هل يلجأ سلامة إلى سياسة فضح أسماء كل من شاركه في جرائمه المالية؟ (فرح منصور)
بكل ثقة وطمأنينة، دخل حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، قصر عدل بيروت اليوم الثلاثاء مُبتسمًا، متأملًا وجوه المتواجدين داخل النيابة العامة التمييزية، وتوجه نحو مكتب المدعي العام التمييزي، القاضي جمال الحجار، بوجه "بشوش".. لكنّه خرج غاضبًا ومُتفاجئًا أيضًا، بعدما اعتقلته عناصر المباحث الجنائية المركزية وحاوطته من جميع الاتجاهات، ونقلته إلى السجن بعد انتهاء جلسة استجوابه. ولم يكن مُتاحًا أمامه سوى خلع سترته الرسمية ووضعها على يديه، خوفًا من أن تلتقط عدسات وسائل الإعلام صورته وهو يُساق إلى السجن مخفور اليدين.
الحدث: توقيف سلامة
ليس تفصيلًا قرار توقيف سلامة اليوم الثلاثاء 3 أيلول 2024، أي بعد مرور أكثر من 14 شهرًا على انتهاء ولايته كحاكم مصرف لبنان المركزي. منذ أيام، حددت جلسة استجواب لسلامة أمام المدعي العام التمييزي، وأبلغ بواسطة رئيس المباحث الجنائية المركزية، العميد نقولا سعد.
والمعروف عن سلامة، أنه لا يقترب من محيط العدلية، إن لم يحصل على ضمانة فعليّة (سياسية طبعاً) بعدم توقيفه. ففي كل مرة كان يُطلب فيها إلى التحقيق، كان يحصل على هذه الضمانة من القضاة ومن السلطة السياسية. وعلى ما يبدو أنه اليوم لم يكن يتوقع أن يُساق إلى السجن فجأة. ما يعني أن السلطة القضائية نجحت باستدراج سلامة إلى قصر عدل بيروت.
على أي حال، بعد دخوله جلسة الاستجواب، حُقق معه في ملفات مصرفية عدة، ومن ضمنها ملف شركة "أوبتيموم" (راجع "المدن"). وبعد ثلاث ساعات من الاستجواب، حاوطته عناصر المباحث الجنائية المركزية برفقة رئيس هذا المكتب، ونقلوه إلى سجن داخل مبنى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
وحسب مصادر "المدن" القضائية، فإن سلامة أوقف رهن التحقيق لمدة أربعة أيام، وفقًا للقانون اللبناني، وسيُحوّل للنيابة العامة ومن ثمّ إلى قاضي التحقيق الذي سيتولى متابعة ملفه واستجوابه. وأكدت المصادر أن القاضي الحجار استجوب الكثير من الأشخاص في ملفات مصرفية قبل أن يستدعي سلامة إلى التحقيق. وجرى توقيفه بناءً على شبهات اختلاس من مصرف لبنان يفوق الأربعين مليون دولار أميركي، إضافة إلى الشبهات التي تحوم حول ملف أوبتيموم.
وثائق وأدلة
في السياق نفسه، حصل الحجار في الفترة الماضية على الكثير من الوثائق والمستندات من المصرف المركزي، وذلك بما يتعلق بملفات مصرفية قرر التحقيق فيها بنفسه، بعد أن قرر سحبها من يد القاضية غادة عون. والمؤكد أن قرار توقيف سلامة مبنيّ على أدلة ووثائق تؤكد تورطه في الكثير من الملفات.
وحسب معلومات "المدن"، فقد جرى توقيفه بناءً على تحقيقات موسعة باشرت بها النيابة العامة التمييزية منذ أسابيع، تتعلق بملفات مصرفية متنوعة، وبفضائح متعلقة بمصرف لبنان، وبملف شركة "أوبتيموم"، المعروفة أنها من أكبر فضائح المصرف المركزي، والتي ذكرت في التقرير الجنائي، والتي حققت أرباحاً خيالية من مصرف لبنان.
إذن، ما حصل اليوم هو مسار قضائي كان من المفترض أن يُطبق منذ سنوات، وهذا يعني أن المرحلة المقبلة ستكون من أهم المراحل وأكثرها حساسية، قضائيًا وسياسيًا، وذلك انطلاقًا من الأقوال التي قد يفجرها سلامة خلال التحقيقات.
التخلي عن سلامة؟
عمليًا، يظهر اليوم أن السلطة السياسية تخلّت عن سلامة، أو بمعنى أدق سلّمت رأسه للقضاء اللبناني، فما أهمية هذه الخطوة في هكذا توقيت؟
في بادئ الأمر، كان لافتًا سياسة النأي بالنفس التي اعتمدها رئيس مجلس الوزراء، نجيب ميقاتي، من خلال تعليقه بأن "قرار توقيف سلامة هو قرار قضائي، ولن نتدخل فيه"!. ونحن ندرك جيدًا، أن السلطة السياسية حين تردد عبارة "ليتخذ القضاء مجراه"، يعني أنها رفعت الغطاء السياسي عن الشخص المطلوب.
والمعلوم أن السلطة السياسية لم تتجرأ يومًا على الاقتراب من سلامة، لأنه "بنك أسرارها"، فهو الذي يعرف أسرار المنظومة بأكملها، وهو المعاون الأول لها في تسهيل مصالحها، وتهريب أموالها وما إلى هنالك، كما أنها تدرك أن توقيف سلامة ليس سهلًا، لأنه لن يقبل بأن يُورّط وحده بأزمة الانهيار أو بأي فضائح ماليّة داخل مصرف لبنان. وهذا يؤكد أن سلامة قد يتجه إلى استخدام أسلحته داخل القضاء اللبناني، أي أنه قد يلجأ إلى سياسة فضح أسماء كل من شاركه في جرائمه المالية أو من ساعده على تنفيذها. لذلك من المتوقع جدًا أن نشهد حلقات شيقة جدًا خلال الأيام المقبلة، ربما تتكشف فيها الكثير من الأسماء السياسية البارزة، وعن تورطها في الفضائح المصرفية.
لذلك، الكثير من الأسئلة تُطرح اليوم. لِمَ تخلّت السلطة السياسية عن سلامة؟ ولِمَ رُفع الغطاء السياسي عنه في هذه المرحلة تحديدًا؟ وما هي تفاصيل المرحلة المُقبلة؟
مصادر مُتابعة تؤكد لـ"المدن" أن قرار توقيف سلامة كان مُفاجئًا، فالحجار اتخذ خطوة جريئة جدًا، ولكن ما أسباب هذه الخطوة؟ لا أحد يعلم. وسنكون بانتظار المرحلة المقبلة ليُبنى على الشيء مقتضاه.
ولعل السؤال الأبرز الذي يُطرح اليوم داخل أروقة قصر عدل بيروت؛ هل توقيف سلامة يعني أنه تورط ولن يتمكن من الخروج من هذا المأزق؟ الجواب كلا!
في الواقع، خلال الأيام المقبلة سيدعي الحجار على سلامة بمجموعة جرائم منسوبة إليه وفقًا لتحقيقات الحجار، وسيحوّل الملف من النيابة العامة التمييزية إلى النيابة العامة الاستئنافية، وبموجب ورقة الطلب، سيحول سلامة لقاضي التحقيق في قصر عدل بيروت، ومن المتوقع أن يحول لقاضي التحقيق الأول، بلال حلاوي. وهنا يقرر الأخير بعد تحديد جلسة استجواب سلامة، إما إصدار مذكرة توقيف وجاهية وإعادته إلى السجن، وهذا يعني أن مكوث سلامة داخل السجن سيكون طويلًا، وإما تركه رهن التحقيق لقاء كفالة مالية أو من خلال منعه من السفر (علمًا أنه ممنوع من السفر والنيابة العامة التمييزية صادرت جوازات سفره).
وعليه، جميع هذه الأسئلة ستُكشف خلال المرحلة المقبلة. وكل الأمل بأن يكون توقيف سلامة هو بداية لملاحقة جميع الفاسدين والمتورطين في قضايا فساد، ولكل من تسبب بالأزمة المالية.
تعليقات: