ما لا يعرفه الناس عن المواجهة اليومية في الجنوب


بموازاة الجهد الأمني والعسكري الكبيرين، يبذل العدو بمشاركة الولايات المتحدة الاميركية جهداً إعلامياً ودبلوماسياً كبيرين أيضاً لإضعاف البيئة الصديقة للمقاومة، خصوصاً في أوساط الذين يكتفون من المقالات بعناوينها ومن نشرات الأخبار بمقدماتها، فلا يتابعون التفاصيل ولا يملكون بطبيعة الحال النفس الطويل. وهنا يتداخل خصوم المقاومة بين الذين لم ولن «يعجبهم العجب» أياً كان، وبعض الأصدقاء الذين يغارون على المقاومة ويخشون عليها، لكنهم لا يفهمون ماذا يحصل لبعدهم عن ميدان المواجهة. في هذا السياق، يمكن الحديث عن أربع نقاط أساسية:

أولا: عدم استخدام المقاومة بعد نحو 11 شهراً من المواجهة، أي سلاح يصنف في خانة السلاح الإستراتيجيّ، والذي تعترف إسرائيل والولايات المتحدة بوجود كميات كبيرة منه لدى المقاومة. ورغم الكشف الإسرائيليّ المبكر عن كل ما جمعته الآلة الاستخباراتية الاسرائيلية من معلومات خلال العقدين الماضيين، ولا سيما طوال الحرب السورية، وكل ما طورته من تقنيات رصد واستهداف دقيقين أيضاً، تواصل المقاومة استخدام أنواع محددة – تقليدية بغالبيتها – من الأسلحة (ضمناً المسيرات)، متجاوزة الضغط المعنوي والعسكري، ومتمسكة بإبقاء السلاح الاستراتيجي المتنوع حتى لحظة مستقبلية أخرى تحددها ظروف ووقائع وليس الانفعالات. مع الاشارة الى انه يجري التداول، وعلى نطاق ضيق، بان المقاومة تقدر بمعرفة العدو لبعض أماكن تخزين الصواريخ الاستراتيجية، لكنه امتنع عن ضربها لجملة اعتبارات، أبرزها التزامه بالمواجهة القائمة بمساحات واسلحة معينة. ويظهر جليا ان العدو لم يوسع دائرة الاستهداف سواء للمخازن التي لم تستخدم حتى اليوم، أو للقادة والمقاتلين الذين لم ينخرطوا مباشرة في القتال بعد.

ثانيا: خلافاً لما هو شائع عن تجاوز إسرائيل للحدود الجغرافية التي حددها الحزب للمواجهة الحالية، بقاعاً أو شمالي نهر الليطاني، فان جدول الهجومات والهجومات المضادة يحسم بأن الإعتداءات الإسرائيلية في العمق سبقه دائماً أو تبعه هجوم لحزب الله بالمسيرات الإنقضاضية على ثكنات في العمق الإسرائيلي. ولا تكاد مسيرة الحزب تتجاوز العشرين كيلومتراً مثلاً في العمق الاسرائيليّ حتى يجد الاسرائيلي ما يستهدفه في العمق اللبنانيّ نفسه أيضاً. وإذا كان الحزب يلتزم بإبقاء المواجهة في المربع الجغرافي الضيق الأول، حتى البعيد جدا عن الليطاني، فهو لا يريد توسيع رقعة الدمار في الشكل. لكن ما يجب التوقف عنده في لبنان وخارجه، هو حجم السلاح المخزن في هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، والتي تتحرك فيها قوات «اليونيفيل» ليل نهار وتحتل إسرائيل سماءها بالمسيرات وتراقبها بأحدث التكنولوجيا التجسسية. ومن يدقق في بيانات المقاومة اليومية سيكتشف دون جهد كبير أن من أصل أكثر من عشر عمليات يومية ينفذها المقاومون في هذه المنطقة المكشوفة جوياً بالكامل، تفشل الآلة التكنولوجية – الأمنية – العسكرية الاسرائيلية في الوصول إلى أكثر من مقاتل واحد أو مقاتلين، أي أن نسبة النجاح الاسرائيلي لا تتجاوز 1 من عشرة. مع التأكيد أن المقاتلين الذين يتوجهون على دراجاتهم النارية من نقطة إلى نقطة أخرى لإطلاق الصواريخ أو المسيرات يعلمون مسبقاً أنهما يتحركون في نقطة مكشوفة بالكامل.

وعليه، ليس الغريب أن تغتال اسرائيل اثنين أو أكثر من مقاومي الحزب يومياً، بل الغريب أن تحافظ المقاومة بعد نحو إحدى عشر شهراً من المواجهات على القدرة على الحركة فوق الأرض، خصوصا في هذا المربع الصغير الذي لا تغيب المسيرات الإسرائيلية عن سمائه ولو لبضعة ثواني، والأغرب هنا وما يفترض أن يكون مدعاة فخر كبير للبنانيين هو أن تحركات الجيش الاسرائيلي تكاد تكون معدومة بالكامل في المستوطنات المهجرة (لأول مرة بتاريخ الصراع مع إسرائيل) ولا تتحرك دبابة الميركافا خارج مخبأها إلا ويطالها صاروخ المقاومة فوراً، فيما طور المقاومون أساليب جديدة للتحرك داخل القرى اللبنانية الحدودية بحيث لا تتجاوز نسبة النجاح الاسرائيلي في اكتشافهم سوى نحو 1 من عشرة.

ثالثا: التزام المقاومة على نحو استثنائي، بحصر الاستهداف للنقاط العسكرية والأمنية، رغم كل الضغط الأمني والعسكري والإعلامي مقابل القصف الإسرائيلي العشوائي ضمن الكيلومترات الحدودية القليلة. ولا شك هنا أن جمهور المقاومة كان وما زال يحتاج إلى صور تظهر الدمار الإسرائيلي الكبير أو الحرائق الضخمة، والتي يمكن لصواريخ بركان وأخواته تحقيقها، لكن العقل البارد الذي يدير المقاومة يؤكد أن الوقت ليس لما يطلبه المستمعون أو لإرضاء الجماهير، بل إيصال الرسائل الأمنية المكثفة من جهة، ومنع الاسرائيلي من لعب دور الضحية واستعطاف العالم من جهة أخرى. ولا شك أن المقاومة ستكشف يوماً ما عن عدد النقاط الأمنية التي أصابتها مقارنة بعدد الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها، وعدد النقاط الأمنية التي أصابها الإسرائيلي مقارنة بعدد الصواريخ التي أطلقها لتبين أن الحرب لا تقاس يحجم الدمار الذي تحقق إنما بحجم الأهداف التي أصيبت.

رابعا: بعد ثلاثة أسابيع من الاستنفار الإسرائيليّ – الأميركيّ الكامل، معطوفة على عقدين من الرصد الاسرائيلي التكنولوجي الهائل، يستنفر سلاح الجو الاسرائيلي - مدعوماً من كامل المنظومة العسكرية الاميركية – لتحلق أكثر من مئة طائرة قتالية اسرائيلية جنباً إلى جنب طائرتين مزودتين برادارات رصد خاصة وطائرتي وقود، في أكبر هجوم جوي منذ حرب العراق، دون أن ينتج عنه رغم كل الصخب إصابة نقطة عسكرية فاعلة واحدة، في أكبر فشل استخباراتي اسرائيلي - أميركي من جهة وأكبر فضيحة على مستوى العمل العسكري الاستباقي من جهة أخرى. وما فعله الحزب هنا على مستوى التضليل وتمويه النقاط العسكرية الحقيقية وإفراغ المراكز والنقاط التي تثق المقاومة بان العدو يعرفها، يمثل اكبر انجاز عسكري واستخباراتي وامني للحزب منذ السابع من أكتوبر. إضافة إلى قول الحزب لبيئته أولاً وقاعدته الأساسية أن الخروقات الاسرائيلية أو الاغتيالات الناجحة سببها الاستخفاف غالباً، أما حين يتعامل الحزب بجدية واحترافية فلا يمكن للعدو أن يعرف شيئاً. مع التأكيد هنا أن الحزب لم يفرض استنفارا امنيا فرض غياب بنى تنظيمية عن السمع والنظر سوى مرة واحدة فقط منذ السابع، وقد حصل ذلك فجر الأحد الماضي، وهو اجراء استمر لساعات معدودة فقط.

وإذا كان «إنجاز التضليل» قد عطل الضربة الاستباقية ضمن نطاق جغرافي ضيق جداً، فإن العقل الاستخباراتي الاسرائيلي يتخيل منذ فجر الأحد ما ستكون عليه الأمور في أية مواجهة مقبلة ضمن جغرافيا أوسع بكثير ومن عدة جبهات. فإن انطلاق العملية العسكرية من جانب الحزب بعد اقل من ساعة على «السبق الاسرائيلي»، ومن خلال أسلحة تقليدية، جاء ليثبت أن الاستنفار الاسرائيلي – الأميركي الكامل والتكنولوجيا والقبب والصواريخ الاعتراضية والمقالع والتهديد والوعيد لم يوفروا الحماية لاسرائيل، ولم يمنعوا المسيرات التقليدية من الوصول إلى أهدافها، فكيف سيكون الحال، في حال تقرر استخدام الأسلحة الاستراتيجية الدقيقة. مع العلم أنه كان بمقدور جيش الاحتلال تنظيم جولة مباشرة – في حينه – لصحافييه إلى القاعدة الاسرائيلية لإظهار فشل الحزب في الوصول إليها لم لو يكن قد وصل فعلاً وألحق بها دماراً لا يمكن تغطيته بيومين أو أكثر.

وإذا كانت ضاحية بيروت قد قابلها ضاحية تل أبيب، والقائد العسكري في المقاومة تقابله القيادة الاستخباراتية في الجيش الاسرائيليّ، فإن الرسائل من إحباط العمل العسكري الاستباقي الاسرائيلي إلى مواصلة الحزب لعمليته بأسلحة تقليدية كانت أكثر تفصيلاً وتعقيداً مما يمكن للعابرين أن يلحظوا. ومع ذلك فإن العقل الاسرائيلي الذي قرر أن يغتال فؤاد شكر في الضاحية واسماعيل هنية في طهران يمكن أن لا يرتدع وأن يواصل الاغتيالات دون أن يغير ذلك من ثبات المقاومة ووضوحها: الإسناد شيء، والرد على الاغتيالات حين تتجاوز مثلث الإسناد شيء آخر.

تعليقات: