في المقاربة الأميركية التوازن مطلوب في لبنان وسوريا والعراق (Getty)
تحوز منطقة الشرق الأوسط ولا سيمّا دول المشرق العربي على اهتمام كبير في التصورات الإستراتيجية الدولية والأميركية خصوصاً. تُعقد في الولايات المتحدة الأميركية مؤتمرات كثيرة سرّية وعلنية يتم خلالها وضع استراتيجيات للمرحلة المقبلة، وذلك ما يقوم به الحزبان الديمقراطي والجمهوري، في إطار وضع استراتيجية لما بعد الإنتخابات الرئاسية.
صحيح أن اختلافات كثيرة تُسجل حول مقاربات الحزبين ومساراتهما السياسية. ولكن يبقى هناك التقاء على الأهداف الإستراتيجية وفي أولويتها ضمان أمن إسرائيل، ومحاولة دمجها في محيطها من خلال إتفاقات التطبيع والتي عمل عليها الجمهوريون والديمقراطيون.
لا رغبة بالانفجار
لا مؤشرات تدلّ على أن أحداً من الحزبين يريد الدفع بالمنطقة إلى حرب كبرى، ولذلك فإن الديمقراطيين يبذلون جلّ جهودهم في سبيل الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وتوفير الأجواء المرتبطة بمواصلة المفاوضات لإتمام صفقة وقف الحرب على غزة وإنجاز صفقة تبادل الأسرى، ما يُفترض أن ينعكس بعدها وقفاً للتصعيد في كل الساحات وأهمها الساحة اللبنانية. أما الجمهوريون، ودونالد ترامب تحديداً، فيريد الوصول إلى الرئاسة الأميركية بدون انفجار أي حرب إقليمية، ولذلك يريد من الإسرائيليين إنهاء الحرب قبل وصوله.
لذلك، تتركز الجهود الأميركية حالياً على كيفية منع حصول تصعيد كبير، وهو ما برز في التحرك السريع والخاطف أخيراً، من خلال رسالة رسمية نقلها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى المسؤولين الإسرائيليين حول عدم الإقدام على أي حرب ضد حزب الله لعدم التورط والغرق في حرب طويلة وقابلة لأن تفجّر الوضع في المنطقة.
لم تكن رسالة هوكشتاين وحيدة، بل إن منسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك أيضاً أوصل الرسالة نفسها للإسرائيليين. ترافق ذلك مع زيادة الضغوط الأميركية العملانية عبر سحب حاملتي الطائرات من المنطقة، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن لا تغطّي تل أبيب في أي حرب ضد لبنان. يأتي ذلك بعد رسائل غير مباشرة تم توجيهها للإسرائيليين عبر مسؤولين أميركيين أو تسريبات بأنه لن يكون هناك قدرة لإسرائيل على شن حرب لوحدها ضد الحزب. بحسب ما يقول ديبلوماسيون، فإن هذه المواقف الأميركية هي ترجمة لبوادر تفاهمات أو تقاطعات مع إيران التي أيضاً لا تريد التصعيد وتريد تعزيز وضع الديمقراطيين إنتخابياً.
استراتيجات اميركية
لكن عدم موافقة الأميركيين على أي تصعيد عسكري إسرائيلي في لبنان، لا تعني بالضرورة التساهل السياسي مع إيران وحلفائها في لبنان، سوريا والعراق. وفي هذا السياق تبرز "الإستراتيجيات" التي يتم العمل على إعدادها من قبل جهات أميركية مختلفة. ترتكز هذه الإستراتيجيات على توفير اجواء تعيد خلق ظروف للتطبيع مع الدول العربية من جهة، وتكريس الإستقرار في مناطق مختلفة، أبرزها وقف إطلاق النار في غزة، ومنع حصول حرب في لبنان. وبحال كانت الحرب على غزة مستمرة إلى فترة طويلة فلا بد من فصل جبهة لبنان عنها، وبحال لم يتم النجاح في ذلك، فلا بد بالنسبة إلى هذه الإستراتيجيات، من خلق عناصر ضغط على الحزب ومن خلفه إيران، إما بالمعنى السياسي وإما بالمعنى الإقتصادي. وهذا مسار يبدو أنه ينطبق على دول عديدة.
التوازن السياسي المطلوب
ففي لبنان، كل اللقاءات التي يعقدها معارضون لحزب الله مع مسؤولين أميركيين يتلقون في خلالها نصائح حول ضرورة تشكيل قوة سياسية تشكّل توازناً مع الحزب، أولاً في سبيل رفض الحرب، وثانياً، في سبيل تشكيل توازن سياسي حيال أي تسوية سياسية مقبلة ولا سيما تسوية رئاسية تقود إلى إعادة تشكيل السلطة. من هنا تشهد الساحة اللبنانية إرهاصات لا تزال خجولة حول تحركات سياسية وشعبية وقضائية، بدأت مع توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، ربطاً بمطالبات عديدة حول التوسع بالتحقيق وشموله لملفات وشخصيات أخرى. بالإضافة إلى التحركات الإحتجاجية المستجدة اعتراضاً على الموازنة المالية والتي بدأت مع تحركات العسكريين المتقاعدين، بالإضافة إلى تحضير جهات ومجموعات أخرى لتحركات احتجاجية أيضاً تتصل بالمطالبة بإصلاحات سياسية أو بإنجاز الإستحقاق الرئاسي والتوقف عن تعطيله، خصوصاً أن جهات عديدة كانت سابقاً قد لوحت باللجوء إلى التصعيد أو العصيان المدني على غرار ما لوّح به التيار الوطني الحرّ أو القوات اللبنانية.
الضغط على حزب الله
ليس بعيداً، استأنف الأميركيون سياسة فرض عقوبات على شخصيات مرتبطة بحزب الله، مع الإشارة إلى فرض عقوبات على شركات أو شخصيات متعاونة مع إيران ومع حلفاء لطهران في العالم. آخر العقوبات المتصلة بلبنان فرضت على شخصيات يُشتبه بأن لهم صلة بمنشآت نفطية ولا سيما منشآت الزهراني، وهذه المرة الأولى التي تطال العقوبات فيها قطاعاً حيوياً يخص الدولة اللبنانية، لا بد لذلك أن ينطوي على رسالة بالغة الدلالة. وهو ما لا ينفصل عن التلويح بوضع لبنان على اللائحة الرمادية إلى جانب الضغوط الاقتصادية والمطالبات بإصلاحات مالية واقتصادية وسياسية. كل ذلك يأتي على وقع مطالبات قوى سياسية لبنانية بالبحث في "النظام السياسي" أو تعديل الدستور. تلك الأفكار تنطلق من الحرص على استعادة التوازن لا سيما أن جهات عديدة تشعر أنها مهمشة عن اتخاذ القرارات الأساسية والإستراتيجية في لبنان وتتهم حزب الله بالاستحواذ عليهما.
كل ذلك يدلّ على وجود مساع سياسية لتشكيل ضغط على حزب الله في إطار السعي لتوازن سياسي، ما يجري في لبنان لا بد له أن ينطبق على وضع المنطقة ككل، ولا سيما مناطق النفوذ الإيراني، في العراق وسوريا. فالدولتان تشهدان ضغوطاً ومسارات متشابهة، إما بعمليات تصفية أمنية وعسكرية، أو بمحاولات لتطويق النفوذ الإيراني، سياسياً وعسكرياً واقتصاديا.
في سوريا يحصل ذلك من خلال التعزيزات العسكرية الأميركية في شرق سوريا، الضربات الأمنية والعسكرية التي ينفذها الإسرائيليون إلى جانب عمليات الإغتيال، والانفتاح السياسي العربي على دمشق في إطار السعي لاستقطابها مالياً مقابل ما يُسمى تشكيل عنصر توازن في الحضور العربي مع إيران، وذلك لا بد له أن يحصل بتنسيق مع روسيا ومع أميركا على تناقضاتهما وصراعهما.
تراجع ايراني تكتيكي؟
في العراق، يتضح التركيز الأميركي أيضاً، على الرغم من مفاوضات جدولة مواعيد انسحاب القوات الأميركية أو قوات التحالف الدولي من هناك، وهو مطلب لحلفاء طهران، ولكن ما يقابله هو الدخول في اتفاقات شراكة أمنية وعسكرية بين الأميركيين والعراقيين، وبالتالي إيجاد صيغة جديدة يمكن أن تكون قوات مشتركة ما يحفظ للأميركيين وجودهم العسكري، إلى جانب وجودهم ونفوذهم السياسيين، وهو ما سيكون له إطار سياسي أو شعبي من خلال عودة التحركات الشعبية في المرحلة المقبلة والتي تريد أميركا استثمارها لإحداث تغييرات سياسية أو في بعض التوازنات، إنطلاقاً من معادلة "إسرائيل آمنة ومستقرة... إيران منضبطة". بالتأكيد أن طهران تفهم هذه السياسة والإستراتيجية، وهي حالياً تعتمد مبدأ "التراجع التكتيكي" لتجنّب الحرب، لكنها في المقابل تحتفظ بأوراق كثيرة لتثبيت حضورها ونفوذها السياسي، وإن دخلت عناصر جديدة على "ساحاتها". إنها مرحلة لإعادة خلط الأوراق في المنطقة ككل، أو إعادة "تشكيل وجهتها" إما تنجح وفق أساليب الضغط السياسي والإقتصادي لتجنّب الصراع العسكري الكبير، أو أن حرب الإستنزاف القائمة ستكون مستمرة لفترة طويلة.
تعليقات: