الحرب ترسم خرائط المنطقة: صراع الكيانات الصغرى والكبرى والعظمى

حكومة نتنياهو تلعب على وتر استعادة إسرائيل الكبرى
حكومة نتنياهو تلعب على وتر استعادة إسرائيل الكبرى


تنازع المنطقة على وقع "المصطلحات الكبرى". الشرق الأوسط الجديد أم القديم. فلسطين من النهر إلى البحر، أم إسرائيل من النيل إلى الفرات، أو ما أصبح يُعرف لاحقاً بالصراع بين "إسرائيل الكبرى" و"إسرائيل العظمى". سوريا الكبرى أم سوريا المفيدة. لبنان الكبير أم جبل لبنان بحدود المتصرفية، أم لبنان الأكبر. في نظرة سريعة على قوى إقليمية أخرى، وبالنظر إلى الأدوار السياسية للدول كإيران مثلاً، فهي تمثل سلوكاً فيه نوع من إحياء أحلام إمبراطورية عبر توسيع النفوذ وفتح الساحات وتعزيز الدور. الأمر نفسه ينطبق على تركيا التي اتهمت أيضاً بإحياء أحلام السلطنة العثمانية منذ التدخل في سوريا، العراق، وحتى ليبيا بالإضافة إلى الإستعداد للتدخل في فلسطين.


إعادة رسم المنطقة

تُعاد هذه المصطلحات على وقع حرب إسرائيلية مدمرة في غزة والضفة الغربية. هي حرب تريد إسرائيل فيها العودة إلى الأساطير التلمودية لبناء "إسرائيل الكبرى" على حساب الفلسطينيين شعباً، ودولة، ديمغرافيا وجغرافيا. تعود الحكومة اليمينية الإسرائيلية إلى اللعب على وتر استعادة "إسرائيل الكبرى" وما يعنيه ذلك من السيطرة على قطاع غزة والضفة الغربية، في مواجهة ما كان أحد أبرز زعماء إسرائيل اليساريين شمعون بيريز قد اقترحه وهو استبدال إسرائيل الكبرى بإسرائيل العظمى، أي تعزيز الدور الإقتصادي والتأثير في دول المنطقة المحيطة من خلال الإقتصاد وإدارة الثروات والإتفاقات السياسية. وهذا ما ينقلب عليه نتنياهو في حروبه الدموية والتي يسميها حرب الوجود ما بعد عملية طوفان الأقصى.

ما يتفق عليه الخصوم أو الأعداء، أن ما تمرّ به المنطقة حالياً هو حرب جديدة لإعادة رسم ملامح هذه المنطقة، تماماً كما رسمت ملامحها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. تريد إسرائيل نتنياهو فرض شرق أوسط جديد عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بوضوح خلال كلمته أمام الكونغرس الأميركي، وهو كلام مستعاد عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس. في المقابل، أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله أعلن أن هذه الحرب هي لرسم وتحديد ملامح المنطقة وتقرير مصيرها للسنوات المقبلة. ما بين المعادلتين وفي ظل انخراط حزب الله بالحرب السورية، أو بمعادلة وحدة الساحات إلى جانب غزة والضفة واليمن، يحال لبنان الدولة إلى عنصر ثانوي أو هامشي. وهو ما ينتج صراعات سياسية متناسلة ومتسلسلة آخرها السجال المفتوح حول انتهاء دور لبنان أو وظيفته، أو سقوط فكرة لبنان الكبير التي يطرحها البعض ما يثير حساسية وغضب الطرف الآخر، والذي يلجأ إلى الردّ على طريقته التي تبلغ أحياناً حدّ المطالبة بالعودة إلى لبنان الأصغر أي لبنان المتصرفية.


لبنان الكبير وسوريا الصغرى

يمكن لهذا السجال أن يطول وتتأسس عليه جولات جديدة من الإنهيار أو التحلل أو حتى الولوج إلى حقبات جديدة من مدارات العنف وإن لم يكن هذا العنف الأهلي عسكرياً أو حربياً، فيمكنه أن يكون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولكن بالعودة إلى الواقعية المتماهية مع الحدث، طروحات تصغير الكيان تأتي غالباً عندما يكون هناك طرفاً مقابلاً يرغب في توسيع كيانه. وهذا ما حصل مع حزب الله عندما دخل إلى الحرب السورية، فتم تهجير الكثير من القرى والبلدات والمدن السورية والسيطرة عليها، وما يطال لبنان في هذا المجال هو سيطرة الحزب على القرى السورية المحاذية للسلسلة الشرقية فأصبحت سيطرة الحزب واحدة من البقاع إلى القصير والقلمون أو ريف دمشق، وهو ما سيعتبره الحزب، تكريساً لمعادلة لبنان الأكبر بدلاً من لبنان الكبير، وما سيكرسه أكثر في معادلته لوحدة الساحات لا سيما عندما يتم تقديم الحزب كقوة إقليمية مؤثرة في مجريات وتطورات أحداث الإقليم. لكن هذه المعادلة أيضاً، وبالنظر إلى عناصر وقوى إقليمية أخرى، تظهر سوريا وكأنها هي التي أصبحت "سوريا الصغرى" أو عادت إلى سوريا المفيدة وفق منطق النظام، فتقلصت مساحات شاسعة وخرجت عن سيادتها.

في المقابل، يأتي خصوم الحزب على ذكر تطورات المواجهة المفتوحة بينه وبين إسرائيل منذ أكثر من عشرة أشهر، على قاعدة الإنتقاد والإعتراض حيال ما أنتجهته هذه الحرب من دمار وتهجير لسكان الجنوب، ويذهب بعضهم أبد من ذلك إلى اعتبار أن الإسرائيليين يعتمدون سياسة ممنهجة للتدمير والتهجير ولإلغاء مقومات الحياة على كل الشريط الحدودي وبعمق 10 كلم، ما يعني العودة إلى لبنان الأصغر.


الحرب الطويلة

يمكن لهذه الصراعات والسجالات أن تطول طالما المعارك في المنطقة مفتوحة ومستمرة، وعلى الأرجح هذا ما سيحصل، طالما أن الساحات مرتبطة بعضها ببعض، في مقابل وجود سياسة إسرائيلية واضحة حول التوسع والقضم، مقابل سياسة أميركية مكبلة وغير قادرة على التأثير. فبسبب الظرف الإنتخابي يفضل الأميركيون الحلول الديبلوماسية أو اعتماد السياسة القائمة حالياً بانتظار انتهاء الإنتخابات، وذلك ينتج عنه إستمرار الدعم لإسرائيل مع التحفظ على بعض تصرفات نتنياهو ولكن من دون ممارسة ضغوط جدية عليه لدفعه إلى تغيير مواقفه أو سياسته. في المقابل نتنياهو يتصرّف وكأنه يريد لنفسه أن يكون قد ربح المعركة، ولذلك يعمل على توسيع المواجهة من غزة باتجاه الضفة الغربية، مع إصراره على استمرار الحرب والسيطرة على محور فيلاديلفيا. وما يجري في عملية التفاوض هو محاولات مستمرة من نتنياهو لفرض ميزان قوى جديد بالمعنى السياسي أو التفاوضي بدلاً من فرضه عسكرياً، لن يكون مقبولاً من قبل حركة حماس أو أي من المفاوضين والوسطاء.

الموقف العربي يبدو أقرب إلى الموقف الأميركي من دون تقديم تصور سياسي شامل لإيجاد حلّ لوقف إطلاق النار ولما بعده، على الرغم من تكرار المواقف التي تشير إلى حلّ الدولتين، ولكن الإستراتيجية الإسرائيلية الأساسية هي تجاه الضفة أكثر من غزة، لكن ما تريده إسرائيل هو القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية، وإمكانية بناء دولة مستقلة للفلسطينيين. وهو ما يعني أن الحرب ستكون طويلة وعلى كل الجبهات.


التسوية اللبنانية

أمام هذه المعادلة بوقائعها المشهودة، فإن لبنان يسير على طريق الإضمحلال، إذ فقدت القوى السياسية القدرة بالكامل على القيام بأي خطوة للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات، بما يحفظ لبنان الكبير، في المقابل فإن من يطالب بتصغير الكيان أو التقسيم فهو لا يمتلك المقومات الفعلية لتحقيق طرحه أو توفير مقومات حياته، لا سيما أن موازين القوى لا تسمح لأصحاب هذا الطرح بتحقيقه. عملياً، ليس مطروح أمام لبنان سوى نقطتين تنتظران توافر الظروف العسكرية والسياسية الإقليمية وانعكاسها على الداخل لإعادة انتاج تسوية شاملة تحفظ بقاءه كدولة، فما هو مطروح على المستوى السياسي واضح وهو اتفاق الطائف وتسوية من ضمنه حتى وإن كان بنظر البعض قد تجاوزه الزمن، أما المطروح على مستوى تجاوز التطورات العسكرية فهو القرار 1701، بغض النظر عن أن الأحداث والمواجهات وسياقاتها قد تجاوزته.

تعليقات: