لبنان يُسجل أكبر نسبة من المعمّرين في المنطقة العربية

مشاركة كبار السن في برنامج جامعة الكبار
مشاركة كبار السن في برنامج جامعة الكبار


من متقاعد أو كبير في السن إلى متعلّم ناشط، وقد لا تصح المقاربة بين الصورة النمطية التي رسمها المجتمع ل#كبار السنّ وبين ما قد يمكن لهذه الفئة القيام به حتى بعد سنّ السبعين أو الثمانين.

تقول نيبال (76 عاماً) إن "الحياة والأمل موجودان في #الشيخوخة"، أما عماد (67 عاماً) فيُشير إلى أنها "فرصة رائعة لمقابلة أشخاص جدد وتعزيز الثقة بالنفس"، في حين لمس أصدقاء سليمان (87 عاماً) "التغيير الحاصل في حياتي". أما غازي فيعترف بأن "حلمه تحوّل إلى حقيقة باستكمال دراسته. لقد شعرتُ حقاً أنني أعيش في #لبنان بالرغم من وجودي في نيجيريا".

جميعهم وجدوا أنفسهم أمام نافذة جديدة إلى الحياة مختلفة عن تلك التي فرضها المجتمع عليهم، وما زال أمامهم مسؤوليات وأدوار بإمكانهم تأديتها على خلاف الخانة الاجتماعية التي وجدوا أنفسهم محتجزين بها بعد رحلة شاقة مع الحياة والعمل والتعب.

التعلّم واكتساب مهارات جديدة وأصدقاء جدد أمور أشبه بفرصة لإبقاء التواصل الاجتماعي والثقافي والذهني وتحفيز هذه القدرات والمهارات المكتسبة بوجه التقدّم الطبيعيّ بالسنّ.

في المقابل، يواصل الباحثون دراساتهم حول تأثير العزلة والوحدة وقلّة الحركة والنشاط البدني والذهني على تراجع القدرات الإدراكية والذهنية عند كبار السن.

ويرى الخبراء أن هناك تباينًا كبيرًا في كيفية تقدم الأشخاص بالعمر. برأي الدكتور نير بارزيلاي، وهو مدير معهد أبحاث الشيخوخة في كلية ألبرت أينشتاين للطب، والمدير العلمي للاتحاد الأميركي لأبحاث الشيخوخة، أن "العمر الزمني لا يعكس بالضرورة العمر البيولوجي".

الخرف يهدّد العالم

في موازاة ذلك، كشفت دراسة جديدة، نُشرت في المجلة العلمية "لانسيت"، أنه يمكن تأخير ما يقارب نصف حالات الخرف أو منعها تماماً من خلال معالجة 14 عاملَ خطر محتملاً.

يؤثر الخرف، وهو تحدٍّ عالميّ متزايد بسرعة، على ما يقدّر بنحو 57 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 153 مليونًا بحلول عام 2050 في جميع أنحاء العالم.

كذلك، أشارت منظّمة الصحة العالمية إلى أن كبار السنّ أكثر عرضة للمعاناة، جراء مشاعر الحزن والعزلة وتراجع الوضع الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالتالي، تؤثر هذه العوامل على فقدان الاستقلالية والوحدة والضغط النفسيّ.

وبعيداً عن الأمراض الذهنية التي قد تهدّد كبار السنّ، فنحن أمام معركة أخرى اجتماعيّة تتمثل بكسر الصورة النمطية السلبية المتعلّقة بطول العمر وتسليط الضوء على الوجه الإيجابي للتقدّم بالسنّ.

تغيير الديموغرافيا السكانية

بعد 14 عاماً على تأسيس برنامج "جامعة الكبار" في الجامعة الأميركية في بيروت، وأمام تحدّيات العمر والتراجع الطبيعي لبعض القدرات والمهارات الجسدية والذهنية، كيف يمكن المحافظة على القدرات العقلية والنفسية بالرغم من التقدّم بالعمر؟ وهل يمكننا الوقاية من مخاطر تراجع هذه القدرات بفعل التقدّم بالعمر؟

تنطلق مديرة برنامج "جامعة الكبار" في الجامعة الأميركية في بيروت، والمتخصصة في سياسات #التعمّر مايا أبي شاهين، في حديثها من دراسة ميدانية أجراها مركز "مرصد الأزمة" التابع للجامعة الأميركية في بيروت، حيث تبيّن أن 11 في المئة من سكّان لبنان هم فوق سن الـ65. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 23 في المئة بحلول عام 2050، نتيجة الهجرة المستمرّة لفئة الشباب مقابل الهجرة العكسية لكبار السنّ، علماً بأن لبنان ييتميّز بأعلى نسبة من المعمّرين في المنطقة العربية، مما يعني حكماً تغييراً في الديموغرافيا السكانية بشكل كبير وسريع. إذن، يتحتّم علينا تغيير الذهنية والأنظمة والبرامج لمواكبة هذا التغيير الديموغرافي بما يتناسب مع الواقع.

إلى جانب ذلك، لا بدّ من التوقف على مؤشر آخر يتمثل بالهجرة، إذ نشهد هجرة مستمرّة لفئة الشباب مقابل هجرة عكسية لكبار السنّ، الذين يعودون بعد وصولهم إلى سنّ التقاعد. وفي أغلب الأحيان، يواجه كبار السن الوحدة والعزلة نتيجة سفر أبنائهم وأحفادهم وفقدان هذا التواصل اليومي معهم ومع محيطهم.

وتشير أبي شاهين إلى أن "كل الدراسات والأبحاث أظهرت مدى تأثير العزلة والوحدة لدى كبار السنّ على الصحة الذهنية والجسدية والمجتمعية. وهناك نحو 20 في المئة من السيدات المتقدّمات بالسن يعشنّ بمفردهن".

إضافة إلى ذلك، وجدت دراسة ميدانية لبيروت عدم وجود أيّ فسحة أو مجالات لكبار السنّ لإبقاء هذه الفئة مشنغلة ذهنياً وفكرياً واجتماعياً ونفسياً، حيث لا يقدّم لبنان أيّ نشاطات أو فرصة للاستفادة من قدراتهم ودعمهم.

وبالاستناد إلى الدراسات والاستطلاعات، تبيّن أن التعلّم على كبر يستقطب كبار السنّ في لبنان. من هنا انطلقت فكرة تأسيس برنامج "جامعة الكبار" الذي يعتبر الأول من نوعه في لبنان والمنطقة، حيث وُلدت الفكرة على يد الدكتورة في العلوم الصحية عبلة السباعي، وزميلتها الدكتورة سينتيا مينتي، في عام 2010.

لم يتوقف الباحثون يوماً عن البحث عن تأثير انخراط كبار السنّ في الأنشطة الترفيهية والثقافية والاجتماعية وفوائده في الحفاظ على قدراته الذهنية والجسدية والنفسية. ولكن ما سعى إليه العلماء في السنوات الأخيرة هو تسليط الضوء على أهمية انخراط كبار السنّ في الحياة الاجتماعية والفكرية وما تحمله من إيجابيات لصحتهم الجسدية والفكرية والمعنوية، مقابل تراجع ذهنيّ وجسديّ واجتماعيّ نتيجة العزلة والوحدة وعدم المشاركة بالحياة الاجتماعية مع العائلة والأصدقاء وتراجع الاستقلالية.

وانطلاقاً من هذه النتائج العلمية، تؤكّد أبي شاهين "أهمية أن يكون كبار السنّ منخرطين، ليس فقط في برنامج "جامعة الكبار" وإنما أيضاً في الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع، والتشجيع على التطوع في المجال الاجتماعي، وحثّهم على المشاركة في الأنشطة الترفيهية والثقافية التي تعود عليهم بفوائد عدّة".

التعلّم والخدمات الصحيّة ليست عناوين عريضة جذابة بل هي حقّ لكلّ إنسان، لا سيما كبار السنّ. المسألة -وفق ما تقول أبي شاهين- "ليست فقط للحفاظ على قدراتهم الذهنية والنفسية وإنما هي حق. نواجه دائماً نظرة "حاجة" إلى كبار السنّ أكثر من مبدأ حقّ لهم بأن يكون لديهم الاستقلالية وحقهم في التعليم حتى الرمق الأخير. لا يتعلق الموضوع بالتعلّم فقط وإنما بالانخراط والتمتع بالنشاط الذهني والثقافي والتواصل مع الآخرين. ومن المهم أن نعرف أن القدرات الذهنية لا تتراجع بالضرورة مع تقدم العمر".

لذلك، نجح برنامج "جامعة الكبار" في كسر الصورة النمطية السلبية عن التقدّم بالعمر، وإشراك كبار السنّ في المجتمع. برأي أبي شاهين أن "التمييز على أساس العمر يؤثر في الصميم، ويسلب حقاً من حقوقهم، وينتقص من ثقتهم في أنفسهم وفي جدوى وجودهم في الحياة".

يخوض كبار السن غمار التعليم في مجالات مختلفة، منها الصحة والسياسة والفن والرياضيات والأدب ومواضيع الساعة، وفق منهج متنوع، يُقسّم إلى فصلين دراسيين في السنة. وتبلغ تكلفة الانتساب إلى الفصل، الذي يمتدّ لثلاثة أشهر، ما بين 70 إلى 200 دولار حسب قدرة الشّخص.

يُعبّر أحد المشاركين عن تجربته قائلاً "هذا البرنامج يغيّر الحياة. لقد جعل حياتنا تُستحقّ أن تعاش. كان له تأثير إيجابي كبير على المستوى العقلي والعاطفي والجسدي، بالإضافة إلى التواصل الاجتماعي والتفاعل والمتعة".

في داخل الصف الواحد اجتمع كلّ من المتقاعد مع العامل مع المتعلّم الذي ترك المدرسة في سنّ مبكرة. من الخمسين إلى الـ95 عاماً، ومن كلّ المناطق، قرروا أن يخوضوا غمار التعلّم متحدّين أعمارهم، ومتمسكين بأمل واحد "الغد أفضل والأمل موجود".




تعليقات: