السينوغرافيا كلمة يونانيّة مؤلفة من لفظتين السينو، بمعنى الصورة المشهديّة وكلمة غرافيا، وتعني التصوير. وبهذا، فالسينوغرافيا علم وفنّ يهتمّ بتأثيث الخشبة المسرحيّة وهندسة الفضاء المسرحيّ.
تعدّدت تعريفات السينوغرافيا، وتنوّعت؛ فمنهم من قال أنّها تصميم فنّيّ أو تقنيّة، تكمن في تصميم وتنفيذ عناصر مشهديّة (أو تصميم داخليّ) للسينما والتلفزيون والمسرح. إضافة إلى تصميم ملابس الممثّلين وأزيائهم وما إلى ذلك. وآخرون وصفوها بأنّها عمليّة تطويع لحركة فن العمارة والمناظر والأزياء والماكياج والألوان والسمعيّات، وصولًا إلى جسد الممثّل ليتلاءم مع العمل ككل. عمل السينوغرافيا يُعدّ من أهمّ الأعمال التي تتحكّم بالعرض المسرحيّ، ويستند إليها في الإخراج الدراميّ المعاصر.
ويرى البعض أنّها تطوّرت من فن الزخرفة والديكور وهندسة العمارة لتصبح فن خلق الصور والرؤى من خلال تفعيل الإضاءة والألوان والتشكيل والشعر والآليّات الرقميّة والمعطيات السينمائيّة الموحية.
إذًا، هي فن شامل ومركّب يقوم بدور هام في إغناء العرض المسرحيّ لإبهار المتفرّج.
كما وترتكز السينوغرافيا على مجموعة من الصور السيميائيّة كالصورة الجسديّة والصورة الضوئيّة والصورة التشكيليّة والصورة اللفظيّة والصورة الرقميّة والصورة السمعيّة الموسيقيّة والصورة الأيقونيّة.
اقترنت السينوغرافيا إبان عصر النهضة بفنّ الديكور والعمارة. ظهر هذا المصطلح في خمسينيّات القرن العشرين، كما حصل مع مصطلح الحداثة. وهناك أنواع كثيرة منها.. ظهر المسرح باعتباره نظامًا سميولوجيًّا (كغيره من مناحي الحياة الفكريّة، والتي تُعنى بعلم العلامة)، عالمًا مكثّفًا من العلاقات مع الشكلانيّة الروسيّة والبنيويّة الفرنسيّة وسيميوطيقا بيرس وكريماس ورولان بارت. وقد ظهرت مؤلّفات كثيرة حول ذلك وعلاقته بالمسرح. ينطبق الأمر على الفنون التشكيليّة التي أطلّت بدورها على السميولوجيا وشاركت الفنون الأخرى، المسرح واحد منها، أفقه وعالمه ومرسلته. وهنا لدينا أحد هذه الكتب كمثال أبرز على هذا الترابط بين المسرح، وتحديدًا السينوغرافيا، وبين الفنون التشكيليّة وفن التصوير إحداها..
دخلت السميولوجيا إلى كلّ مناحي الحياة وعلومها إنطلاقًا من العلامة Le signeالتي ترمز إلى كلّ موجودات الحياة والطبيعة، فينبثق عنها الدال والمدلول Le signifiant et le signifiéكما حدّدها العالم الألسنيّ السويسريّ فرديناند دو سوسير Ferdenand De Saussureفي كتاباته. وبالتالي، فإنّ المسرح، وتحديدًا السينوغرافيا، هي عبارة عن علامات ودوال ومدلولات تحدّد العلاقة بين المعاني والمشاهد المشارك في عمليّة الفنّ والتواصل.
العلاقة بين السينوغرافيا والفنون التشكيليّة تطرح جماليّات جديدة على المستوى الحسّيّ والبصريّ وخلق فضاءات جديدة على علاقة بالمتوالدات المتجدّدة والمستمرّة على صعيد العطاء والابتكار والتطوّر والانفتاح على مناحي الفكر المختلفة.
كان الباوهاوس (دار البناء) سبّاقًا في ربط الفنون ببعضها؛ هو مصطلح يشير إلى مدرسة فنّيّة في ألمانيا، كانت مهمّتها الدمج بين الحرفة والفنون الجميلة، أو ما يُسمّى بالفنون التشكيليّة كالرسم والتلوين والنحت والزخرفة.. ودمجها بالعمارة والديكور والتصمميم الخارجيّ والطباعيّ وتصميم الغرافيك..
فن السينوغرافيا لا يتصل بالمسرح فقط، إنّما له علاقة مباشرة بالفنون التشكيليّة كما ألمحنا، وكما سنبيّن تاليًا. يستخدم السينوغرافيّ أدوات ونظريّات الفنان التشكيليّ، وقد يتحوّل بدوره إلى فنّان تشكيليّ عبر استخدامه للمنظور والمجسّمات والكتلة..
سنقوم هنا بالإضاءة على كتاب للباحث الفرنسيّ جان لوي شيفر Jean- Louis Scheferالذي يتناول فيه بالتحليل السميولجيّ لوحة الفنان الإيطاليّ باري بوردون Paris Bordone 1500- 1571بعنوان لعبة شطرنج Une partie d'échec- Huile sur toile Venise 1964 111x 181 cm
يربط المؤلّف بين العين والمسرح؛ يقول أنّنا نعرف إلى أيّ حدّ المسرح متجدّد في إيطاليا، حيث هيمنت عليه النظريّات وتطبيقات الهندسة المعماريّة. هذا العمل (لعبة الشطرنج) للفنان الإيطاليّ باري بوردون ظهرت فيه، كما نرى، التطبيقات أو الإنجازات المسرحيّة آنذاك. وليس ذلك من قبيل الصدفة؛ فالعالم هو مسرح التمثيل Le monde est théatre de la representationبناءً لمبدأ أنّ العين التي يغلب عليها ثنائيّة نظام أشعّتها المتشعّبة divergentsوالمتقاربة convergentsتستقبل العالم وتخترقه. وهكذا، يمكن تعريف كلّ حسّيّة الهندسة المعماريّة للقرن الخامس عشر (الذي نُفّذ فيه عمل بوردون) حيث المسرح، كهذه اللوحة، بُنيَ على تناقضات العين. المكان المركزيّ المعيّن للعمل يجعل من المسرح مدارًا أو فلكًا، مكانًا بؤريًّا، مكانًا مفروشًا بنظرات متّجهة نحو العين، المسرح في العالم هو مكان العين في نفس الوقت الذي تعطي فيه العين حجّة للعالم.
قسّم شيفر كتابه إلى عنوانين أو نصّين الأوّل منه تناول الدلالة في النظام، وفي تقديم الأشياء (التمثيل)، ما بين العمل الفنّيّ أو الأدبيّ وبين الطبيعة، حيث وصف الاستعارة، والخطابين، والمصطلحات من علامات وصور ومنظور ومسرح ودال والعنوان والمدلول والرمز والتركيب والخطاب..
النصّ الثاني تناول الرمز واللفظة والإضافة والنظام والمنطوق أو الملفوظ، وإدارة العمل والصورة الطبيعيّة وقواعد النظام..
في تحليل اللوحة اعتمد على الجزء الأيسر منها والمنظور المدينيّ، ولعبة الشطرنج وبلاط الأرضيّة والعواميد والجزء الأيمن من اللوحة والطبيعة فيها، ثمّ الطاولة ولاعبي الورق في الخلفيّة، ولاعبي الشطرنج في المسطّح الأوّل اللذين يُشكّلان إطار الشطرنج، وحركة اليدين.. وقام المؤلّف بتوزيع وترقيم هذه العناوين والتقسيمات بناءً للأحرف الأبجديّة، الكبيرة منها والصغيرة، المرقّمة بتسلسل معيّن. كلّ موجودات اللوحة مأخوذة بعين الاعتبار دون أي إهمال لأيّ منها في هذا التحليل السميولوجيّ..
ما يهمّنا في هذا الكتاب هو ما تناوله المؤلّف عن المسرح من خلال التالي
- بلاغة فضاء الشكل أو التمثيل La figuration
بشكل صريح، لوحة بوردون هي استعارة من بلاغة المسرح، وأكثر من ذلك, من ديكوره، الفضاء المشهديّ نفسه.
نقول أنّ التمثيل في اللوحة (المقصود هنا الخلفيّة وهندستها) لم يكن نسخة عن العالم، بل هو خطاب un discours، أو، على الأقّل، لسان لغويّ un language. الفضاء هنا لا فضل له سوى معنى نحويّ تركيبيّ Syntaxique.
يعني هذا الشيء أنّ المسرح هو مدلول signifié(إذا ما استعملنا مفردات السميولوجيا) (ويعني الإنسانيّة، مستند هذه العمارة)، ليس فقط مشهد المسرح بل كلّ فضاء التمثيل، الذي هو قاعة المسرح ونحن موجودون فيه كمشاهدين، ممثّلين مرتين حسب وظيفة اشتراك النظرة المسرحيّة..
اللوحة بحدّ ذاتها هي مسرح. الفضاء المسرحيّ لا وظيفة تزيينيّة له، هو معبّأ لتأليف مكان حيث التمثيل نفسه يُصبح واضحًا. نحن لا نرى عينًا، بل نظرة ومشاهدة..
استهلّ المؤلّف جان لوي شيفر كتابه بقول لدافنشي في كلّ الأمكنة التي ترى فيها الشمسُ الماءَ، فإنّ الماءَ بدوره، يرى الشمسَ، وفي كلّ أجزائها تستطيع أن تُظهر للعين صورة الشمس. ويعني هذا الشيء أهمّيّة التفاعل والمشاركة التي يمكن للأشياء والمخلوقات تبادلها، وهذا ما ينطبق على المسرح.
إنّ علاقة الفنون التشكيليّة بالمسرح يدلّ عليه فنّ الأداء La performanceالذي يعتمد على تقديم عرض حيّ للجمهور أو المتفرّجين (وقد يكون في الشارع)، ويعتمد على فنون مثل التمثيل والشعر والموسيقى والرقص والرسم.. وهناك أيضًا حركة الفلوكسوس Le fluxusالفنّيّة (نوع آخر من فن الأداء) التي تألّفت من مجموعة دوليّة من الفنانين والملحنين والشعراء والمصمّمين، ضمّت خليطًا معقّدًا من الموسيقى والرقص والتصوير والنحت والشعر وتخطيط المدن والعمارة والأدب. هي حركة ترفض الحواجز المصطنعة بين مختلف الفنون، وبين الفنّ والحياة.
تسنّى لي أثناء وجودي في باريس للدراسة حضور عدّة مسرحيّات. أذكر منها اثنتين إحداها تدور حول رواية ألف ليلة وليلة حيث ركّزت المسرحيّة (المونولوغ) على الجانب الإيروتيكيّ منها، تسرده شهرزاد (الممثلة) وحيدة على المسرح طيلة الفترة المخصّصة للمسرحيّة. لم تعد الذاكرة تساعد على تذكّر تفاصيل السينوغرافيا لمرور الوقت الطويل على مشاهدتي للمسرحيّة (ما يفوق الثلاثين عامًا)، لكن، وباختصار، يمكن تذكّر الجوّ الذي سيطر عليها حيث حياة الشرق والصحراء والإضاءة الرومانسيّة والروائح المحبّبة المرافقة لها، إضافة إلى الموسيقى الخفيفة التي تحاكي أجواء ألف ليلة وليلة دون أن ننسى حركات الممثلة وخطابها الإيروتيكي الذي يشدّ الانتباه والتواصل بينها وبين المشاهد.
أمّا المسرحيّة الثانية فتناولت أيضًا جانبًا إيروتيكيًّا وجوديًّا عبر عالم خالٍ من الذكورة؛ فقط ثلاث عشرة فتاة عشن في هذا العالم، وحلمنَ بالرجل الذكر الغائب عن الزمان والمكان. وقد انتصب مجسّم لعضو ذكريّ ضخم في الخلفيّة محاط بعناصر أخرى حيث الكلّ متكامل في السينوغرافيا من الخلفيّة والأرضيّة والثياب والموسيقى والخطاب وغيرها.. ما يُلفت النظر في المسرحيّتين هو اعتمادهما على إشراك الجمهور في عمليّة المسرح؛ في الأولى، تنزل شهرزاد الممثّلة لتتجول بين الحضور لاختيار ثنائيّ ما موجّهة إليهما كلامًا فاضحًا مستوحى من المسرحيّة، والكلّ في هرج ومرج وقبول، إضافة إلى توزيع بعض المطيّبات من الشرق كالفواكه المجفّفة والحلويات بألوانها وطعمها ورائحتها المنوّعة..
أمّا في المسرحيّة الثانية فتنزل الفتيات الممثّلات، الثلاث عشرة، بين الحضور لاختيار الذكور الشباب بعد أن لبسن لباس العرس بالألوان البيضاء والأشكال المناسبة، لتصعدن إلى المسرح وكلّ واحدة منهنّ برفقة العريس المفترض، لتبدأ الحفلة الراقصة المشوّقة. لقد كان لي حصّة المشاركة في المسرحيّتين من خلال اختيار الممثلات لي. أحسستُ أنّي جزء من المسرح ومن سينوغرافه.. مسرحيّات ناجحة بكلّ المعايير، ولا سيّما الجانب السينوغرافي منه الذي كان له الدور الأساسيّ في لعبة الفنّ والتواصل. لا شكّ أنّ لوحاتي الفنّيّة التي أنفّذها هي سينوغرافيا هذا المسطح المعكوسة عليه أفكارنا وهواجسنا وحياتنا..
هل هناك أكثر من هذه الأمثلة للدلالة على ترابط المسرح والسينوغرافيا بالفنون التشكيليّة؟
* د. يوسف غزاوي
المصدر: researchlabs.me
تعليقات: