عاد المتقاعدون إلى الشارع بجماهيريّة واسعة (علي علوش)
كانت الوعود الحكومية هي كوّة الأمل اليتيمة الّتي عوّل عليها عسكر لبنان المتقاعد، كمعبرٍ إلزاميّ للوصول إلى حقوقهم ومستحقاتهم الماديّة بقيمتها الحقيقيّة، والّتي انتزعت منهم قسرًا طيلة سنوات الانهيار الخمس. وبين الرجاء والمطالبة والتفاوض والتسويف، ضاقت هذه الكوّة، وضاق معها ذرع هؤلاء، المصرّين على اعتبار ما تعرضوا له، غبنًا وتجهيلًا مقصودًا، وإجحافًا مستمرًا، أكان في مشروع الموازنة العامّة الحاليّة والّتي سبقتها أو في تطبيق المراسيم والقرارات.
اليوم وبعد شهورٍ طويلة على احجامهم النزول إلى الشارع العموميّ، عاد متقاعدو القوات المُسلّحة إلى ساحات التظاهر في بيروت، ونجحوا للمرة الثانيّة في هذا العام (راجع "المدن") بإجبار الحكومة على إرجاء جلستها. عاد هؤلاء بجماهيريّةٍ واسعة وتصميم مدفوع بنيّة استئناف النزول إلى الشارع، وفرض التعطيل حتّى تحقيق المطالب، وسط تبرمٍ رسميّ، لم يوفر أصحاب القرار و"مصادرهم" الفرصة في التعبير عنه.
اعتصامٌ عامّ
منذ حوالى السادسة من صباح اليوم، الثلاثاء 10 أيلول، بدأت جموع المتقاعدين المُلبين لدعوة سواد الروابط، بالتوافد إلى محيط السراي الحكوميّ لغاية واحدة وحسب وهي "تعطيل جسلة مجلس الوزراء"، الّتي لم تُراعِ، برأيهم، الوعود الّتي طُرحت لإنصافهم وإعطائهم حقوقهم من خلال خطّة تصحيح الرواتب والأجور. والتقت جموع الوافدين بمجموعة أكبر من الذين حضروا إلى الساحة الخارجيّة للسراي الحكوميّ وتحديدًا ساحة رياض الصلح، منذ مساء الأمس. في وقتٍ توزعت فيه فرقٌ من المتظاهرين عند مختلف الطُرق الرئيسيّة والفرعيّة المؤدية إلى السّراي، من زقاق البلاط وصولًا إلى ساحة النجمة، واحرقوا الإطارات، لمنع دخول الوزراء، والحؤول دون اكتمال نصاب الجلسة.
وبعد تلاوة البيانات وترديد الاهازيج، زحف "جيش" المتظاهرين باتجاه السرايا الحكومي بنيّة اقتحامه، متأججين غضبًا من انتشار الأسلاك الشائكة والمظاهر الأمنيّة المتفاقمة، حيث كانت عناصر مكافحة الشغب معززةً بفرقة للجيش اللّبنانيّ جاهزة لصّدهم، وإجبارهم على التراجع. إلّا أن المتظاهرين أصرّوا على مساعيهم، وتجمهروا لفكّ الأسلاك الشائكة، متجاهلين التهديدات الّتي أطلقتها العناصر الأمنيّة، وقاموا بفكها بالفعل ليقتحموا المدخل الخارجيّ الذي انتشرت فيه القوى الأمنيّة، والّتي بدورها حاولت تهدئتهم ومنع مشاهد الشغب الّتي تحصل كل مرة في تظاهرات المتقاعدين. هذا في وقت شوهد فيه تحليق لطائرة استكشاف تابعة للجيش من نوع "سسنا" لمراقبة تحرك العسكريين المتقاعدين في الوسط التجاريّ.
وهذه التظاهرة الّتي حضرها العشرات من المتقاعدين وذويهم، من مختلف المناطق اللّبنانيّة، اتسمت بطابع تصعيدي في الخطاب والاندفاع، تجلى تباعًا في المشهد الاحتجاجيّ اليوم. ومن العاصمة بيروت، التّي شهدت زحمة سير عند كل مداخلها، فاقت الزحمة المعتادة، تبنى المتقاعدون لائحة المطالب الّتي جاءت كاستعادة للمطالبات السّابقة، وأبرزها ما يلي:
"وقف الحكومة العطاءات الاستنسابيّة على مختلف مسمياتها والتّي لا تهدف إلا لحرمان المتقاعد من الاستفادة منها؛ تحديد الحدّ الأدنى الانسانيّ للأجور للرتب والفئات الدنيا التّي لا يزيد راتبها اليوم عن 120 دولارًا أميركيًّا، وبالتّالي تحديد تكلفته الإجماليّة من الاعتمادات المرصودة؛ الاقتطاع من الاعتمادات المرصودة في الموزانة قيمة تكلفة الحدّ الأدنى المتوافق عليه وتوزيع الباقي بعد الاحتساب بالتساوي على الجميع، ومهما بلغت قيمته، حرصًا على الاستقرار النقديّ وسعر الصرف؛ إقرار الحكومة اليوم خطة مرحليّة لتصحيح الأجور وفقًا لتنامي مداخيل الدولة وبما يحفظ الاستقرار النقدي؛ وجوب إدماج جزء من الزيادة في أساس الراتب حفظًا لحق الموظف بتعويض تقاعدي عادل؛ ووضع خطة مع مفعول رجعي لتصحيح قيمة التعويضات التقاعديّة وفقًا لسعر صرف عادل للدولار الأميركي".
التفاعل الرسميّ مع التظاهرة
وبعد إعلان الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، قرارها بتأجيل جلسة حكومة تصريف الأعمال التي كانت مُقررة اليوم إلى موعد يُحدد لاحقًا، بسبب عدم اكتمال النصاب. تهافتت التصريحات الرسميّة الصادرة عن مصادر لرئاسة الحكومة وأخرى وزاريّة انتقدت تأجيل الجلسة. إذ أكدّ المستشار الإعلاميّ لرئيس الحكومة فارس الجميّل، أن من حق المواطنين التعبير عن مطالبهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، بما في ذلك تحرك العسكريين، لكنه تساءل إن كان تعطيل جلسة مجلس الوزراء يحقق هدفهم. وأوضح أن تعطيل الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب أدى إلى تأجيل مناقشة بعض المطالب الأساسية والحلول المؤقتة بانتظار إقرار الموازنة.
ونفى الجميّل الشائعات حول عقد جلسة ثانية للحكومة، مشيرًا إلى أن ذلك يعتمد على المشاورات التي يجريها الرئيس ميقاتي. وأضاف أن جلسات متتالية كانت مقررة لمناقشة الموازنة، لكن الأمور تغيرت مؤقتًا. وشدد على أن أربعة وزراء اجتمعوا مع ميقاتي لتقييم الموقف، مشيرًا إلى أن الحكومة لم تتأخر في تحسين أوضاع العسكريين والعاملين في القطاع العام، رغم تآكل الرواتب بسبب التضخم.
هذا في وقتٍ أوضح فيه وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال، جوني قرم، أن "المقترح الأساسي كان إجراء حوار، وكنا ننتظر وصول اللواء مزهر، لكن يبدو أنه لم يُسمح له بالوصول، رغم أننا، نحن الوزراء ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، كنا بانتظاره للتشاور بشأن مطالب العسكريين".
وعن الطروحات المقدمة للعسكريين، قال: "المسألة لا تقتصر على العسكريين وحدهم، فكل إدارات الدولة تترقب ما ستسفر عنه الموازنة. ميقاتي يوجه لإصدار موازنة خالية من الديون، لأننا لا نستطيع طباعة العملة، ولا يمكننا الاقتراض. لدينا بعض المرونة في الموازنة الحالية للتحرك، وكان هناك مقترح مطروح، لكن لا يمكنني الكشف عنه قبل موافقة الوزراء والعسكريين". وأضاف قرم: "بالتأكيد هناك حل، وقد بحثنا صباحًا مع ميقاتي مقترحًا ننتظر تطوراته".
العودة إلى الشارع؟
جاءت تظاهرة اليوم لتؤشر إلى احتمال عودة التظاهرات المطلبيّة إلى الشارع قبيل إقرار موازنة 2025، معطوفة على تناسل الأزمات التي تبدأ من الشغور الرئاسي وتعطل أدوار الدولة مروراً بالمواجهات العسكريّة جنوبًا والمخاوف من سيناريو حربٍ شاملة، وليس انتهاء باعتقال حاكم مصرف لبنان السّابق رياض سلامة والدفع نحو محاسبته. فهل تكون تظاهرة اليوم أول الغيث؟
تعليقات: