ماذا بقي من لبنان الأخضر بعد اجتياح الحرائق المتكرر لغاباته على امتداد السنوات الخمس الماضية؟ الجواب: 13% من الأحراج البرية والمثمرة، يحتل صنوبر منطقة وادي التيم جزءاً مهماً منها، وهو يمثّل مردوداً اقتصادياً هاماً للمزارعين والبلديات. وتحتاج هذه الأحراج إلى خطة رعاية بدأت ملامحها بالظهور في عدد من القرى، لكنها تنتظر المزيد من الدعم، وهي تبدأ بالتخلص من الألغام ولا تنتهي بمكافحة الحرائق
وادي التَّيم ـ
تمتاز منطقة وادي التيم بتنوع حرجي لا مثيل له، من راشيا الوادي شمالاً حتى كفرحمام في أعالي العرقوب جنوباً. وتتصدر أشجار الصنوبر بتعداد يزيد على مئة ألف شجرة، تغطي مساحات واسعة من الأراضي الجبلية الرملية، في أخدود يمتد من قرية عين حرشا في قضاء راشيا الوادي حتى مرتفعات العرقوب، ويشمل قرى عين عطا والكفير والخلوات وميمس وعين قنيا وراشيا الفخار والفرديس وكفرحمام.
وتتكون غابات الصنوبر بنسبة 75% من الصنوبريات المنتمية إلى فئة عاريات البزر مثل اللزاب والأرز والأرزية والبيسية والصنوبرة. وتحتل منطقة وادي التيم نسبة تزيد على 25% من إجمالي غابات الصنوبر في لبنان البالغ 3% من إجمالي المساحة الحرجية. بعض هذه المساحات أملاك خاصة، أما الأغلبية، فتعود ملكيتها إلى البلديات التي تدير وتشرف على عملية الضمان والتشحيل بالتعاون مع دائرة الزراعة، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على استمرارية الإنتاج السنوي الذي يعود بالفائدة على صندوق البلديات.
يطمئنّ رئيس بلدية راشيا الفخار، غطاس الغريب، إلى صحة حرج الصنوبر الذي لم يشهد أمراضاً هذه السنة، موضحاً «أن الحرج يضم 4700 شجرة معمّرة ومثمرة، يضاف إليها أكثر من ألف شجرة تتوزع في محيط البلدة. وقد واجهت هذه الثروة إهمالاً خلال السنوات الماضية نتيجة الأوضاع الأمنية، والاعتداءات الإسرائيلية التي لم توفّرها من الحرائق والتلف».
أما هذه السنة، فقد تصدّت البلدية لهذا الواقع، إذ «وضعت خطة اقتصادية تهدف إلى استثمار هذا العدد الكبير من الأشجار، بدأ تنفيذها بإزالة مخلّفات العدوان الإسرائيلي من قذائف غير منفجرة وقنابل عنقودية، قامت بها فرق هندسة تابعة للجيش اللبناني. أعقب ذلك عملية تشحيل شملت كامل المساحة، على أمل أن نلقى موسماً جيداً العام المقبل».
ويضيف الغريب: «هناك مؤسسات وجمعيات تقدم لنا المساعدة في مجال غرس المساحات المحروقة، فالبلدية الآن بصدد زراعة نحو 22 دونماً بشتول صنوبر مقدمة من جمعية الثروة الحرجية والتنمية، بدلاً من الأشجار المحروقة التي يبلغ عددها نحو 500 شجرة».
ثم يكمل، موجهاً نداءه إلى الدولة اللبنانية: «نأمل من الدولة والجهات المعنية إعادة إحياء المساحات الحرجية التي طالتها الحرائق والحرب، فالقنابل العنقودية تتوزع وسط أحراج السنديان والملول العائدة للبلدية. نطالب بتنظيفها لتعود لوحة طبيعية وركناً بيئياً داعماً للقطاع السياحي».
الحرائق هي الآفة الوحيدة التي عاناها صنوبر حاصبيا، فقد أكّد رئيس مكتب الزراعة في البلدة، إسماعيل أمين، خلو الأحراج الصنوبرية من الأمراض، مضيفاً أن «في قرى قضاء حاصبيا نحو 900 دونم من الصنوبر، كلها منتجة، وحرج بلدة كفرحمام، الذي تعود ملكيته للدولة، أكبرها مساحة. وهو بحاجة الى أعمال تشحيل وصيانة. هذه الثروة لم تتعرّض للأمراض، لكن تعرّضت لمجموعة حرائق العام الفائت أتلفت نحو 150 دونماً تتوزّع على قرى عين جرفا، الفرديس والكفير».
ويرى كبير منتجي الصنوبر في منطقة حاصبيا، ذياب أبو سعد، الذي يملك مصنعاً لتكسير أكواز الصنوبر وفصل اللّب عن القشور «أن هذه الزراعة يمكن تطويرها لتصبح مرتكزاً اقتصادياً يعتمد عليه، فشجرة الصنوبر بعلية وتلائمها الظروف المناخية الموجودة عندنا، وهناك مساحات واسعة من الأراضي البور يمكن تشجيرها والاستفادة منها».
يملك أبو سعد 600 شجرة مثمرة، إلى جانب إنتاج المعمل وضمان كميات أخرى، ليصبح منتوجه السنوي بين 1500 و2000 كيلوغراماً من الصنوبر الجاهز للأكل. وهذا الرقم ليس بسيطاً إذا ما احتسبنا سعر الكيلو الواحد الذي يراوح بين 25 و30 دولاراً. هذه الكمية تُصرَّف في السوق المحلي الذي تتفاوت فيه نسب الطلب من وقت إلى آخر.
وفي المجمل، مردود الصنوبر المادي جيد، وتعتاش منه عائلات عديدة، وتستفيد منه بلديات المنطقة. ويتمنى أبو سعد «دعم المؤسسات المعنية هذا القطاع، ولو في الحد الأدنى المتمثل بتقديم الأدوية لمكافحة الأمراض، وتأصيل المشاتل للحصول على نوعية جيدة، وخصوصاً في مثل هذه المنطقة التي هي بحاجة إلى كل الخبرات الزراعية، فالشجرة المعمرة تعطي نحو 500 كوز سنوياً في معدل وسطي، أي حوالى خمس كيلوغرامات إذا توافرت لها الخدمات اللازمة».
وتحد القطاع الكثير من العوائق، منها قلة اليد العاملة للقطاف الذي يعدّ المرحلة الأصعب نسبة لمخاطرها في مقابل غياب أي ضمان في حال تعرُّض العامل للأذى، ومنها انقطاع التيار الكهربائي الذي يؤثر سلباً على عمل الماكينات في المصنع.
فالمكننة جزء أساسي في عملية إنتاج الصنوبر التي يشرحها أبو أسعد بقوله:
«في شهري كانون الأول والثاني من كل عام، يحلّ موسم قطاف الصنوبر. يترك الإنتاج في مستودع حتى فصل الربيع، ثم يعرّض لأشعة الشمس كي تتفتح الأكواز تلقائياً. عندها، تُنقَل إلى مصنع مخصّص يضمّ ثلاث ماكينات: الشّباقة وظيفتها كسر كوز الصنوبر. العرابة ومهمتها فصل الحبات عن القشرة. والكسارة ومهمتها كسر حبات الصنوبر. هذا المعمل يمكنه تكسير نحو سبعة أطنان يومياً.
وتحتلّ شجرة الصنوبر، إلى جانب مردودها الاقتصادي، حيزاً جمالياً مميزاً، لكن أيادي العابثين لم تنكفئ لجهة القطع الجائر، كذلك فإن الحرائق طالت مساحات لا يستهان بها، ما يستدعي تدخلاً رسمياً من البلديات والجهات المعنية لرفع الأذية ومنع التعديات وعمليات الضم والاقتطاع طمعاً بشجرة هنا وأخرى هناك، حتى يبقى «لبنان الأخضر».
تعليقات: