راشيا ـ
«من يعمل على عصر العنب هو «البرّاك». أما من يشرف على طبخ العصير فهو «الشيخ»، لأنه يتمتّع بخبرة عالية وله الرأي الأول». «الدنيا مقامات» في عالم صناعة دبس العنب واستخراجه، كما يتضح من حديث المزارع علي أبو فاعور. يستعيد هذا الأخير من ذاكرته الثمانينية أيام الخير في صناعة دبس العنب، قبل أن تحلّ الماكينات مكان اليد العاملة. تعلو وجهه ابتسامة دافئة وهو يتذكّر: «رزق الله على أيام زمان، كنا نقصد الكروم لقطف عناقيد العنب، ثم ننقلها إلى المعصرة لتحويلها إلى دبس. كنا نجتمع كأننا في عرس. تتعالى الأغاني والأهازيج، فنلهو ولا نبالي بالتعب، إذ يكون همّنا الوحيد هو جمع المحصول قبل أن يقضي عليه فصل الشتاء».
فصناعة الدبس تعتبر المورد الأساسي لمئات المزارعين في منطقة راشيا الوادي، لكنّ موجة التحديث طالت هذه الصناعة المحلية الخاصة، كما طالت غيرها، لتختصر المكننة الوقت الذي يستغرقه التصنيع، حاملة معها طقوس الصناعة وتقاليدها، ولتعرّض عمل «سواعد» كثيرة للبطالة، كما يؤكد حديث المزارع الثمانيني: «كان العمل يستغرق في سنوات الخير (حين يكون المحصول وفيراً) شهرين أو أكثر. أما اليوم، فقد قلب دخول الآلة إلى المعاصر الحديثة جميع الموازين. الضحية الأولى كانت «جمعة» الناس للتعاون على إنهاء الموسم. أصبحنا نفتقد الطقوس البدائية التي كنا نتّبعها، كتنقية العنب من الشوائب وعصره يدوياً، ثم طبخه على نار قوية وقودها الأخشاب ونبتة البلان، إلى نقل العصير بواسطة أوعية فخارية أو معدنية أو نحاسية ليصفّى قبل أن يفرغ في «الخلقينة» التي يُغلى فيها المزيج».
انسحبت هذه الطقوس أمام سرعة وفعالية المعصرة الحديثة في إتمام المهمة. فالمكننة التي دخلت اليوم في صناعة الدبس «حلّت محل اليد العاملة كما حلّت الكهرباء والمازوت محلّ نار الحطب، والأنابيب محلّ الأوعية النحاسية والمعدنية، لتصبح عملية عصر العنب وتحويله إلى مادة الدبس أسرع بكثير مما كانت عليه»، كما يقول صاحب «المعصرة الحديثة»، الشيخ إبراهيم القضماني. ويضيف «توصّلنا أخيراً إلى طريقة توفر الكثير من الوقت والعمال. فقد كان إنتاج كل 100 ليتر من عصير العنب يستغرق 40 دقيقة بعد أن تسحب منه كمية المياه ويطبخ على البخار. أما الآن، فقد أصبح إنتاج كل ألف ليتر يستغرق عشرين دقيقة فقط».
إلا أنّ هذه الإنجازات الفردية، كما يطلق عليها القضماني، لا تكفي وحدها من دون الدعم الرسمي. فهذه صناعة تحتاج إلى تطوير ودعم مستمرّين كما يقول، لذا على وزارة الزراعة «الاهتمام أكثر بهذا القطاع من حيث توفير القروض الطويلة الأمد، وإجراء دورات للإرشاد وتدريب المزارعين، وتوفير الأدوية الزراعية لهم بأسعار متدنية، والعمل على وقف استيراد هذه المادة من البلدان المجاورة مع المساهمة في تأمين تصريف الإنتاج».
فمهما تبدّلت أساليب صناعة دبس العنب، يظل موسمه قائماً، ينتظره أهالي راشيا الوادي من عام إلى عام.
تعليقات: