنصريّة في التعويضات
تمظهرت أولى مُحاولات تهميش حقّ الأجانب واللاجئين في العدالة، بدايةً بتحييدهم شكليًّا عن لائحة المطالبات والتجمعات التّي تصبو للضغط على القضاء اللبنانيّ لاستكمال التحقيقات. فالتفجير الذي قَتل ما يربو على 200 شخص، وأُصيبَ الآلاف بجروح وآلاف مؤلفة أُخرى من المشردين، وفي خضم هذه المقتلة البشريّة الضخمة والمجزرة الحقوقيّة وربما جنبًا إلى جنب معها، هناك ضحايا ومتضررون سوريون وأجانب من فئات طبقيّة مُتعثرة، يكادون يغيبون عن المشهد الحقوقيّ والمطلبيّ بأكمله. أي أن ما يُقارب التسعين ضحية من الأجانب أغلبهم من السوريين المُقيمين واللاجئين، قتلوا، ودُمرت بيوتهم، وتفككت أُسرهم، من دون أمل في تحصيل العدالة لهم ولذويهم وتكريم حيواتهم التّي سُلبت عنوةً منهم.
وأصدرت السّلطات اللبنانية العديد من القوانين والمراسيم لمنح مساعدات مالية لأهالي الضحايا. ولم تلحظ بعض هذه القوانين تمييزًا بين ضحية لبنانية وأخرى أجنبية. فعلى سبيل المثال، صدرت مساعدة بقيمة 30 مليون ليرة لبنانية من الهيئة العليا للإغاثة لكل وريث فوق العشر سنوات من الضحايا، وأتاح القانون رقم 196/2020 لهم الاستفادة من التعويضات والمساعدات المقدمة لأهالي شهداء الجيش. ومن جهة أخرى، قام القانون رقم 194/2020 بتفضيل الضحايا اللبنانيين على الأجانب فيما يتعلق باستفادتهم من تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي وتغطية وزارة الصحة. بالرغم من مراعاة معيار المساواة بين الضحايا اللبنانيين والأجانب في النصوص الأوليّة، مثل قرار الهيئة العليا للإغاثة والقانون 196/2020، وبالرغم من عدم التمييز بين الأجنبي واللبنانيّ في شكل النّصّ، إلا أنه تمّ ملاحظة أن عددًا قليلاً جدًا من ورثة الضحايا الأجانب تمكنوا حتى الآن من الحصول على المساعدات المقدمة.
وفي حديثه إلى "المدن" يُشير اللاجئ السّوريّ، محمد ع. (فضل عدم ذكر اسمه كاملًا)، أنّه حتّى اللحظة، لم يحصل على أي من التعويضات المُقرّرة، بالرغم من كونه قد تعرض لإصابةٍ بالغة في التفجير وتسببت بحصول إعاقة جسديّة، وقد فقد أحد ذويه أيضًا. قائلًا:" لا أحد يتحدث باسمنا نحن الأجانب الذين تضررنا بنفس القدر، وما يزيد الطين بلّة كوننا غير مسجلين في المفوضيّة، وبالتالي فإن خوفنا يزداد إذا طالبنا بالمباشر، من عقابٍ محتمل كالترحيل".
الكارثة المنسيّة
هذا ويُذكر، أن حال التعويضات، لا يختلف كثيرًا عن جهود السّلطات المتواضعة في مجالات إعادة الإعمار وترميم ما هُدم وتضرّر من المنازل والمباني المحيطة بالمرفأ، وسبق وأجرّت "المدن" عدداً من التحقيقات المُتعقلة بموضوع إعادة إعمار وترميم مباني العاصمة الّتي شاخت وتدهورت أوضاعها بفعل الإهمال والتفجير
تعليقات: