تجاوزت أعداد النازحين داخليًّا حتّى أواخر شهر آب الفائت، الـ 111 ألف شخص (علي علوش)
بين الحسابات المركّبة للردع المتبادل، وتراجع إمكانيّة العودة إلى"قواعد الاشتباك" الّتي كانت مكرسة سابقًا، وواقع الاشتباكات العنيفة، المباغتة والمتصاعدة تدريجيًّا رغم أنف المفاوضات والوساطات المحليّة والخارجيّة، لا يزال أهل الجنوب اللّبنانيّ وسكّانه يعيشون في دوامة مغلقة من انتفاء اليقين، تتوسع وتضيق تبعًا لواقع الميدان. الذي بات الثابت فيه تراكم الخسائر التّي يتكبدها الجنوب لصالح هذه الحرب الّتي جاءت كقدرٍ محتومٍ ولئيم، بمساحاته الخضراء وأرزاق المواطنين وحياتهم.
النزوح والبقاء اضطرارًا
اليوم، وبعد الخضّة الّتي أحدثها اغتيال القياديّ في حزب الله، فؤاد شكر، وما تلاها من احتقانٍ بالغ في الجبهة الجنوبيّة، وتوسع رقعة الاشتباكات مع تقديرات تومئ باحتماليّة حربٍ واسعة النطاق (مع الإشارة إلى النيّة الإسرائيليّة في اتخاذ تدابير عسكريّة لـ "توفير أمن سكّان المستوطنات الشماليّة")، زادت وعلى نحوٍ ملحوظ أعداد النازحين من جنوب لبنان. والأرقام الّتي طرحها مكتب الأمم المتحدّة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (OCHA) تؤكّد هذا الارتفاع في أعداد النازحين داخليًّا بنحو 45 بالمئة عما كانت عليه منذ نحو التسعة أشهر. فقد تجاوز العدد حتّى أواخر شهر آب الفائت، الـ 111 ألف شخص (51 بالمئة من الإناث)، 94 بالمئة منهم من أقضية بنت جبيل ومرجعيون وصور، فيما قاربت نسبة الأطفال الـ 35 بالمئة من هؤلاء النازحين.
وتشير إحصاءات المنظمة الدوليّة للهجرة إلى أنّ 80 بالمئة من النازحين اضطروا للانتقال إلى منازل أقاربهم في مناطقٍ أخرى، بينما تمكّن 17 بالمئة منهم من استئجار منازل مستقلة، فيما تمكّنت المنظمات الدوليّة من تلبية حاجات السكن لـ 2 بالمئة فقط من النازحين (وتحديدًا اللاجئين).
الأكثر تهميشاً
إلّا أن الزيادة الأخيرة في أعداد النازحين، يُقابلها واقع تواجد ما لا يقل عن 150 ألف شخص في المناطق الخطرة في جنوب لبنان -وفق التقرير الآنف الذكر- أي مقيمين في مسافة ضمن 10 كيلومترات من الحدود، ويعايشون يوميات الجبهة الجنوبيّة برمتها من عمليات عسكريّة وقصف مدفعيّ وغاراتٍ جويّة عنيفة، فضلًا عن الحرائق المُفتعلة من قبل قوات الجيش الإسرائيليّ للمناطق الحرجيّة والمساحات الخضراء. وهذا الرقم أساسًا يفوق أعداد النازحين، الذين تمكنوا من مغادرة المناطق الشاهدة على سخونة المعركة. وتتباين الأسباب الّتي تحول دون نزوح هؤلاء، أكان لغياب خطط رسميّة للطوارئ لإجلاء المعرّضين للخطر في هذه المناطق، أو لمجرد كون سواد الذين بقوا اضطرارًا (وهم إما من الفئات المهمشة والأجانب، أو من المُفقرين)، غير قادرين على تأمين بدائل سكن في مناطق آمنة.
يُذكر أن تقرير الـ OCHA، أشار إلى أن التوتّرات في جنوب لبنان بلغت مستوى حرجاً خلال الأسابيع الثلاثة الماضية مع احتدام الصراع، بما زاد الخطر على المدنيين. واعتبر أن الوضع الأمنيّ حول الخطّ الأزرق لا يزال متقلبًا (المناطق الخطرة كما هي مبينة في الخريطة أدناه).
*الخريطة الّتي تصدرها منصة "مختبر المدن" التابع للجامعة الأميركيّة في بيروت، ترصد التصعيد على امتداد الحدود الجنوبيّة اللّبنانيّة، عارضةً التباين في حدّة النزاع هناك من خلال العدد اليوميّ للغارات ومتوسط عمق للضربات القادمة من الحدود.
معاناة مضاعفة
أما اللافت، فإن تقديرات أعداد النازحين المطروحة، فضلًا عن الخطّة الحكوميّة للطوارئ، لا تشمل بالضرورة أعداد اللاجئين والسّوريّين والفلسطينين، فضلًا عن العمّال المهاجرين من الجنسيات المتنوعة (راجع "المدن"). هؤلاء الذين يعايشون يوميات الحرب بجرعات إهمالٍ مضاعفة (راجع "المدن"). وحتّى اللحظة، فإن الجزء الأكبر من هؤلاء مضطرين للبقاء في المناطق السّاخنة والخطرة، بسبب غياب أي سُبل لبدائل سكنيّة أخرى. وذلك إما لتأجير السكّان المضطرين للنزوح أراضيهم المتروكة لهؤلاء لحمايتها واستصلاحها في غيابهم، أو لرفض البلديات استقبالهم، كما هو حال اللاجئين السّوريّين الذين يقاسون الويلات في هذا السّياق تحديدًا (راجع "المدن")...
تشرح الناطقة باسم المفوضيّة السّامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ليزا أبو خالد، في حديثها إلى "المدن" التحديات الّتي يعيشها هؤلاء، والمساهمات الّتي تُقدمها المفوضيّة في هذا المضمار، قائلةً: "التوترات الحاليّة في جنوب لبنان وأي تصعيد محتمل - بالإضافة إلى الأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المستمرة - تُشكل تحديًّا لجميع المجتمعات، الّتي تستحق بالتساوي الشعور بالأمن والأمان. تعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بلا كلّل لتقديم المساعدة والحماية العاجلة للمتضررين، سواءً من اللبنانيين أو اللاجئين. يشمل ذلك ضمان الوصول إلى مأوى آمن، الرعاية الصحيّة، والدعم النفسيّ والاجتماعيّ، بالإضافة إلى الدعوة لحماية حقوقهم في ظل هذه الظروف الصعبة".
تستطرد قائلة: "تساعد المفوضية وشركاؤها الحكومة اللّبنانيّة في تقديم المساعدة للمتضررين، وهم مستعدون لتقديم المزيد من الدعم حسب الحاجة. وضعت المفوضية خطط طوارئ وهي جاهزة لتلبية احتياجات الأفراد المتضررين، بما في ذلك اللبنانيين واللاجئين، الذين قد يُجبرون على النزوح بسبب الوضع الحالي. واستجابت المفوضية بالفعل خلال الأشهر الأخيرة لحالات محددة من الأشخاص - اللبنانيين واللاجئين - الذين نزحوا بسبب الوضع في الجنوب.
منذ بداية الأزمة في تشرين الأوّل 2023، قدمت المفوضية الدعم الأساسي للأفراد النازحين في جنوب لبنان من خلال تقديم مواد الإغاثة الأساسيّة، بما في ذلك أكثر من 34,000 سترة شتوية، 29,000 حصيرة نوم، 19,700 مرتبة، 18,200 بطانية، 7,200 مصباح شمسي، 7,300 مجموعة مطبخ، 185 شوادر بلاستيكية، 120 موقد خشب، و114 سخان غاز. وقد تمّ توزيع هذه المواد بواسطة وحدة الحدّ من مخاطر الكوارث في صور والزهراني ووحدة إدارة مخاطر الكوارث في محافظة النبطية. كما تم تخزين مواد إغاثة طارئة إضافية للاستجابة لأي تصعيد محتمل".
وأشارت إلى أن المفوضيّة دعمت خمسة مواقع تقدم مأوى جماعيّاً للعائلات النازحة، مما يسهل الوصول إلى المياه، ويعزز الخصوصيّة من خلال الفصل بين الجنسين، ويقوم بأعمال ترميم. وفي تموز الفائت "تلقى أكثر من 3,495 من اللبنانيين واللاجئين مساعدات نقدية للمأوى، بينما تم ترميم 50 وحدة سكنية للعائلات، ودعم 167 شخصًا نازحًا بأعمال إصلاح في مأواهم. وقد وصلت المساعدات النقدية الطارئة للحماية إلى 6,320 من اللبنانيين واللاجئين الذين يواجهون مخاطر حماية خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، وزعت المفوضية منحاً نقدية لمرة واحدة على أكثر من 47,400 لاجئ في محافظتي جنوب لبنان والنبطية لتلبية الاحتياجات العاجلة".
المعوقون والخطر المحدق
قد تكون أكثر الفئات الّتي تُقاسي مغبة استمرار الصراع هذا، هي فئة المعوقين الذين يعيشون النكبة بجرعات مهانةٍ إضافيّة. تشرح رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًّا، سيلفانا اللقيس لـ"المدن" التحديات المركّبة الّتي يعيشها الأشخاص المعوقين في الجنوب اليوم قائلةً: "بحسب التقارير الدوليّة عن الأشخاص المعوقين بفترة الكوارث، فإن احتمال تعرضهم للموت تزيد أربعة أضعاف عن باقي الأفراد، وهذا بالطبع ناتج عن الصعوبة اللوجيستيّة لهؤلاء في الهرب والإخلاء عند الحاجة في أوقات الكوارث، أو لحماية أنفسهم. فإجمالًا يكون الأشخاص المعوقين أول الضحايا في الأزمات الطبيعيّة وكذلك في المواجهات المُسلّحة... والتحديات الّتي يواجهها الأشخاص المعوقون وتحديدًا في الجنوب فهي على عادتها وكما كانت في الحروب السّابقة، فعندما يسعى الأشخاص المعوقون للنزوح يصطدمون بواقع ضعف التجهيزات في مراكز الإيواء، وخصوصًا المعوقين جسديًّا حيث تكون المباني غير مؤهلة لتلبية حاجاتهم، أكان بالحركة أو من ناحيّة الحاجات الإنسانيّة البديهيّة مثل دورة المياه. وثانيًّا وعند غياب إدارة لهذه المراكز مُدربة على التعاطي مع مختلف حاجات الأفراد، فإن الأشخاص المعوقين يواجهون صعوبة في التأقلم مع الظروف الاستثنائيّة، كما ويواجه البعض خطر تركهم في مناطق الخطر بسبب الصعوبة اللوجستيّة المُحتمة على ذويهم في نقلهم"..
أما عن الجهود المبذولة، فأكدّت اللقيس، أنهم يعملون على مطالبة إدارة الكوارث، على إنشاء وحدة لدمج الإعاقة للاضطلاع بأدوارها وواجباتها تجاه هذه الفئة وخصوصًا لجهة الإخلاء الآمن وتأمين حاجات هؤلاء، وقد "تواصلنا مع وزير الصحّة ورئيس مجلس الوزراء، بانتظار الردّ حاليًّا".. خاتمةً: "من خلال المطابخ المجتمعيّة التابعة للاتحاد، تمكنا وبالتعاون مع جهات عدّة للوصول إلى أعدادٍ من النازحين لتقديم وجبات غذائيّة تُقدمها هذه المطابخ.. لكن هنا تجدر الإشارة إلى تراجع القدرة الاجتماعيّة للمتطوعين في المشاركة بأعمال المساعدة، خصوصًا مع ازدياد منسوب المخاطر وتراجع قدرة الأفراد على تقديم العون بسبب الظروف الحاليّة".
أولويات "الدولة" الملتبسة
ومن هذه الأرقام والمعطيات، فضلًا عن خريطة التصعيد والمناطق السّاخنة، تتضح حقيقة لم يعد من السّهل تجاوزها، وهي ارتباط حياة السكّان بالجنوب ودرجة المخاطر المحدقة بهم، بـ "حظوظهم" في الحصول على المساعدات المُقدمة من قبل المنظمات الدوليّة العاملة، أو في صلات القرابة الّتي تتيح لهم مساكن مؤقتة للإيواء في مناطق بعيدة عن الاشتباكات، أو مقدرتهم الماليّة. بينما يعمّق غياب "الدولة" كمفهوم وسلطة عن كل ما يجري، وتعطّل أدوراها الطبيعيّة لصالح عجزها وإفلاسها الدائم، هذا الشرخ.
اليوم، وبينما تدور التساؤلات وتحتدم النقاشات حول مشروع موازنة العام 2025 والذي وُضع بنفس الروحيّة والمنهج للموزانات السّابقة المُعتمدة على السّياسات التقشفيّة، يقبع في زاوية النقاشات، واقع أن الحكومة حتّى اللحظة تتعاطى مع موضوع الحرب بخفّةٍ بالغة، من دون وضعها كأولويّة وطنيّة في المرحلة الحاليّة.
في وقتٍ تبقى فيه خطّة الطوارئ الوطنيّة والّتي سُميت بـ "الخطّة الاستباقيّة"، الّتي قُدر تنفيذها بـ 120 مليون دولار أميركيّ، خطةً يتيمة لا تمويل لها، بالنظر لغياب المقدرة على تأمين الأموال اللازمة لتنفيذ مفاعيلها، نسبةً لعدم إمكانيّة الحصول على تمويلٍ دوليّ (لاعتبارات سياسيّة تتعلق بتدخل حزب الله بالحرب)، ونفاد أموال السّحب الخاصة من صندوق النقد الدوليّ التّي حصل عليها لبنان، ناهيك بعدم استعداد المصرف المركزيّ لصرف ما تبقى لديه من أموال الاحتياطي الإلزاميّ، في ظلّ سياسات ماليّة متقشفة اتفق مع الحكومة بشأنها.
لذلك اضطرت الحكومة، وبُعيد فشلها في تطبيق خطتها الاستباقيّة، لعب دور المنظم والوسيط والمتابع لأعمال المنظمات الدوليّة والإنسانيّة العاملة، وتجهيز عدد ضيئل من دور الإيواء، فضلًا عن اتكالها على الجهود الفرديّة والعائليّة والأهليّة وحسب. هذا من دون طرح موضوع التعويضات للمتضرّرين جديًّا على طاولة النقاش حتّى اللحظة.
خريطة التصعيد على امتداد الحدود الجنوبية اللبنانية - إعداد (مختبر المدن) التابع للجامعة الأميركيّة في بيروت
تعليقات: