خلال 5 سنوات: المصارف خسرت 86% من رساميلها

قيمة الرساميل اليوم لم تعد تتخطّى حدود الـ 14% من قيمتها عشيّة حصول الأزمة المصرفيّة (Getty)
قيمة الرساميل اليوم لم تعد تتخطّى حدود الـ 14% من قيمتها عشيّة حصول الأزمة المصرفيّة (Getty)


منذ بداية الأزمة، تكرّر الحديث عن المعادلة البديهيّة التي يُفترض تطبيقها عند إجراء أي عمليّة إعادة هيكلة للقطاع المصرفي، وهي البدء باستنفاد رساميل القطاع حتّى آخر رمق، قبل تحميل أي خسارة لأي طرف آخر. والمقصود بالرساميل عمليًا، هو حقوق أصحاب المصرف فيه، أي قيمة الأسهم والاستثمارات التي تمثّل حصتهم في المصرف. واستنفادها، يعني عمليًا شطبها بالكامل، تمهيدًا لدخول مستثمرين جُدد، يمتلكون القدرة على ضخ أموال جديدة في المصرف، مقابل الاستحواذ على أسهم أو حقوق جديدة فيه. هذه العمليّة، كان يفترض أن تمثّل عمليًا نصيب المساهمين من الخسارة، بوصفهم مسؤولين عن عمليّات المصرف، وعن أعمال مجلس الإدارة فيه.

بطبيعة الحال، لم يتم تطبيق هذا المسار أبدًا. وفي الخطط الحكوميّة المتعاقبة، تم التحفّظ على أي بند ينص على شطب حقوق أصحاب المصرف على هذا النحو. ومن الناحية العمليّة، كانت قيمة الرساميل نفسها، التي نتحدّث عنها، تشهد انخفاضًا كبيرًا، لأسباب ترتبط بانخفاض قيمة الجزء المقوّم بالليرة اللبنانيّة، من الأسهم. ومع ذلك، ظلّ الرفض القاطع لأي مساس بالرساميل المتبقية، على ضآلة قيمتها. فرفض شطب هذه الرساميل والتمسّك بها، لم يعد مرتبطًا بقيمتها فقط، بل بالسيطرة على المصارف نفسها، التي ستستعيد قيمتها تدريجيًا بعد شطب الخسائر المتراكمة في ميزانيّتها. المهم هنا، أن لا يضطر المساهمون إلى تحمّل الخسارة بضخ رساميل جديدة، أو خسارة سيطرتهم على المصارف نفسها.


قيمة الرساميل قبل وبعد الأزمة

خلال الأيّام الماضية، صدرت دراسة عن مصرف "بلوم إنفست" تحاول تقدير حجم الرساميل المتبقية اليوم في القطاع المصرفي، بالدولار والليرة اللبنانيّة. الدراسة استندت إلى أرقام الميزانيّات لتحديد قيمة هذه الرساميل الإجماليّة قبل الأزمة، ومن ثم تفنيدها بحسب عملة الإصدار، لتقدير حجم الخسائر التي لحقت بها. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الدراسة تمثّل أوّل جهد فعلي لتمييز قيمة الرساميل بهذا الشكل، واحتساب ما تبقى منها بكل عملة على حدة، وهو ما يمكن الاستناد عليه مستقبلًا عند محاولة فهم واقع القطاع الحالي وأرقامه.

وفقًا للدراسة، كانت قيمة حقوق المساهمين، أي الرساميل، في تشرين الأوّل 2019 تقارب الـ 20.7 مليار دولار أميركي، أو 31.06 ترليون ليرة لبنانيّة. وفي تلك المرحلة، كان من الصعب تمييز قيمة الرساميل بحسب العملة، إذ كانت المصارف تصرّح عنها -في الميزانيّات المجمّعة- ضمن بند إجمالي واحد. ومن المعلوم أن مصرف لبنان كان قد فرض على المصارف خلال السنوات السابقة وضع مقدمات نقديّة خاصّة، تُضاف إلى الرساميل الموجودة، بالعملات الأجنبيّة. ولم يكن قد اتضح في تلك المرحلة قيمة المقدّمات النقديّة التي أمنتها المصارف بالفعل لغاية تلك المرحلة.

غير أنّ تمييز الرساميل بحسب العملة بات أسهل خلال الفترات اللاحقة، مع تغيير سعر الصرف المُعتمد لإعداد الميزانيّات، خلال العامين 2023 و2024. إذ مع تغيير سعر الصرف هذا، بات بالإمكان احتساب التغيّرات التي طرأت على قيمة الرساميل، ومن تقدير قيمة الرساميل الموجودة بالعملات الأجنبيّة، وتمييزها عن تلك المقوّمة بالعملة المحليّة.

وعلى هذا الأساس، تبيّن في الدراسة أنّ قيمة رساميل المصارف قد انخفضت –لغاية شباط 2023- إلى حدود الـ 4.95 مليار دولار أميركي، منها 4.2 مليار دولار أميركي مقوّمة بالعملات الأجنبيّة، و0.75 مليار دولار مقوّمة بالليرة اللبنانيّة. وبحلول أيّار 2024، انخفضت قيمة الرساميل الإجماليّة إلى 2.88 مليار دولار أميركي، منها 2.62 مليار دولار أميركي من الرساميل المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، و0.26 مليار دولار مقوّمة بالليرة اللبنانيّة.

أسباب تآكل قيمة الرساميل

عليه، يصبح من الواضح أن قيمة الرساميل اليوم لم تعد تتخطّى حدود الـ 14% من قيمتها عشيّة حصول الأزمة المصرفيّة الراهنة، وهو ما يعني أنّ الرساميل خسرت 86% من قيمتها خلال سنوات الأزمة.


وبشكل عام، يمكن القول أن الخسارات التي طرأت على قيمة الرساميل حصلت لسببين متوازيين:

- العامل الأوّل والأهم، هو التراجع في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ومن ثم تخفيض سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّات، وهو ما فرض تآكل قيمة الرساميل المقوّمة بالليرة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ جمعية المصارف عارضت حتّى اللحظة الأخيرة تعديل وتخفيض سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّات، لتفادي هذا السيناريو، وهو ما أدى إلى تأخير هذه الخطوة بشكل متكرّر. ومع ذلك، لم يكن من مهرب في النهاية من القيام بهذا الإجراء.

- العامل الثاني، هو تكون المصارف لمؤونات لقاء توظيفات المصارف في الدين السيادي، بالعملات الأجنبيّة، وهو ما أدّى إلى تآكل قيمة الرساميل بالعملات الأجنبيّة.


رهانات أصحاب المصارف

في خلاصة الأمر، لم تعد قيمة الرساميل الموجودة حاليًا توازي أكثر من 3.1% من إجمالي الودائع الموجودة في القطاع، وهو ما يجعل ملاءة القطاع بأسره شديدة الهشاشة في ظل الأزمة القائمة اليوم. ومع ذلك، يمكن القول أن التمسّك بقيمة الرساميل الموجودة بات مرتبطًا بالإصرار على الاحتفاظ بملكيّة المصارف نفسها، طالما أن شطب الرساميل المتبقية واستقطاب رساميل جديدة سيعني تغيير المالكين الفعليين في القطاع.

وعلى هذا الأساس، يصبح من الواضح أن الرهان الفعلي لأصحاب المصارف اليوم يقوم على التخلّص من الخسائر المتبقية في الميزانيّات، عبر تحويل جزء كبير من الودائع إلى "صندوق استرداد الودائع"، الذي يفترض أن تموّله الدولة أو عائدات استثمار مرافقها. وبهذا الشكل، تصبح قيمة الرساميل المتبقية والضئيلة، متناسبة مع قيمة الودائع التي ستبقى بعد إنشاء هذا الصندوق. وبذلك، يمكن للمصرفيين أن يحتفظوا بملكيّتهم في المصارف، على أمل أن تستعيد مصارفهم ملاءتها وقيمتها تدريجيًا بعد التخلّص من الخسائر. خطاب جمعيّة المصارف اليوم، المُصر على مبدأ مسؤوليّة الدولة، والرافض لفكرة شطب الرساميل المتبقية، يعكس هذا الرهان بشكل جلي.

تعليقات: