وليد حسين: بيتنا وذكرياتي في مهبّ غارة إسرائيلية

بعد التحرير اكتشفنا واكتشفوا أنّ حولا ما عادت حمراء، بل صارت صفراء وخضراء (المدن)
بعد التحرير اكتشفنا واكتشفوا أنّ حولا ما عادت حمراء، بل صارت صفراء وخضراء (المدن)


كنت في السابعة من عمري عندما أبلغوني بأنّ علينا ترك بيتنا وحمل أمتعتنا والرحيل. أخبرونا حينها أنّ الجيش الإسرائيلي سيدمّر منزلنا، بعد استشهاد أخي زياد في عملية ضد المحتل. حملنا ما تيسّر لنا حمله، وذهبنا لاجئين إلى دار عمتي في القرية. لكن لم يفجّروا المنزل. اكتفوا باعتقال إخوتي وإبعاد مَن تبقى من أفراد أسرتنا إلى خارج الشريط الحدودي. توجهنا إلى منطقة الرميلة الساحلية، حيث كان قد أُبعد أبي قبلها ببضعة سنوات، بعد اعتقاله لفترة.

اليوم، بعد قرابة أربعين عاماً على تلك الذكرى المحفورة من أيام طفولتي، أغار طيران العدو على بيتنا وسوّاه بالأرض، حجره وذكريات كثيرة عُمر بعضها من زمن الطفولة وعمر بعضها الآخر من زمن ما بعد تحرير الجنوب. لم يبقَ لنا منها إلا كتاب "من خوابي الذاكرة" الذي يحوي قصائد والدي عن الجنوب والمقاومة وحولا، وتوقه إلى "وطن حر وشعب سعيد".

طفولتي في بيتنا كانت مبتورة. بترها المحتل قسراً. أكاد لا أذكر سوى شجرات اللوز والصنوبر والسرو، وبعض النتف الدفينة عن شقاوتي كطفل. أذكر أمي التي رحلت باكراً، وهي تؤنبني على تهوري المفرط. أذكرها في "الأرضية"، مقرّ عملياتها الأساسي للانطلاق إلى زراعة القمح والترمس والدخان. أذكر جيداً حسرتها على أن والدتها لم تسمح لها بالتعلم كي لا تكتب رسالة لحبيبها عندما تكبر. أذكرها عندما أنجبت أخي وأختي التوأم، وبتنا أحد عشر ولداً في منزل صغير.

أكاد لا أذكر من منزلنا الأول إلا تينك الغرفتين في "الأرضية". واحدة كانت تستخدم لـ"المونة" المجمّعة لإطعام كل هذا الحشد من الأولاد. والأخرى كان فيها طاولة وسرير. أذكر أخي زياد ومجسّماته الخشبية التي كان يصنعها على تلك الطاولة. لطالما جلست إلى جانبه منبهراً بها. أذكر كيف وجدنا، في يوم استشهاده، زوجَيْ الحمام خاصّته ملقيان على الأرض ميتين، ربما حزناً عليه. وأذكر أنني بكيته لأنّني رأيت النسوة المتّشحات بالسواد يتفجّعن عليه. في وقت لاحق، وعيت على فكرة موته وأنّه لم يعد موجوداً إلا كذكرى، فكان حزني الحقيقي عليه.

كنا، قبل التحرير في العام 2000، ننتشي كمبعَدين مراهقين بالذهاب إلى بلدة شقرا الجنوبية المحررة وإلقاء السلام والتحية منها على بلدتنا، التي تبعد عنها مرمى ضربة حجر. كنا نمد أيدينا لنلتقطها ونقول يا حولا سنعود، ونثبّت في مخيلتنا لوحات عن الوديان والطرق التي تؤدي إليها وعن الزوايا التي سقط فيها هذا "الشهيد" أو ذاك.

أتى التحرير وعدنا إلى حولا. عدنا إليها من كل الاتجاهات. وأتى إلينا الرفاق من كل لبنان. لبلدتي رمزيتها بينهم، رمزية تلخصها دعابة كانت تقول إنه "عندما تمطر في موسكو يحمل أبناء حولا الشماسي". كان بيتنا محطة لجميع الزوّار من جميع المناطق. فحولا بنظرهم تشبه بيتنا، بيت "أبو واصف"، شاعر مقاومتهم وأنيس سهراتهم. حولا الحمراء، كلون بيتنا قبل التحرير، من زمن "البكوات"، مروراً بالحرس الشعبي، والمقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى "الشارع الوطني" و"النضال الطويل الطويل مع العمال والفلاحين".

بعد التحرير اكتشفنا واكتشفوا أنّ حولا ما عادت حمراء. صارت صفراء وخضراء مع قليل من الاحمرار الباقي. حالها حال سائر القرى الجنوبية حيث يصارع اللون الأحمر من أجل البقاء، إما بمعاندة "الأصفر"، أو بالخضوع المكابر له انطلاقاً من "عقيدة المقاومة".

سنوات كثيرة مرّت غيّرت صورة قريتي، حتى في وعينا. حولا الحمراء في مخيلتنا ما عادت كذلك. وعقيدة الطفولة الحمراء ما عادت كذلك. استيقظنا متأخرين على انهيار "المعسكر الاشتراكي".

ذكرياتي عن حولا مبتورة مثل طفولتي. الاحتلال اقتلعنا من الأرض، ومنعنا من تخزين الذكريات وحفظ الصور المتكوّنة في مسقط رأسنا. ولاحقاً، قضت التغيرات العمرانية على ما تبقى من ذكريات الطفولة وما فيها من أزقّة تشكل جغرافيا ذاكرتنا.

بعد التحرير في العام 2000، وفي حمأة الانكباب على توسيع المنازل، وتشييد البيوت الكبيرة في القرى التي كانت محتلة، نال بيتنا نصيباً من ذلك. اجتثثنا شجرات اللوز القليلة التي كانت محط إعجاب وحسد أولاد القرية، وشجرات السرو والصنوبر التي كنا نتسلّقها صغاراً بحثاً عن أعشاش العصافير.

بعد التحرير قضينا على تفاصيل من ذاكرتنا المخزّنة في زمن قصير من طفولتنا بفعل توسيع منزلنا. الغرفة الصغيرة (الأرضية) حيث كنا نلعب "الخبابية" (الغمّيضة) ونأكل من المؤونة، وحيث كان أخي زياد يتدرّب على صنع مجسّماته الخشبية، مُخفياً بذلك انتماءه إلى "المقاومة"، ما عادت كذلك. باتت جزءاً من بيت كبير من طبقتين.

اليوم ما عاد لنا بيت. عزاؤنا الوحيد هو ما حمته ذاكرتنا من تفاصيل بعضها صار ضبابياً، وبعضها لا يزال واضحاً مثل صورة زياد في زاوية البيت الصغير، في زاوية الذاكرة.

تعليقات: