تعتمد السلطات اللبنانية نهجاً شديد التقييد تجاه وجود اللاجئين السّوريّين (المدن)
في الخامس من آب الجاري، أصدر محافظ الشمال، القاضي رمزي نهرا، حزمة من القرارات الراميّة إلى إخلاء مساكن اللاجئين السّوريّين في مناطق عدّة. مطالبًا المدير الإقليميّ لأمن الدولة في الشمال بإخلاء اللاجئين من بلدة كرم سده في قضاء زغرتا، بالإضافة إلى بلدات برسا وكفرعها وبصرما في قضاء الكورة. كما دعا نهرا إلى توفير الدعم الأمنيّ من أمن الدولة لإخلاء اللاجئين "غير النظاميين" من بلدة كفر صغاب في قضاء زغرتا، وبلدة كفرحبو في قضاء المنية.
وبصورةٍ شبه يوميّة، يتمّ توثيق العشرات من المداهمات الأمنيّة والاعتقالات التعسفيّة والإخلاءات القسريّة (راجع "المدن") لمساكن اللاجئين السوريين في مختلف الأراضي اللّبنانيّة وتحديدًا في البقاع والشمال، ذلك ضمن الخطة الحكوميّة لـ"لتنظيم الوجود السّوريّ" الّتي أُقرّت مطلع شهر نيسان الفائت. هذه المداهمات والإخلاءات تُسفر دائمًا عن ترحيل العشرات قسريًّا، وقبع مئات اللاجئين من مساكنهم وهدم مخيماتهم وحرقها، أو تنظيم رحلات "عودة طوعيّة". وقد وثقت "المدن" وحدها عشرات من الحالات في تقاريرها السّابقة.
الانشغال بغير الهمّ العامّ
الحال، أنّه اليوم وفي بحرٍ من المؤشرات والتقديرات، الّتي تومئ مباشرةً بسيناريو حربٍ دمويّة، قد يظنّ واحدنا، أن السّلطات الرسميّة في لبنان، منشغلةٌ حدّ الاختناق بالاضطلاع بمهامها على أكمل وجه: خطط طوارئ، ملاجئ، حراك دبلوماسيّ جديّ، مساءلة حكوميّة وبرلمانيّة، تعزيزات أمنيّة، تدابير طوارئ صحيّة وغذائيّة.. فعلًا قد يظنّ واحدنا أنّها سلطاتٌ مسؤولة، مُعتلةٌ بالهمّ العام ولا دواء لها سوى أن ترى مواطنيها وسكّانها، سعداء محاطين بالأمن والأمان.
وهذا بالطبع، ظنٌ مثاليّ، لا يجوز إلّا في ظروفٍ مثالية. فالواقع، هو أن اللبنانيين اليوم، الذين يقبعون في الدرك الأكثر ظلاميةً لهواجسهم، بانتظار النكبة كقدرٍ محتومٍ ولئيم، يدركون حتمًا أنّه وفي حال اندلعت الحرب، فإن دولتهم ستكون غائبة، مغيبةٌ –اللهم إلّا عند استحقاق الدعم الماليّ الدوليّ– وهذا ما عهده هؤلاء دومًا. أمام هذا التيه، يتضاعف بجرعات إذلالٍ قياسيّة عند السكّان غير المرغوب بهم أساسًا، كاللاجئين السّوريّين المنبوذين والمتروكين لأقدارهم الموحشة كذلك. والذين للمفارقة تنشغل بهم السّلطات وتنشغل بطردهم وممارسة أفظع ضروب اللاإنسانيّة بحقّهم، حتّى في ذروة عجزها.
الإخلاء القسريّ
تُشير مصادر "المدن" في المفوضيّة السّامية لشؤون اللاجئين في لبنان UNHCR، إلى أن: "التقييمات الّتي أجرتها المفوضيّة وشركائها، تشير إلى أن تهديد الإخلاءات الجماعيّة قد ازداد، بالتزامن مع تصاعد الإجراءات الإداريّة الّتي تستهدف السّوريّين. إذ خلال الربع الأول من العام 2024، استمرت العديد من البلديات في جميع أنحاء البلاد في تطبيق نهجٍ شديد التقييد تجاه وجود اللاجئين السّوريّين. وسُجِّل أكثر من 100 إجراءٍ إداريّ بحقّ السّوريّين في الربع الأول من العام الجاري، وتشمل هذه الإجراءات قيودًا على الحركة، ومداهمات، وفرض ضرائب جديدة، ونقاط تفتيش، ومتطلبات تسجيل/قانونيّة صارمة، فضلًا عن قيود على الإيجارات، والإقامة".
وتستطرد المصادر بالقول: "وحدّدت المفوضيّة 138 حادثة متعلقة بالإخلاءات الجماعيّة بين كانون الثاني وتموز العام 2024. وتوصف الإخلاءات الجماعيّة بأنها تلك الحالات الّتي يتأثر فيها خمس أسر أو أكثر الإخلاء نفسه أو تهديد الإخلاء. من بين هذه الحالات، كانت 91 منها إشعارات إخلاء (تؤثر على عدد تقديري يبلغ 22,917 فردًا) معظمها في الشمال والبقاع، و53 كانت عمليات إخلاء فعلية (تؤثر على 4,473 فردًا)، مع زيادة ملحوظة بين شهري نيسان وأيار وحزيران" (المتزامنة مع مؤتمر بروكسيل الثامن حينها).
الأكثر استضعافاً
أما التبرير الرسميّ لهذه العمليات، فمنوط بتصاريح الإقامة. هذه التصاريح الّتي لا يملكها سوى نذرٌ ضئيل من اللاجئين في لبنان (بعض الإحصاءات تُشير إلى أن 85 إلى 90 بالمئة ليسوا مسجلين أو "نظاميين" أصلًا، وبالتالي، لا يحصلون على تصاريح إقامة). وما زاد الطين بلّة، هي قرارات الأمن العام، الّتي فرضت شروطًا تعجيزيّة على اللاجئين، حين منعت المواطنين من توظيف أو تأجير اللاجئين غير النظاميين. كما علقت منح وتجديد تصاريح الإقامة كشرطٍ للعقود السكنيّة والتعهدات بالمسؤولية الشخصيّة. بعد هذا القرار، أغلقت البلديات المتاجر المملوكة أو المدارة من قبل سوريين، وتمّ فرض حظر تجوال عليهم. فضلًا عن تضييق الخناق على اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا (راجع "المدن").
وقد ترافقت طلبات الإخلاء في العديد من الحالات، بحسب تقرير "مرصد السكن" لمنصة "استديو أشغال عامّة"، مع ممارسات تعسفية مختلفة، أبرزها التهديد بالاعتداء، رمي الممتلكات خارج المنزل، التهديد برمي الممتلكات خارج المنزل أو الحجز عليها، رفض تسلم الإيجار، التهديد بالدرك للإخلاء، إرسال أشخاص للترهيب، قطع الخدمات، وغيرها من التعديات والممارسات، الّتي عادةً ما تطال الفئات الأكثر استضعافًا خصوصًا الحالات من الجنسيّة السّوريّة أو الجنسيات الأخرى (إثيوبيا، غانا، كينيا)، لكنها أيضًا طالت اللبنانيين وبشكلٍ ملموس.
والتقرير عرّف عمليات الإخلاء القسريّ بأنها الإزالة الدائمة أو المؤقتة للأفراد والأسر و/أو المجتمعات من المنازل و/أو الأراضي التي يشغلونها، من دون توفير الأشكال المناسبة من الحماية القانونية أو غيرها من أشكال الحماية أو إمكانية الوصول إليها. وتشكّل هذه الاخلاءات انتهاكات جسيمة لمجموعة من حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، بما في ذلك الحق في السكن اللائق. ذلك تماشيًّا مع التعريف الذي اعتمدته مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان OHCHR.
وفي هذا السّياق تؤكد المفوضيّة لـ "المدن"، أنّها تتابع أوضاع اللاجئين المعرضين لخطر الإخلاء أو الذين تأثروا به لتقييم احتياجاتهم العاجلة، وكيف يمكننا وشركاؤنا تقديم الدعم، حيث قُدِّمت المساعدة وفقًا للاحتياجات، قائلةً: "تعمل المفوضية بنشاطٍ على التخفيف من تأثير الإجراءات التقييديّة وعمليات الإخلاء على اللاجئين. ويشمل ذلك تقييم الاحتياجات العاجلة للمتضررين وكيفية تقديم الدعم وفقًا لهذه الاحتياجات. بالإضافة إلى ذلك، تشارك المفوضية في جهود المناصرة على المستويين المحلي والوطني لحماية ودعم الأكثر ضعفًا". مضيفةً: "تكرّر المفوضيّة أنها تدرك التحديات التي يواجهها لبنان نتيجة استضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، وخصوصاً وسط الأزمة المتعددة الأوجه التي يمرّ بها البلد. ونبذل كل جهد في المناصرة والمساهمة في تحقيق حلول مستدامة للاجئين خارج لبنان".
غاية الإخلاء القسريّ وقانونيته
وفيما يرى مراقبون أن الإخلاء القسريّ (الذي يُعتبر انتهاكًا وفق القانون الدوليّ لحقوق الإنسان، فضلًا عن كونه انتهاك للقانون الدوليّ العرفيّ لعدم الإعادة القسريّة)، هو إجراء اعتمدته السّلطات اللّبنانيّة لدفع اللاجئين للعودة إلى سوريا، وبالفعل نجح مخطط السّلطات في بعض الأحيان، حين وجد بعض اللاجئين أنفسهم مشتتين واضطروا إلى العودة قسرًا إلى سوريا، كمثل ما شهدنا في حملات "العودة الطوعيّة" المُقنّعة، وآخرين اضطروا للنزوح إلى مناطقٍ وبلديات أخرى حيث يمكثون فيها مؤقتًا.
وهذه العودة الطوعيّة، اعتبرتها "Human Rights Watch"، شكلاً من أشكال الإعادة القسريّة إلى سوريا الّتي ترقى إلى مصاف انتهاك لبنان للالتزامات بعدم ممارسة الإعادة القسريّة، أي إجبار الأشخاص على العودة إلى بلدان يواجهون فيها خطرًا واضحًا بالتعرض للتعذيب أو باقي أنواع الاضطهاد". وبصفته طرفاً في "اتفاقية مناهضة التعذيب"، لبنان ملزم بعدم إعادة أو تسليم أي شخص معرض لخطر التعذيب. كما أن لبنان ملزم أيضاً بمبدأ عدم الإعادة القسرية في القانون الدولي العرفي، أي عدم إعادة الأشخاص إلى أماكن قد يتعرضون فيها للاضطهاد.
تعليقات: