محسن دلول
في مكتبه قرب فردان، يشعر الصحافي بسذاجة الأسئلة التي أعدّها. فالرجل الذي يُفترض أن تكون أعوامه الأربعة والسبعون الحافلة بالأحداث والتجارب قد أنهكته، يتحرك بخفّة بين الأسئلة، مستفيداً من خبرته الصحافيّة، وهو وسط زحام الكتب، بعيداً عن الكاميرا، يخلع سترته، يسرق سيجاراً لا يفترض أن تعرف به زوجته وأولاده لأسباب صحية، ويستسلم بين دخانه للذكريات.
البداية طبعاً من كتاب مفتوح على مكتبه يروي سير مناضلين. «جزء من النضال القائم على مبادئ وقضيّة صار ذكريات. لقد مرَّ عليّ الكثير، وجايلت كثراً. لكن حين أغمض عينيّ الآن قليلاً، أقول إنني أوّلاً وأخيراً من جيل النكبة. كانت فلسطين عنوان النضال، وكان همّنا الأساس كيف نحمي القضية الفلسطينية من التآمر والإهمال... التشرذم الفلسطيني والعربي عثّر القضيّة وهذا الأمر أثّر علينا كثيراً».
هذه «الفلسطين» جذبته منذ صغره بعيداً عن هوى زملائه في الإرساليّة المسيحيّة، فانتسب إلى خلية لحركة القوميين العرب. لكن بعد نقاشات مع المسؤول عن تثقيف الخلية سياسياً، تقرر فصله عقاباً على رفضه الالتزام بمبدأ «لا تبتسم فلسطين محتلة»، واعتباره أنّ مبادئ كهذه تحوّل الحياة إلى عتمة وتجعل المناضلين مجموعة معقّدين. إلّا أنّ قرار الفصل لم يمنع استمرار علاقته المتينة بـ«رفاقه السابقين في الحركة»، عمر فاضل، محمد كشلي، محسن إبراهيم وغيرهم. لاحقاً، بعد نقاش مطوّل في الصف مع أستاذه بشأن أدب جان جاك روسو، عرّفه الأستاذ على كمال جنبلاط. وسرعان ما تكرّرت اللقاءات، حتى علّق جنبلاط مرة: «أنت أكثر عضو تعبنا لإقناعه بالانضمام إلينا». هنا، وكلّ مرة يذكر فيها دلول اسم جنبلاط، تتغيّر ملامحه وتذهب عيناه بعيداً في بريقهما مردّداً: «كنت أشعر بالفخر. أنا التلميذ ابن المزارع البسيط، أناقش كمال جنبلاط الذي بدأ يوكل إليَّ مهمات خاصة ويختارني لصحبته في معظم الرحلات. في تلك المرحلة، كنّا نضاليّين، نحرم أنفسنا من الرفاهية الذاتيّة لأجل الآخرين. وكثيراً ما اضطررنا إلى الذهاب سيراً من بيروت إلى برج حمود لعقد الاجتماعات الحزبيّة، وكنا نجمع الأموال، بعضنا من بعض، لإعداد مهرجان. أعتقد ختاماً أننا لم نخطئ، لكننا ـــــ جيل النكبة ـــــ دفعنا ثمن أخطاء السلطات التي بنت جيوشاً لتحمي نفسها لا لتحرّر فلسطين».
غير ذلك، يستلذّ دلول بالكلام عن الكتب. هو من السياسيين القلائل الذين يواظبون على زيارة المكتبات لتفقّد آخر الإصدارات. «في كل معرض أشتري بين 80 و100 كتاب، ويبقى في عيني العشرات. من هنا لقّب بـ«بلّاعة كتب» الذي أعتزّ به». ومن الكتاب إلى الريف، لم يعرف دلول الكآبة. السبب؟ «أنا ابن الريف، حيث السعادة تكمن في البساطة. أمقت المدينة ولا أستطيع التنفس فيها أكثر من يومين متواصلين».
والفضل في هذا كله يعود طبعاً إلى والده الذي أثّر في مذاقه البيئي والسياسي أيضاً، فقد كان مدرسة في فتحه المنزل للناس. كان الوالد يريد لابنه أن يكون محامياً نتيجة كرهه الوظيفة «التي تقتل الطموح». لكن دلول أصرَّ على دراسة الأدب في «معهد الآداب الشرقية» ليتخرّج ويعمل صحافياً حراً في مجلات «الشعب» و«الحوادث» و«دار الصياد» و«الديار» بداية، ثم مديراً مسؤولاً في صحيفة «البلاغ».
ماذا عن الثروات التي وفّرها النضال؟ يبتسم ساخراً، مؤكداً أنّ السلطة أخذت كل شيء: «لو كان لديّ ثروة لكنتُ أعيش بها الآن، ولكنتَ رأيتَ حالتي أفضل من هذا». كاشفاً أن لديه مصدَرَي دخل: الأول هو مردود الأراضي التي يضمّنها لأن زرعها يتطلب وقتاً ومتابعة. والثاني، هو الأجر النيابي، مدافعاً عن اتهامه بالإفادة من موقعه لاستغلال الخلوي بالقول إنّ أبناءه تخصّصوا جامعياً في الاتصالات ونجحت استثماراتهم. وعلى الأقل في تلك المرحلة كانت الشركتان لبنانيتين. فيما هما اليوم أجنبيتان، والمؤسف أن لا أحد ينتقد تردّي الخدمات.
يقول دلول إنّ ما من تكاليف كبيرة في حياته، فأبناؤه تزوّجوا واستقلّوا، وهو يعيش ببساطة مع زوجته مكتفيين بزيارات الأصدقاء في البقاع والقراءة، إضافة إلى متابعته الرياضة، وخصوصاً كرة القدم. ويعود دلول إلى السلطة ليؤكد أنّها ورّطته بخصومات لا علاقة له بها.
في السياسة، تأثر ابن زحلة برجلين هما كمال جنبلاط ورفيق الحريري. الأوّل، تأثّر بثقافته وفكره وشجاعته ونقاشه الصادق وابتسامته الدائمة. وهو كان نائب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي عند اغتيال جنبلاط، وقد كان في طريقه إلى البقاع حين سمع عبر إذاعة «صوت الجبل» القرار الرئاسي الذي يعلن عزله من موقعه، وإعفاءه من مسؤولياته، وفصله من الحزب. «لم أناقش»، يقولها بعزة كبيرة وبحسرة، كأنّه الآن فقط يسمع الإعلان. وبعد أيام، زاره وليد جنبلاط «ليقول، على عادته، إنّه أخطأ وسيعود عن خطئه. فرفضت، مؤكداً له أنّ لوالده فضلاً كبيراً عليّ، وهو نقلني من حالة إلى أخرى، ولولاه، كنت مجرد صحافي مغمور أو أستاذ أدب عربي في مدرسة بقاعيّة. هو الذي عرّفني على ملوك ورؤساء العالم وجعلني حلقة وصل بينه وبينهم. وأكدت يومها لوليد أنني سأكون إلى جانبه أو ضده حسبما يريد. هكذا، إذا هاجمني أردّ وإذا تجنّبني أتجنّبه. وما زلت أعيش إلى اليوم على مزاجه». ولا يمكن المرور بكمال جنبلاط من دون أن يروي دلول أهم حادثتين في حياته: الأولى حين قصفت إسرائيل مركبهم في عرض البحر أثناء توجهه وجنبلاط ومجموعة من الرفاق إلى القاهرة، فكانوا يواجهون الموت بضحك صاخب وتبادل للنكات. والثانية في الجزائر، حين كان أهالي منطقة وهران في انتظار «المعلم» محاولين لمس ثيابه ليتباركوا».
أما الحريري، بحسب دلول، فمناضل من نوع آخر، أجمل ما فيه أنّه لا ينكر ماضيه لا بل يسترجعه ويبحث عن رفاقه أيام الفقر والحاجة ليساعدهم. وهو «أسهم في مساعدة كل قضية عربية، وفي وضع دستور للدولة الفلسطينيّة». وبثقة، يؤكد دلول أنّ الحريري لم يكن يمينياً، لا بل كان في منتهى اليساريّة، و«الدليل تعليمه أكثر من 35 ألف طالب لا يعرفهم، موفّراً بشخصه التعليم والمسكن اللذين قامت عليهما الدول الاشتراكيّة»! ووفق دلول، فإن زوجة الحريري السيدة نازك هي الأقدر على قول كلمة حق بشأن الحريريّة اليوم، فهي كانت تحضر النقاشات، وتعرف رأي زوجها في كثير من الشخصيّات الحاضرة على الساحة اليوم. ويستعيد لقاءه الطويل بالرئيس الراحل، قبل قرابة عشرين ساعة من اغتياله، وحديثهما المفصَّل عن البقاع، ليفاجأ لاحقاً بإعلان أحدهم أنّ الرئيس الشهيد كلّفه متابعة ملف البقاع الانتخابي. ويشدد دلول على أنّ الحريري لم يكن يوماً أميركياً، بل إنّ الأميركيين حاربوه لاعتقادهم بأنّه فرنسي النزعة، وأوروبي التوجّه.
ماذا بعد؟ لا تكفي الصفحات لسرد ذكريات الرجل وعرض مواقفه الآنيّة والأعمال التي أصدرها. فبعد أربعة كتب تناول فيها كمال جنبلاط ورفيق الحريري ومعضلة الطائفية والتحديات العربية والدولية وعهد لحود، يضع حالياً اللمسات الأخيرة على كتاب عن سياسة الولايات المتحدة، وينهي مذكراته التي يُفترض أن تنشر قريباً لتكشف الكثير... ولا شك في أنّها ستسبّب له عداوات كثيرة.
5 تواريخ
1933
الولادة في البقاع
1952
التحق بالحزب التقدمي، وفي عام 1958 بات الزميل الأول لكمال جنبلاط في رحلاته الخارجيّة
1976
غادر لبنان وعاش متنقّلاً بين عواصم العالم، لاقتناعه بأنّ «الحرب مغارة لا نفق»
2000
أعيد انتخابه للدورة الثالثة، بعد أن كان قد عيّن نائباً عن البقاع في عام 1991، ثم انتُخب في دورتي 1992 و1996
2008
صدور كتابه «عهد لحود تحت المحاكمة: من الدولة المدنية إلى السلطة الأمنية»
(دار الريّس)
تعليقات: